بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الطُّور
الدَّرس: الثَّاني
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:17-28]
– الشيخ : إلى هنا.
الحمدُ للهِ، لمَّا ذكرَ مصيرَ المكذِّبينَ وأنَّها نارُ جهنَّمَ، وأنَّهم يُدفَعون إليها ويُوبَّخونَ، أتبعَ ذلك -سبحانه وتعالى- بذكرِ جزاءِ المتَّقين الَّذين اتَّقوا ربَّهم واتَّقوا ما يسخطُه من الشِّركِ وأنواعِ المعاصي.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} بساتينٌ وافرةُ الأشجارِ مُونِعةُ الثِّمارِ {فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} ممَّا في الجنَّة من أصنافِ اللَّذاتِ من المطاعمِ والمشاربِ والملابسِ والمساكنِ والزَّوجات، سبحانَ الله، سبحانَ الله العظيم، وكثيرًا ما يقرنُ هذا الجزاءَ بالمتَّقين، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الذاريات:15]، كما تقدَّمَ في الذَّاريات، {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} [النبأ:31]، {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد:35]، هذه عاقبةُ المتَّقين، هذه عاقبةُ التَّقوى.
{فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} متمتِّعينَ بما أعطاهم اللهُ من أصنافِ النَّعيمِ في الجنَّة، {فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} وهذه نعمةٌ عظمى وهوَ أنَّه سبحانه وتعالى وقاهم العذابَ وأكرمَهم بالثَّوابِ، {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}، {رَبُّهُمْ} هذا من آثارِ ربوبيَّتِه لهم، هذه الرُّبوبيَّةُ الخاصَّةُ المقتضيةُ للإكرامِ والإنعامِ والإحسانِ، {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}.
قالَ اللهُ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} يعني يُقالُ لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} يعني: تمتَّعوا بما أعطاكم {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} {كُلُوا وَاشْرَبُوا}، {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]، وهنا قالَ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فالقرآنُ متشابهٌ يصدِّقُ بعضُه بعضًا ويفسِّرُ بعضُه بعضًا، لا إله إلَّا الله.
ثمَّ قالَ تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} فذكرَ النَّعيمَ مجملًا، ثمَّ فصَّلَ ذلك النَّعيمَ بأنَّه مشتمِلٌ على المآكلِ والمشاربِ والأزواجِ، كلُّ ذلكَ تفصيلٌ لقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} هذا تفصيلٌ بعدَ الاجمالِ، {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ} الحُوْرُ: جمعُ حوراء، قالَ أهلُ اللُّغةِ والتَّفسيرِ: الحوراءُ هي البيضاءُ الَّتي اشتدَّ سوادُ عيونِها وبياضُها، فهي بيضاءُ البدنِ، شديدةُ سوادِ العينِ شديدةُ بياضِها، حوراءُ، والحَوَرُ في العيونِ، الحَوَرُ صفةٌ في العيونِ، والعِيْنُ هُنَّ عظيمةُ الأعينِ، فهنَّ عظيمةُ الأعينِ شديدةُ بياضِها وشديدةُ سوادِها، وهذا غايةُ جمالِ العينِ، فصغرُ العينِ عيبٌ، {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} قرنَهم اللهُ بزوجاتٍ ممَّا خلقَ لهم في الجنَّةِ، من نساءِ الجنَّةِ الَّتي خُلِقْنَ لهم، وكذلكَ لكلِّ ما شاءَ اللهُ من زوجاتٍ من المؤمنات، فاللهُ يزوِّجُ المؤمناتِ بالمؤمنين {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد:23]، سبحانَ اللهِ العظيمِ.
وذكرَ المجالسَ الَّتي يجلسون عليها، وأنَّها {سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} يعني: تفصيلٌ دقيقٌ، سررٌ ومصفوفةٌ، وقالَ في الآية الأخرى: {سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية:13]، يجلسونَ عليها ويتَّكئون عليها، {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}.
(تفسيرُ الشَّيخِ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} الآياتِ:
لمَّا ذكرَ تعالى عقوبةَ المكذِّبينَ، ذكرَ نعيمَ المتَّقينَ، ليجمعَ بينَ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ
– الشيخ : وهذا منهجٌ، منهجُ القرآنِ أنْ يقرنَ بينَ الوعدِ والوعيدِ، والأغلبُ تقديمُ الوعيدِ، وفي بعضِ المواضعِ يأتي تقدُّمُ الوعدِ، في بعضِ الآياتِ، ترغيبًا وترهيبًا، وكلٌّ منهما يتضمَّنُ، فالتَّرهيبُ يتضمَّنُ الأمرَ والإرشادَ، والتَّرهيبُ يتضمَّنُ النَّهيَ والتَّحذيرَ.
– القارئ : ليجمعَ بينَ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ، فتكونُ القلوبُ بينَ الخوفِ والرَّجاءِ، فقالَ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} لربِّهم، الَّذينَ اتَّقَوا سخطَهُ وعذابَهُ، بفعلِ أسبابِهِ مِن امتثالِ الأوامرِ واجتنابِ النَّواهي. {فِي جَنَّاتِ} أي: بساتينٍ، قد اكتسَتْ رياضُها مِن الأشجارِ الملتفَّةِ، والأنهارِ المتدفِّقةِ، والقصورِ المحدقةِ، والمنازلِ المزخرفةِ، {وَنَعِيمٍ} وهذا شاملٌ لنعيمِ القلبِ والرُّوحِ والبدنِ، {فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أي: معجَبينَ بهِ، متمتِّعينَ على وجهِ الفرحِ والسُّرورِ بما أعطاهم اللهُ مِن النَّعيمِ الَّذي لا يمكنُ وصفُهُ، {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا} [السجدة:17]
– الشيخ : "لا يمكن وصفه" يدل له حديث القدسي، قال الله: (أعددتُ لعباديَ الصالحين ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ).
– القارئ : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17]، {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}، فرزقَهم المحبوبَ، ونجَّاهم مِن المرهوبِ، لَمَّا فعلُوا ما أحبَّهُ اللهُ، وجانبُوا ما يسخطُهُ.
{كُلُوا وَاشْرَبُوا} أي: ممَّا تشتهيهِ أنفسُكم، مِن أصنافِ المآكلِ والمشاربِ اللَّذيذةِ، {هَنِيئًا} أي: متهنِّئينَ بذلكَ على وجهِ الفرحِ والسُّرورِ والبهجةِ والحبورِ. {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: نلْتُم ما نلْتُم بسببِ أعمالِكم الحسنةِ
– الشيخ : إنَّما يكونُ النَّعيمُ هنيئًا إذا أُمِنَتِ المكارهُ، إذا أُمِنَ انقطاعُه وأُمِنَ المنغِّصاتُ، فنعيمُ الدُّنيا مقرونٌ ومشحونٌ بالمنغِّصاتِ، أمَّا نعيمُ الجنَّةِ فهو بريءٌ من هذا كلِّه، فليسَ فيه أيُّ مكدِّرٍ، لا يخافون الموتَ ولا يخافون انقطاعَ النَّعيمِ، ولا يخافون آثارَ ما يأكلون وما يشربون {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} أكلًا هَنِيئًا.
– القارئ : {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: نلْتُم ما نلْتُم بسببِ أعمالِكم الحسنةِ، وأقوالِكم المستحسَنةِ.
{مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} الاتِّكاءُ: هوَ الجلوسُ على وجهِ التَّمكُّنِ والرَّاحةِ والاستقرارِ، والسُّرُرُ: هيَ الأرائكُ المزيَّنةُ بأنواعِ الزَّينةِ مِن اللِّباسِ الفاخرِ والفرشِ الزَّاهيةِ.
ووصفُ اللهِ السررَ بأنَّها مصفوفةٌ؛ ليدلُّ ذلكَ على كثرتِها، وحسنِ تنظيمِها، واجتماعِ أهلِها وسرورِهم بحسنِ معاشرتِهم وملاطفةِ بعضِهم بعضًا، ولمَّا اجتمعَ لهم مِن نعيمِ القلبِ والرُّوحِ والبدنِ ما لا يخطرُ بالبالِ، ولا يدورُ في الخيالِ، مِن المآكلِ والمشاربِ اللَّذيذةِ، والمجالسِ الحسنةِ الأنيقةِ، لم يبقَ إلَّا التَّمتُّعُ بالنِّساءِ اللَّاتي لا يتمُّ سرورٌ إلَّا بهنَّ، فذكرَ اللهُ أنَّ لهم مِن الأزواجِ أكملَ النِّساءِ أوصافًا وخلقًا وأخلاقًا، ولهذا قالَ: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} وهنَّ النِّساءُ اللَّواتي قد جمعْنَ جمالَ الصُّورةِ الظَّاهرةِ وبهائِها، ومِن الأخلاقِ الفاضلةِ، ما يوجبُ أنْ يُحيِّرْنَ بحسنِهنَّ النَّاظرينَ، ويَسلُبْنَ عقولَ العالمينَ، وتكادُ الأفئدةُ أنْ تطيرَ شوقًا إليهنَّ، ورغبةً في وصالِهنَّ، والعِيْنُ: حِسَانُ الأعينِ مَلِيْحَاتُها، الَّتي صفا بياضُها وسوادُها.
– الشيخ : صفا بياضُها وسوادُها، هذه هي الحوراءُ، والعِينُ: ضخمةُ العينِ وكبيرةُ العينِ، الحورُ: جمعُ حوراء، والعِينُ جمعُ عيناء.