بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة النَّجم
الدَّرس: الأوَّل
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) [النجم:1-19]
– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله.
افتُتِحَتْ بهذا القسمِ، كما في السُّورتَينِ السَّابقتَينِ: الذَّاريات والطُّور، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} يُقسِمُ اللهُ بالنَّجم، النَّجمُ المعروفُ المشاهَدُ في السَّماء {إِذَا هَوَى}.. {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر:16-18]، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} .. حقٌّ، بل على الحقِّ بل هو مهتَدٍ مستقيمٌ على الطَّريقِ المستقيمِ، {وَمَا غَوَى} والغيُّ: هو ضدُّ الرُّشدِ، والضَّلالُ ضدُّ الهدى، {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ}، {صَاحِبُكُمْ} الرَّسولُ، والخطابُ للمشركين؛ لأنَّ الرَّسولَ رسولٌ إليهم، وهو منهم أيضًا، كما يقولُ اللهُ في الرُّسلِ: {أَخُوهُمْ هُودٌ} [الشعراء:124]، و{أَخُوهُمْ صَالِحٌ} [الشعراء:142]، {أَخُوهُمْ هُودٌ}، وما إلى ذلكَ، {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}.
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما يتكلَّمُ، ما يصدرُ كلامًا.. ويأتيهِ من عندِ اللهِ، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وهذا يدلُّ على أنَّ القرآنَ والسُّنَّةَ كلُّها وحيٌ، ويشهدُ لذلك قولُهُ تعالى: {وَأَنْزَلَ.. عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113]، {وَأَنْزَلَ … عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113]، والكتابُ: القرآنُ، والحكمةُ: السُّنَّةُ، كلُّها منزلةٌ، كلُّها وحيٌ، ولهذا يقولُ بعضُ أهلِ العلمِ: الوَحْيَيْنِ.. وملَكُ الوحي هو جبريلُ -عليه السَّلامُ-، فهو الـمُوكَّلُ بالوحي.
يقولُ: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} فجبريلُ هو الَّذي ينزلُ على النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالوحي، ولهذا قالَ تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى}.. ومحمَّدٌ هو الرَّسولُ بالوحي من البشرِ، فهما رسولانِ: رسولٌ من الملائكةِ إلى الرَّسولِ من البشرِ.
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} يعني: دنا من الرَّسولِ حتَّى كانَ قريبًا، وبالقياسِ مقدارُ قوسَينِ أو أدنى من ذلكَ، {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}.
{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} يعني: جبريلُ أوحى إلى محمَّدٍ عبدِ اللهِ.. {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} بل رأى أمرًا حقيقيًّا ليس كذبًا {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}
{أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} تجادلونَهُ؟ وتشكِّكُون فيما بلَّغَكم وأخبرَ أنَّه رآهُ؟ وأوَّلُ ما نزلَ عليه جبريل هو في غارِ حِراءٍ، كما هوَ مشهورٌ ومعروفٌ في قصَّةِ بَدءِ الوحي، أتاهُ الملَكُ وهو يتحنَّثُ في غارِ حراء ثمَّ.. {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}.
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} يعني: الرَّسولُ رأى جبريلَ مرَّةً ثانيةً، رآهُ في الأرضِ، جاءَ في الحديثِ أنَّه رآهُ مرَّتَينِ: مرَّةً في الأرضِ ومرَّةً في السَّماءِ، رآهُ بالأرضِ وله ستمائة جناحٍ، قد سدَّ الأفقَ من عِظمِه عليه السَّلامُ، والملائكةُ ذو أجنحةٍ كما قالَ اللهُ: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]، سبحانَ الله، فرأى جبريلُ مرَّتَينِ: مرَّةً في الأرض في هذه الصِّفةِ، الرَّسولُ أخبرَ أنَّه رأى جبريلَ مرَّتَينِ، ومرَّةً في السَّماءِ: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} يعني: الرَّسولُ رأى جبريلَ رؤيةً حقيقيَّةً {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} ما زاغَ عنه يمينًا ولا شمالًا، وما تجاوزَ بل رآهُ رؤيةً حقيقيَّةً معتدلةً ليس فيها زيغٌ ولا طغيانٌ، {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}.
{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} فالرَّسولُ -عليه الصَّلاة والسَّلام- {رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} عندَما أُسرِيَ به وعُرِجَ به إلى السَّماءِ رأى آياتٍ، رأى سدرةَ المنتهى وما يغشاها من الأمورِ العظيمةِ والأنوارِ الَّتي اللهُ أعلمُ بها {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} الآياتِ، واللهُ أعلمُ.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:
تفسيرُ سورةِ النَّجمِ وهيَ مكِّيَّةٌ، بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} الآياتِ:
يُقسمُ تعالى بالنَّجمِ عندَ هويِهِ أي: سقوطِهِ في الأفقِ في آخرِ اللَّيلِ عندَ إدبارِ اللَّيلِ وإقبالِ النَّهارِ، لأنَّ في ذلكَ مِن آياتِ اللهِ العظيمةِ، ما أوجبَ أنْ أقسمَ بهِ
– الشيخ : الشَّيخُ فسَّرَ هوي النَّجمِ بغروبِه، فالكوكبُ أو النَّجمُ إذا غربَ كأنَّه سقط، كما يرى النَّاسُ الشَّمسَ إذا صارتْ في المغيب كأنَّها تسقطُ، الشَّيخُ فسَّرَ الهويَ هنا بغروبِ النَّجمِ.
– القارئ : والصَّحيحُ أنَّ النَّجمَ اسمُ جنسٍ شاملٌ للنُّجومِ كلِّها، وأقسمَ بالنُّجومِ على صحَّةِ ما جاءَ بهِ الرَّسولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِن الوحيِ الإلهيِّ، لأنَّ في ذلكَ مناسبةً عجيبةً، فإنَّ اللهَ تعالى جعلَ النُّجومَ زينةً للسَّماءِ، فكذلكَ الوحيُ وآثارُهُ زينةٌ للأرضِ، فلولا العلمُ الموروثُ عن الأنبياءِ، لكانَ النَّاسُ في ظلمةٍ أشدَّ مِن ظلمةِ اللَّيلِ البهيمِ.
والـمُقسَمُ عليهِ تنزيهُ الرَّسولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الضَّلالِ في علمِهِ والغيِّ في قصدِهِ، ويلزمُ مِن ذلكَ أنْ يكونَ مهتديًا في علمِهِ، هاديًا، حسنَ القصدِ، ناصحًا للأمَّةِ بعكسِ ما عليهِ أهلُ الضَّلالِ مِن فسادِ العلمِ، وسوءِ القصدِ.
وقالَ: {صَاحِبُكُمْ} لينبِّهَهم على ما يعرفونَهُ منهُ مِن الصِّدقِ والهدايةِ، وأنَّهُ لا يخفى عليهم أمرُهُ، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} أي: ليسَ نطقُهُ صادرًا عن هوى نفسِهِ.
{إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} أي: لا يتَّبعُ إلَّا ما أوحى اللهُ إليهِ مِن الهدى والتَّقوى في نفسِهِ وفي غيرِهِ.
ودلَّ هذا على أنَّ السُّنَّةَ وحيٌ مِن اللهِ لرسولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كما قالَ تعالى: {وَأَنزلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113]، وأنَّهُ معصومٌ فيما يُخبرُ بهِ عن اللهِ تعالى وعن شرعِهِ، لأنَّ كلامَهُ لا يصدرُ عن هوىً، وإنَّما يصدرُ عن وحيٍ يُوحَى.
ثمَّ ذكرَ المعلِّمَ للرَّسولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهوَ جبريلُ -عليهِ السَّلامُ- أفضلُ الملائكةِ الكرامِ وأقواهم وأكملُهم، فقالَ: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} أي: نزلَ بالوحيِ على الرَّسولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جبريلُ -عليهِ السَّلامُ-، {شَدِيدُ الْقُوَى} أي: شديدُ القوَّةِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، قويٌّ على تنفيذِ ما أمرَهُ اللهُ بتنفيذِهِ، قويٌّ على إيصالِ الوحيِ إلى الرَّسولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومنعِهِ مِن اختلاسِ الشَّياطينِ لهُ، أو إدخالِهم فيهِ ما ليسَ منهُ، وهذا مِن حفظِ اللهِ لوحيِهِ أنْ أرسلَهُ معَ هذا الرَّسولِ القويِّ الأمينِ.
{ذُو مِرَّةٍ} أي: قوَّةٍ، وخلقٍ حسنٍ، وجمالٍ ظاهرٍ وباطنٍ.
{فَاسْتَوَى} جبريلُ -عليهِ السَّلامُ- {وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى} أي: أفقِ السَّماءِ الَّذي هوَ أعلى مِن الأرضِ، فهوَ مِن الأرواحِ العلويَّةِ، الَّتي لا تنالُها الشَّياطينُ ولا يتمكَّنونَ مِن الوصولِ إليها.
{ثُمَّ دَنَا} جبريلُ مِن النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لإيصالِ الوحيِ إليهِ. {فَتَدَلَّى} عليهِ مِن الأفقِ الأعلى {فَكَانَ} في قربِهِ منهُ {قَابَ قَوْسَيْنِ} أي: قدرَ قوسَينِ، والقوسُ معروفٌ، {أَوْ أَدْنَى} أي: أقربَ مِن القوسَينِ، وهذا يدلُّ على كمالِ مباشرتِهِ للرَّسولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرِّسالةِ، وأنَّهُ لا واسطةَ بينَهُ وبينَ جبريلَ -عليهِ السَّلامُ-.
{فَأَوْحَى} اللهُ بواسطةِ جبريلَ -عليهِ السَّلامُ- {إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} أي: الَّذي أوحاهُ إليهِ مِن الشَّرعِ العظيمِ، والنَّبأِ المستقيمِ.
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} أي: اتَّفقَ فؤادُ الرَّسولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورؤيتُهُ على الوحيِ الَّذي أوحاهُ اللهُ إليهِ، وتواطَأَ عليهِ سمعُهُ وقلبُهُ وبصرُهُ، [وهذا دليلٌ على كمالِ الوحيِ الَّذي أوحاهُ اللهُ إليهِ، وأنَّهُ تلقَّاهُ منهُ تلقِّيًا لا شكَّ فيهِ ولا شبهةَ] ولا ريبَ، فلم يكذِّبْ فؤادُهُ ما رأى بصرُهُ، ولم يشكَّ بذلكَ. ويُحتمَلُ أنَّ المُرادَ بذلكَ ما رأى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلةَ أُسرِيَ بهِ مِن آياتِ اللهِ العظيمةِ، وأنَّهُ تيقَّنَهُ حقًّا بقلبِهِ ورؤيتِهِ، هذا هوَ الصَّحيحُ في تأويلِ الآيةِ الكريمةِ.
وقيلَ: إنَّ المرادَ بذلكَ رؤيةُ الرَّسولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لربِّهِ ليلةَ الإسراءِ، وتكليمُهُ إيَّاهُ، وهذا اختيارُ كثيرٍ مِن العلماءِ -رحمَهم اللهُ-، فأثبتُوا بهذا رؤيةَ الرَّسولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لربِّهِ في الدُّنيا، ولكنَّ الصَّحيحَ القولُ الأوَّلُ وأنَّ المُرادَ بهِ جبريلُ -عليهِ السَّلامُ-، كما يدلُّ عليهِ السِّياقُ، وأنَّ محمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى جبريلَ في صورتِهِ الأصليَّةِ الَّتي هوَ عليها مرَّتَينِ: مرَّةً في الأفقِ الأعلى تحتَ السَّماءِ الدُّنيا كما تقدَّمَ، والمرَّةَ الثَّانيةَ فوقَ السَّماءِ السَّابعةِ ليلةَ أُسرِيَ برسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولهذا قالَ: {وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى} أي: رأى محمَّدٌ جبريلَ مرَّةً أخرى، نازلًا إليهِ.
{عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} وهيَ شجرةٌ عظيمةٌ جدًّا، فوقَ السَّماءِ السَّابعةِ، سُمِّيَتْ سدرةَ المُنتهَى، لأنَّهُ ينتهي إليها ما يَعرجُ مِن الأرضِ، وينزلُ إليها ما ينزلُ مِن اللهِ، مِن الوحيِ وغيرِهِ، أو لانتهاءِ علمِ المخلوقاتِ إليها أي: لكونِها فوقَ السَّمواتِ والأرضِ، فهيَ المُنتهَى في علوِّها أو لغيرِ ذلكَ، واللهُ أعلمُ.
فرأى محمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جبريلَ في ذلكَ المكانِ، الَّذي هوَ محلُّ الأرواحِ العلويَّةِ الزَّاكيةِ الجميلةِ، الَّتي لا يقربُها شيطانٌ ولا غيرُهُ مِن الأرواحِ الخبيثةِ.
عندَ تلكَ الشَّجرةِ {جَنَّةُ الْمَأْوَى} أي: الجنَّةُ الجامعةُ لكلِّ نعيمٍ، بحيثُ كانَتْ محلًّا تنتهي إليهِ الأماني، وترغبُ فيهِ الإراداتُ، وتأوي إليها الرَّغباتُ، وهذا دليلٌ على أنَّ الجنَّةَ في أعلى الأماكنِ، وفوقَ السَّماءِ السَّابعةِ.
{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} أي: يغشاها مِن أمرِ اللهِ، شيءٌ عظيمٌ لا يعلمُ وصفَهُ إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ.
{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} أي: ما زاغَ يمنةً ولا يسرةً عن مقصودِهِ {وَمَا طَغَى} أي: وما تجاوزَ البصرُ، وهذا كمالُ الأدبِ منهُ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ، أنْ قامَ مقامًا أقامَهُ اللهُ فيهِ، ولم يقصِّرْ عنهُ ولا تجاوزَهُ ولا حادَ فيهِ، وهذا أكملُ ما يكونُ مِن الأدبِ العظيمِ، الَّذي فاقَ فيهِ الأوَّلِينَ والآخرِينَ، فإنَّ الإخلالَ يكونُ بأحدِ هذهِ الأمورِ: إمَّا ألَّا يقومَ العبدُ بما أُمِرَ بهِ، أو يقومَ بهِ على وجهِ التَّفريطِ، أو على وجهِ الإفراطِ، أو على وجهِ الحيدةِ يمينًا وشمالًا، وهذهِ الأمورُ كلُّها منتفيةٌ عنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}
– الشيخ : إلى آخرِهِ.