الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الطور/(3) تتمة قوله تعالى {والذين امنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان} الآية 21 إلى قوله تعالى {قل تربصوا} الآية 31
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(3) تتمة قوله تعالى {والذين امنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان} الآية 21 إلى قوله تعالى {قل تربصوا} الآية 31

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الطُّور

الدَّرس: الثَّالث

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور:21-31]

– الشيخ : إلى هنا، متواصل الآيات، {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ} إلى هنا، لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله.

يقولُ تعالى مُخبِرًا عمَّا أكرمَ به أولياءَه المتَّقين: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} هذه كرامةٌ من اللهِ لأوليائِه، أنْ يرفعَ ذرِّيَّاتِهم إلى منازلهم وإن كانَتْ ذرِّيَّتُه لم يبلغوها بعملٍ؛ لتقرَّ أعينُهم بذرِّيَّاتهم فيجمعهم سبحانه وتعالى، وهذه من كرامتِه للمتَّقين في الجنَّة أنْ يرفعَ لهم ذرِّيَّاتهم ويلحقَهم بهم في المنازلِ العاليةِ، ولكنْ شرطُ ذلك أن يكونَ الذُّرِّيَّةُ قد آمنوا، {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} وفي قراءةٍ: {وَأتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ}، قالَ اللهُ: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ} يعني: وما نقصْنا الآباءَ من عملهم بسببِ رفعِ ذرِّيَّاتهم إليهم، بل ثوابُهم موفورٌ وأجرُهم لا يلحقُه نقصٌ، {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} كلُّ امرئٍ بعمله لا يَنقصُ منه شيءٌ، {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}.

ثمَّ قالَ تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ} أعطيْناهم {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} من مطاعمِ الجنَّةِ: الفاكهة واللَّحم {وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}، وفي الآيةِ الأخرى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21]، {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}.

{يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا} ومن جملةِ نعيمِ أهلِ الجنَّةِ أنَّهم يتبادلون الكأسَ -كؤوسَ الشَّرابِ- ومنها الخمرُ، يتبادلونها ويتنازعونها، هذا يعطي هذا، {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} خمرٌ لا يغتالُ عقولَهم ولا يُصدِّعُ رؤوسَهم ولا يورثُهم لغوًا {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} بخلافِ خمرِ الدُّنيا فإنَّها تسلبُ العقولَ وتُورثُ العداوةَ والبغضاءَ وتُنطِقُ ألسنةَ شاربيها باللَّغوِ والإثمِ {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ}، {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ}.

ثمَّ أيضًا يخبرُ تعالى عن نعمةٍ أخرى ونعيمٍ آخرَ: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ} يطوفُ على المتَّقين في الجنَّةِ غِلمانٌ، وِلْدانٌ، كما قالَ في الآية الأخرى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} [الواقعة:17-18] يطوفون عليهم بالأشربةِ، يطوفونَ عليهم بالصِّحافِ {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71]، {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} يعني: في غايةٍ من الجمالِ والصَّفاءِ والأخلاقِ الحسنةِ، يطوفون عليهم، {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ}.

ثمَّ قالَ تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} أيضًا هذا من أحوالِ أهلِ الجنَّة، فيها أنَّهم يتساءلون ويتحدَّثون ويتذكَّرون حالَهم في الدُّنيا، يتذكَّرون الدُّنيا ويغتبطون بنعمةِ اللهِ عليهم {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} كنَّا خائفين {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} فتذكَّروا ما كانوا عليه في الدُّنيا من الخوفِ، وأنَّهم كانوا يدعونَ ربَّهم أن يؤمِّنَهم وأن يقيَهم عذابَ السَّمومِ فأجابَ اللهُ دعاءَهم {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} البرُّ اسمٌ من أسماءِ اللهِ، والرَّحيمُ من أسماءِ اللهِ، والبرُّ هو المحسِنُ، سبحانه وتعالى، وهو غفورٌ رحيمٌ، وبرٌّ رحيمٌ، ورؤوفٌ رحيمٌ، سبحانَه وتعالى.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآياتِ:

وهذا مِن تمامِ نعيمِ الجنَّةِ، أنْ ألحقَ اللهُ بهم ذرِّيَّتَهم الَّذين اتَّبعُوهم بإيمانٍ أي: الَّذينَ لحقُوهم بالإيمانِ الصَّادرِ مِن آبائِهم، فصارَتِ الذُّرِّيَّةُ تبعًا لهم بالإيمانِ، ومِن بابِ أولى إذا تبعَتْهم ذرِّيَّتُهم بإيمانِهم الصَّادرِ منهم أنفسَهم، فهؤلاءِ المذكورونَ يُلحِقُهم اللهُ بمنازلِ آبائِهم في الجنَّةِ وإنْ لم يبلغُوها؛ جزاءً لآبائِهم وزيادةً في ثوابِهم، ومعَ ذلكَ لا يُنقِصُ اللهُ الآباءَ مِن أعمالِهم شيئًا، ولَمَّا كانَ ربَّما توهَّمَ متوهِّمٌ أنَّ أهلَ النَّارِ كذلكَ يُلحِقُ اللهُ بهم أبناءَهم وذرِّيَّتَهم، أخبرَ أنَّهُ ليسَ حكمُ الدَّارَينِ حكمًا واحدًا، فإنَّ النَّار دارُ العدلِ، ومِن عدلِهِ تعالى ألَّا يعذِّبَ أحدًا إلَّا بذنبٍ، ولهذا قالَ: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} أي: مُرتهَنٌ بعملِهِ، فلا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى، ولا يحملُ على أحدٍ ذنبَ أحدٍ. فهذا اعتراضٌ مِن فوائدِهِ إزالةُ هذا الوهمِ المذكورِ.

وقولُهُ: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ} أي: أمددْنا أهلَ الجنَّةِ مِن فضلِنا الواسعِ ورزقِنا العميمِ، {بِفَاكِهَةٍ} مِن العِنبِ والرُّمانِ والتُّفاحِ، وأصنافِ الفواكهِ اللَّذيذةِ الزَّائدةِ على ما بهِ يتقوَّتونَ، {وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} مِن كلِّ ما طلبُوه واشتهَتْهُ أنفسُهم، مِن لحمِ الطَّيرِ وغيرِها.

{يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا} أي: تدورُ كاساتُ الرَّحيقِ والخمرِ عليهم، ويتعاطونَها فيما بينَهم، وتطوفُ عليهم الوِلدانُ الـمُخلَّدونَ بأكوابٍ وأباريقَ {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} أي: ليسَ في الجنَّةِ كلامُ لغوٍ، وهوَ الَّذي لا فائدةَ فيهِ {وَلا تَأْثِيمٌ} وهوَ الَّذي فيهِ إثمٌ ومعصيةٌ، وإذا انتفى الأمرانِ ثبتَ الأمرُ الثَّالثُ، وهوَ أنَّ كلامَهم فيها سلامٌ طيِّبٌ طاهرٌ، مُسِرٌّ للنُّفوسِ، مُفرِحٌ للقلوبِ، يتعاشرونَ أحسنَ عشرةٍ، ويتنادمونَ أطيبَ المنادَمةِ، ولا يسمعونَ مِن ربِّهم، إلَّا ما يُقرُّ أعينَهم، ويدلُّ على رضاهُ عنهم ومحبَّتِهِ لهم.

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ} أي: خدمٌ شبابٌ {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} مِن حسنِهم وبهائِهم، يدورونَ عليهم بالخدمةِ وقضاءِ أشغالِهم، وهذا يدلُّ على كثرةِ نعيمِهم وسعتِهِ، وكمالِ راحتِهم.

{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} عن أمورِ الدُّنيا وأحوالِها. {قَالُوا} في ذِكْرِ بيانِ الَّذي أوصلَهم إلى ما هم فيهِ مِن الحَبْرَةِ والسُّرورِ: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ} أي: في دارِ الدُّنيا {فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أي: خائفينَ وَجِلِينَ، فتركْنا مِن خوفِهِ الذُّنوبَ، وأصلحْنا لذلكَ العيوبَ.

{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بالهدايةِ والتَّوفيقِ، {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} أي: العذابَ الحارَّ الشَّديدَ حرُّهُ.

{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} أنْ يقيَنا عذابَ السَّمومِ، ويُوصِلُنا إلى النَّعيمِ، وهذا شاملٌ لدعاءِ العبادةِ ودعاءِ المسألةِ أي: لم نزلْ نتقرَّبُ إليهِ بأنواعِ العباداتِ وندعوهُ في سائرِ الأوقاتِ، {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} فمِن بِرِّهِ بنا ورحمتِهِ إيَّانا، أنالَنا رضاهُ والجنَّةَ، ووقانا سخطَهُ والنَّارَ.

– الشيخ : أحسنْتَ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ.