الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة النجم/(3) من قوله تعالى {إن الذين لا يؤمنون بالأخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى} الآية 27 إلى قوله تعالى {الذين يجتنبون كبائر الإثم} الآية 32
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(3) من قوله تعالى {إن الذين لا يؤمنون بالأخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى} الآية 27 إلى قوله تعالى {الذين يجتنبون كبائر الإثم} الآية 32

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  النَّجم

الدَّرس: الثَّالث

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:27-32]

– الشيخ : إلى هنا، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ.

الحمدُ للهِ، يخبرُ تعالى عن الكفَّار الَّذين من كفرِهم أنَّهم لا يؤمنون بالدَّار الآخرةِ، لا يؤمنون بالبعثِ والنُّشورِ، ومن كفرِهم أنَّهم يقولون: "الملائكةُ بناتُ اللهِ"، يسمُّون الملائكةَ إناثًا، {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} هذه الدَّعاوى لا مستندَ لها من عقلٍ ولا شرعٍ، ما هي إلَّا الظَّنُّ الكاذبُ، الظَّنُّ الَّذي هو من وحي الشَّيطانِ إلى عقولِهم الفاسدةِ، {لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} الظَّنُّ الَّذي من هذا النَّوعِ لا يُوصِلُ إلى هدىً ولا يُوصِلُ إلى خيرٍ ولا يُغني عن أهلِه شيئًا، {لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}.

قالَ اللهُ لنبيِّه: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى} أعرضْ عنهم، واصبرْ على أذاهم، فاللهُ ناصرُكَ ومؤيِّدُكَ وخاذلُ أعدائِكَ، ومنتقمٌ منهم، {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}، {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى} تولَّى: أعرضَ عن الهدى، {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} هذا هو أسوَأُ المسالكِ وأسوَأُ الطَّرائقِ من لم تكنْ له غايةٌ إلَّا هذه الدُّنيا الذَّاهبة الزَّائلة، {وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}.

{ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} هذا هو غايةُ علمِهم، علمُهم في شأنِ هذهِ الدُّنيا كما قالَ تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، {وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}.

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} هو أعلمُ بعبادِه، يعلمُ المؤمنَ من الكافرِ، والضَّالَّ من المهتدي، {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى}.

ثمَّ قالَ تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} السَّمواتُ والأرضُ وما فيهنَّ كلُّهنَّ خلقُه وهنَّ ملكُه لا شريكَ له في ربوبيَّتِه ولا إلهيَّتِه، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} واللهُ تعالى خلقَ السَّمواتِ والأرضَ لحكمةِ الابتلاءِ، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} كما قالَ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7].

{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} يجزيهم بأحسنِ ممَّا عملوا يضاعفُ لهم الحسناتِ ويجزيهم الحسنى الَّتي هيَ الجنَّةُ.

ومن صفةِ هؤلاءِ الصَّالحين أنَّهم {يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} يَجْتَنِبُونَها ولا يقربونها ولا يقترفونها، {يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} اللَّممُ: هي صغائرُ الذُّنوبِ، هذه لابدَّ أن تعرضَ للإنسانِ مهما كان صالحًا، لابدَّ، {إِلَّا اللَّمَمَ}، {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ… هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} اللهُ أعلمُ بحقائقِ عبادِه وبمآلاتِهم، {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}

– طالب: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}

– الشيخ : لا إله إلَّا الله، {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ..}

– طالب: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}

– الشيخ : {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} هذه بشارةٌ لمن ابتُلِيَ ببعضِ الذُّنوب من المؤمنين، وعدَهم بالمغفرةِ، {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [آل عمران:136]، {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} هو أعلمُ بمواضع فضلِه، يغفرُ لمن يشاءُ ويعذِّبُ مَن يشاءُ، {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ يومَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، يومَ خلقَ اللهُ آدمَ، خلقَه من التُّرابِ هو يعلمُ حالَه وحالَ ذرِّيَّتَه، وهو كذلك أعلمُ بعبادِه يومَ كانوا أَجِنَّةً فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهمْ، فعلمُ اللهِ محيطٌ بالعبادِ من مبدئِهم.. هو أعلمُ بعبادِه يومَ بدأَ خلقَهم الأوَّلَ، وبدأَ خلقَهم الثَّاني في بطونِ أمَّهاتِهم.

قالَ اللهُ: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} اللهُ هو الأعلمُ بأحوالِ عبادِه، هو أعلمُ بالمتَّقي من غيرهِ، وهو أعلمُ بمن هو أتقى من غيرِه، {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}، وهو الَّذي يزكِّي مَن يشاءُ {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء:49] فعلى العبدِ أنْ يُقِرَّ على نفسِه بالتَّقصيرِ وبالذَّنبِ فيلجأ إلى ربِّه بطلبِ المغفرةِ، {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} يعلمُ التَّقيَّ من غيرِه، واللهُ يذمُّ الَّذين يزكُّون أنفسَهم ويعظِّمونها، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:49]

 

 (تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} الآياتَ:

يعني أنَّ المشركينَ باللهِ المكذِّبينَ لرسلِهِ، الَّذين لا يؤمنونَ بالآخرةِ، وبسببِ عدمِ إيمانِهم بالآخرةِ تجرَّؤُوا على ما تجرَّؤُوا عليهِ مِن الأقوالِ والأفعالِ المحادَّةِ للهِ ولرسولِهِ مِن قولِهم: "الملائكةُ بناتُ اللهِ" فلم ينزِّهُوا ربَّهم عن الولادةِ، ولم يكرِّمُوا الملائكةَ ويُجلُّوهم عن تسميتِهم إيَّاهم إناثًا، والحالُ أنَّهُ ليسَ لهم بذلكَ علمٌ، لا عن اللهِ ولا عن رسولِهِ، ولا دلَّتْ على ذلكَ الفِطَرُ والعقولُ، بل العلمُ كلُّهُ دالٌّ على نقيضِ قولِهم، وأنَّ اللهَ منزَّهٌ عن الأولادِ والصَّاحبةِ، لأنَّهُ الواحدُ الأحدُ، الفردُ الصَّمدُ، الَّذي لم يلدْ ولم يُولَدْ، ولم يكنْ لهُ كفوًا أحدٌ، وأنَّ الملائكةَ كرامٌ مقرَّبونَ إلى اللهِ، قائمونَ بخدمتِهِ {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] والمشركونَ إنَّما يتَّبعونَ في ذلكَ القولِ القبيحِ، وهوَ الظَّنُّ الَّذي لا يُغني مِن الحقِّ شيئًا، فإنَّ الحقَّ لا بدَّ فيهِ مِن اليقينِ المستفادِ مِن الأدلَّةِ والبراهينِ السَّاطعةِ.

ولمَّا كانَ هذا دأبُ هؤلاءِ المذكورينَ أنَّهم لا غرضَ لهم في اتِّباعِ الحقِّ، وإنَّما غرضُهم ومقصودُهم، ما تهواهُ نفوسُهم، أمرَ اللهُ رسولَهُ بالإعراضِ عمَّن تولَّى عن ذكرِهِ، الَّذي هوَ الذِّكرُ الحكيمُ والقرآنُ العظيمُ، فأعرضَ عن العلومِ النَّافعةِ، {وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}، فهذا مُنتهَى إرادتِهِ، ومِن المعلومِ أنَّ العبدَ لا يعملُ إلَّا للشَّيءِ الَّذي يريدُهُ، فسعيُهم مقصورٌ على الدُّنيا ولذَّاتِها وشهواتِها، كيفَ حصلَتْ حصَّلُوها، وبأيِّ طريقٍ سنحَتْ ابتدرُوها، {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} أي: هذا منتهى علمِهم وغايتُهُ، وأمَّا المؤمنونَ بالآخرةِ، المصدِّقونَ بها، أولو الألبابِ والعقولِ، فهمَّتُهم وإرادتُهم للدَّارِ الآخرةِ، وعلومُهم أفضلُ العلومِ وأجلُّها، وهوَ العلمُ المأخوذُ مِن كتابِ اللهِ وسنَّةِ رسولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، واللهُ تعالى أعلمُ بمن يستحقُّ الهدايةَ فيهديهِ، ممَّن لا يستحقُّ ذلكَ فيكلَهُ إلى نفسِهِ ويخذلَهُ، فيَضلَّ عن سبيلِ اللهِ، ولهذا قالَ تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} فيضعُ فضلَهُ حيثُ يعلمُ المحلَّ اللَّائقَ بهِ.

قالَ اللهُ تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الآياتِ:

يخبرُ تعالى أنَّهُ مالكُ الملكِ، المتفرِّدُ بملكِ الدُّنيا والآخرةِ، وأنَّ جميعَ ما فيهِ ملكٌ للهِ، يتصرَّفُ فيهم تصرُّفَ الملكِ العظيمِ، في عبيدِهِ ومماليكِهِ، ينفذُ فيهم قدرُهُ، ويجري عليهم شرعُهُ، ويأمرُهم وينهاهم، ويجزيهم على ما أمرَهم بهِ ونهاهم عنهُ، فيثيبُ المطيعَ، ويعاقبُ العاصيَ، ليجزيَ الَّذين أساؤُوا العملَ السَّيِّئاتِ مِن الكفرِ فما دونَهُ مِن المعاصي وما عملُوهُ مِن أعمالِ الشَّرِّ بالعقوبةِ الفظيعةِ.

{وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا} في عبادةِ اللهِ تعالى، وأحسنُوا إلى خلقِ اللهِ، بأنواعِ المنافعِ {بِالْحُسْنَى} أي: بالحالةِ الحسنةِ في الدُّنيا والآخرةِ، وأكبرُ ذلكَ وأجلُّهُ رضا ربِّهم، والفوزُ بنعيمِ الجنَّةِ.

ثمَّ ذكرَ وصفَهم فقالَ: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} أي: يفعلونَ ما أمرَهم اللهُ بهِ مِن الواجباتِ، الَّتي يكونُ تركُها مِن كبائرِ الذُّنوبِ، ويتركونَ المحرَّماتِ الكبارَ، مِن الزِّنى، وشربِ الخمرِ، وأكلِ الرِّبا، والقتلِ، ونحوِ ذلكَ مِن الذُّنوبِ العظيمةِ، {إِلا اللَّمَمَ} وهيَ الذُّنوبُ الصِّغارُ، الَّتي لا يصرُّ صاحبُها عليها، أو الَّتي يلمُّ بها العبدُ المرَّةَ بعدَ المرَّةِ، على وجهِ النُّدرةِ والقلَّةِ، فهذهِ ليسَ مجرَّدُ الإقدامِ عليها مخرجًا للعبدِ مِن أنْ يكونَ مِن المحسِنينَ، فإنَّ هذهِ معَ الإتيانِ بالواجباتِ وتركِ المحرَّماتِ، تدخلُ تحتَ مغفرةِ اللهِ الَّتي وسعَتْ كلَّ شيءٍ، ولهذا قالَ: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} فلولا مغفرتُهُ لهلكَتْ البلادُ والعبادُ، ولولا عفوُهُ وحلمُهُ لسقطَتِ السَّماءُ على الأرضِ، ولما تركَ على ظهرِها مِن دابَّةٍ. ولهذا قالَ النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الصَّلواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ، مكفِّراتٌ لِما بينَهنَّ، ما اجتُنِبَتِ الكبائرُ).

وقولُهُ: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} أي: هوَ تعالى أعلمُ بأحوالِكم كلِّها، وما جبلَكم عليهِ، مِن الضَّعفِ والخورِ، عن كثيرٍ ممَّا أمرَكم اللهُ بهِ، ومِن كثرةِ الدَّواعي إلى فعلِ المحرَّماتِ، وكثرةِ الجواذبِ إليها، وعدمِ الموانعِ القويَّةِ، والضَّعفُ موجودٌ مشاهَدٌ منكم حينَ أخرجَكم  اللهُ مِن الأرضِ، وإذْ كنْتُم في بطونِ أمَّهاتِكم، ولم يزلْ موجودًا فيكم، وإنْ كانَ اللهُ تعالى قد أوجدَ فيكم قوَّةً على ما أمرَكم بهِ، ولكنَّ الضَّعفَ لم يزلْ، فلعلمِهِ تعالى بأحوالِكم هذهِ، ناسبَتِ الحكمةُ الإلهيَّةُ والجودُ الرَّبَّانيُّ، أنْ يتغمَّدَكم برحمتِهِ ومغفرتِهِ وعفوِهِ، ويغمرَكم بإحسانِهِ، ويزيلَ عنكم الجرائمَ والمآثمَ، خصوصًا إذا كانَ العبدُ مقصودُهُ مرضاةُ ربِّهِ في جميعِ الأوقاتِ، وسعيُهُ فيما يقرِّبُ إليهِ في أكثرِ الآناتِ، وفرارُهُ مِن الذُّنوبِ الَّتي يتمقَّتُ بها عندَ مولاهُ، ثمَّ تقعُ منهُ الفَلْتَةُ بعدَ الفَلْتَةِ، فإنَّ اللهَ تعالى أكرمُ الأكرمينَ وأجودُ الأجودينَ، أرحمُ بعبادِهِ مِن الوالدةِ بولدِها، فلا بدَّ لمثلِ هذا أنْ يكونَ مِن مغفرةِ ربِّهِ قريبًا وأنْ يكونَ اللهُ لهُ في جميعِ أحوالِهِ مجيبًا، ولهذا قالَ تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} أي: تخبرونَ النَّاسَ بطهارتِها على وجهِ التَّمدُّحِ عندَهم {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} فإنَّ التَّقوى محلُّها القلبُ، واللهُ هوَ المُطَّلِعُ عليهِ المُجازِي على ما فيهِ مِن برٍّ وتقوىً، وأمَّا النَّاسُ، فلا يُغنونَ عنكم مِن اللهِ شيئًا.

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى}

– الشيخ : في هذه الآيةِ وغيرِها أنَّ الذُّنوبَ قسمان: كبائرٌ وصغائرٌ، والعلماءُ اختلفُوا في الكبائرِ وتمييزِها عن الصَّغائرِ، فقيلَ: إنَّ الكبائرَ.. منهم من ضبطَ الكبائرَ بالعدِّ، قالَ: إنَّها كذا سبع، أو سبعين، أو أكثر من ذلك، ومنهم من ضبطَها بالحدِّ، يعني جعلَ لها ضابطًا، ومِن أقربِ ما قيلَ في حدِّ الكبيرةِ أنَّه ما تُوعِّدَ عليها بغضبٍ أو نارٍ أو لعبٍ أو ترتَّبَ عليها حدٌّ من الحدودِ في الدُّنيا كالقطعِ كقطعِ يدِ السَّارق وجلدِ الزَّاني وما أشبهَ ذلك، فهذهِ كبائرٌ، وما لم يأتِ فيه شيءٌ من هذا فهي من الصَّغائر، فالزِّنى كبيرةٌ، السَّرقةُ كبيرةٌ، وما لا يوجبُ القطعَ من أخذِ مالِ الغيرِ فهو صغيرةٌ، وهكذا، ولهذا قالَ تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}

وذكرَ الشَّيخُ الحديثَ: (الصَّلواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ، مكفِّراتٌ لِما بينَهنَّ، إذا اجتُنِبَتِ الكبائرُ) يعني: فعُلِمَ أنَّ الأعمالَ الصَّالحةَ والفرائضَ إنَّما تُكفِّرُ الصَّغائرَ، حتَّى قيلَ: بشرطِ اجتنابِ الكبائرِ، ولكنَّ الصَّغائرَ إذا أصرَّ عليها صاحبُها وداومَ عليها فإنَّها تصيرُ كبيرةً، لأنَّها تتكاثرُ، والإصرارُ عليها يقترنُ به الاستهانةُ بالذَّنبِ، فالَّذي يفعلُ الذَّنبَ مرَّةً ومرَّةً وبتكرارٍ هذا لم يقتصرْ ذنبُهُ على فعلِ هذهِ السَّيِّئةِ، بل اقترنَ بها الاستهانةُ بمعصيةِ اللهِ والاستخفافُ بأمرِ اللهِ، فالواجبُ على العبدِ ألَّا يستهينَ بشيءٍ من معاصي اللهِ، على المسلمِ أن يجتنبَ الذُّنوبَ كلَّها صغيرَها وكبيرَها، وألَّا يتهاونَ بشيءٍ من ذلكَ، وإذا ابتُلِيَ بشيءٍ من ذلك بادرَ إلى التَّوبةِ والاستغفارِ والرُّجوعِ إلى الله، ولهذا جاءَ في الأثرِ: "لا صغيرةَ معَ الإصرارِ، ولا كبيرةَ معَ الاستغفارِ" يعني: الكبائرُ تهونُ وتصغرُ بالاستغفارِ والتَّوبةِ والنَّدمِ والرُّجوعِ إلى الله، والصَّغائرُ تعظمُ بالإصرارِ عليها والمداومةِ عليها.

 

– طالب: أحسنَ اللهُ إليكم، الصَّنعانيُّ ذكرَ حديثَ الأعرابيِّ الَّذي جَاءَ إلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْكَبَائِرُ؟

قالَ: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ إلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا كَبَائِرُ.

– الشيخ : هذا رأيٌ، صحيحٌ، لكن هذا مردودٌ، هذا مردودٌ لأنَّ القرآنَ والسُّنَّةَ صريحةٌ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء:31]

– طالب: نقل الإجماع ابن القيِّم في مواضع

– الشيخ : الإجماعُ على أيش؟

– طالب: على أنَّ الذُّنوبَ صغائرُ وكبائرُ

– الشيخ : قطعًا هذا، هذا صريحُ القرآنِ والسُّنَّة

– طالب: الإمامُ الصَّنعانيُّ قالَ: وَذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ إلَى أَنَّهَا تَنْقَسِمُ إلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء:31]

– الشيخ : هذا هو الصَّوابُ

– القارئ : أنا قلْتُ: ولا يخفى أنَّهُ لا دليلَ على تسميةِ شيءٍ مِن المعاصي صغائرُ، وهوَ محلُّ النِّزاعِ، يعني: ابنُ القيِّمِ استدلَّ بقولِهِ تعالى وقالَ {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} [الكهف:49] تسميةٌ

– الشيخ : له وجهٌ، وإثباتُ الكبائرِ يتضمَّنُ وجودَ صغائرَ، فلو لم تكنْ صغائرُ لم يكنْ هناك كبائرُ، فقولُه: (إذا اجتُنِبَتِ الكبائرُ)، (كفَّارةٌ لما بينَهنَّ إذا اجتُنِبَتِ الكبائرُ) إذا الـمُكَفَّرةُ، الذُّنوبُ الـمُكَفَّرةُ هي ما سوى الكبائر هي الـمُكَفَّرةُ بالفرائضِ.