بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة القمر
الدَّرس: الثَّاني
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:9-22]
– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله وحدَهُ لا شريكَ له، له الملكُ ولهُ الحمدُ.
يخبرُ تعالى عن قومِ نوحٍ، نوح نبيُّ اللهِ، أوَّلُ الرُّسلِ، ودائمًا إذا ذكرَ الرُّسلَ بدأَ بذكرِ نوحٍ {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163]، يذكرُ اللهُ خبرَ قومِ نوحٍ وتكذيبِهم لنبيِّهم وما جرى عليهم من عقوبةِ اللهِ؛ تحذيرًا لكفَّار قريشٍ ومن معَهم من الإصرارِ على التَّكذيبِ، {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} يعني: قبلَ قومِكَ، قبلَ المشركينَ من العربِ، {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} نوحٌ -عليهِ السَّلامُ-، {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} هذهِ عادةُ المكذِّبينَ كما تقدَّمَ: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52]، {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ}.
{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} يستنصرُ بربِّه {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء:76]، {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75]، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} انتصرْ يا ربِّي، انتصرْ لعبدِكَ وأوليائِكَ، انتصرْ لهم من عدوِّهم الظَّالمينَ المكذِّبينَ.
فأجابَ اللهُ دعاءَهُ، قالَ تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} ماءٌ لا ينزلُ نزولَ المطرِ نقطًا كبيرةً أو صغيرةً، لا، ينزلُ بشدَّةٍ وبقوَّةٍ، {مُنْهَمِرٍ} منصَبٍّ انصبابًا عنيفًا، {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ…} السَّماءُ من فوق والأرضُ من تحت، الماءُ ينبعُ من عيونِ الأرضِ، والماءُ من السَّماءِ ينزلُ هطَّالًا، {فَالْتَقَى الْمَاءُ} الْتَقَى الْمَاءُ، ماءُ السَّماءِ وماءُ الأرضِ {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ}.
{وَحَمَلْنَاهُ} يقولُ: حملْنا نوحًا ومَن معَه {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} وهيَ السَّفينةُ الَّتي أمرَهُ اللهُ بصنعِها {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [المؤمنون:27]، فكانَ برعايةِ اللهِ في صنعِه وبعدَ ركوبِه للسَّفينةِ، كانوا جميعًا في رعايةِ اللهِ {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} هذه السَّفينةُ جزاءٌ لِمَنْ كُفِرَ وهو نوحٌ، نوحٌ كُفِرَ، كفرَ بهِ قومُهُ، {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ}
قالَ اللهُ: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} يعني: هذه السَّفينةُ بقيَتْ آيةً يعتبرُ بها النَّاسُ ويعرفون القصَّةَ، {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} هل من متذكِّرٍ؟ هل من متذكِّرٍ يخافُ اللهَ ويتذكَّرُ ما أوجبَ اللهُ عليه ويحذرُ؟
قالَ اللهُ: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} هذا أسلوبُ تهويلٍ {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي} نعم كانَ عذابُ اللهِ شديدًا وهائلًا وعظيمًا ورهيبًا، {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}.
ثمَّ قالَ تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} يسَّرَ اللهُ هذا القرآنَ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ.. فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} [الدخان:58-59]، فهذا القرآنُ ميسَّرٌ لطالبِ الهدى، مَن طلبَ الهدى وجدَهُ في القرآنِ ميسَّرًا، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} للتَّذكير والتَّذكُّرِ، للتَّذكير بهِ وللتَّذكُّر بهِ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}هَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ هذه دعوةٌ، هل من متذكِّرٍ؟ فهذهِ مائدةُ القرآنِ معروضةٌ لطالبِ الهدايةِ.
ثمَّ قالَ تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي: وكَذَّبَتْ عَادٌ أيضًا، كما كذَّبَ قومُ نوحٍ كذَّبَتْ عادٌ، عادٌ قومُ هودٍ، كذَّبُوا نبيَّهم هودًا -عليهم السَّلامُ-، {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} كانَ أمرًا عظيمًا! وذلكَ أنَّ اللهَ أرسلَ عليهم ريحًا صرصرًا في يومِ نحسٍ، يوم نحسٍ، يوم شرٍّ وعذابٍ، {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} دامَتْ عليهم هذه الرِّيحُ العاتيةُ {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:7]، كما أخبرَ اللهُ تعالى، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16]، {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} هذه صفةُ عذابِهم، هذه الرِّيحُ العاتيةُ تنزعُ في النَّاس وترفعُهم وتنكِّسُهم حتَّى صارُوا جثثًا هامدةً وصرعى {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} وهذا يُنبِئُ عن طولِهم، أنَّهم كانوا طوالًا، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} مُقتلَعٌ من أصلِه {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ … خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7] في الآية الأخرى.
قالَ اللهُ: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وهذا المعنى يُثنَّى في هذه السُّورةِ مرَّاتٍ، واللهُ أعلمُ.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} الآياتِ:
لمَّا ذكرَ تباركَ وتعالى حالَ المكذِّبِينَ لرسولِهِ، وأنَّ الآياتِ لا تنفعُ فيهم، ولا تُجدي عليهم شيئًا، أنذرَهم وخوَّفَهم بعقوباتِ الأممِ الماضيةِ المكذِّبةِ للرُّسلِ، وكيفَ أهلكَهم اللهُ وأحلَّ بهم عقابَهُ.
فذكرَ قومَ نوحٍ، أوَّلِ رسولٍ بعثَهُ اللهُ إلى قومٍ يعبدونَ الأصنامَ، فدعاهم إلى توحيدِ اللهِ وعبادتِهِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، فامتنعُوا مِن تركِ الشِّركِ وقالُوا: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]
ولم يزلْ نوحٌ يدعوهم إلى اللهِ ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا، فلم يزدْهم ذلكَ إلَّا عنادًا وطغيانًا، وقدحًا في نبيِّهم، ولهذا قالَ هنا: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ} لزعمِهم أنَّ ما هم عليهِ وآباؤُهم مِن الشِّركِ والضَّلالِ هوَ الَّذي يدلُّ عليهِ العقلُ، وأنَّ ما جاءَ بهِ نوحٌ –عليهِ السَّلامُ- جهلٌ وضلالٌ، لا يصدرُ إلَّا مِن المجانينِ، وكذَّبُوا في ذلكَ وقلبُوا الحقائقَ الثَّابتةَ شرعًا وعقلًا؛ فإنَّ ما جاءَ بهِ هوَ الحقُّ الثَّابتُ، الَّذي يُرشِدُ العقولَ النَّيِّرةَ المستقيمةَ إلى الهدى والنُّورِ والرُّشدِ، وما هم عليهِ جهلٌ وضلالٌ مبينٌ، وقولُهُ: {وَازْدُجِرَ} أي: زجرَهُ قومُهُ وعنَّفُوهُ لمَّا دعاهم إلى اللهِ تعالى، فلم يكفِهم -قبَّحَهم اللهُ- عدمُ الإيمانِ بهِ، ولا تكذيبُهم إيَّاهُ، حتَّى أوصلُوا إليهِ مِن أذيَّتِهم ما قدرُوا عليهِ، وهكذا جميعُ أعداءِ الرُّسلِ، هذهِ حالُهم معَ أنبيائِهم.
فعندَ ذلكَ دعا نوحٌ ربَّهُ فقالَ: {أَنِّي مَغْلُوبٌ} لا قدرةَ لي على الانتصارِ منهم، لأنَّهُ لم يؤمنْ مِن قومِهِ إلَّا القليلُ النَّادرُ، ولا قدرةَ لهم على مقاومةِ قومِهم، {فَانْتَصِرْ} اللَّهمَّ لي منهم، وقالَ في الآيةِ الأخرى: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] الآياتِ.
فأجابَ اللهُ سؤالَهُ فانتصرَ لهُ مِن قومِهِ، قالَ تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} أي: كثيرٍ جدًّا متتابعٍ.
{وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا} فجعلَتِ السَّماءُ ينزلُ منها مِن الماءِ شيءٌ خارقٌ للعادةِ، وتفجَّرَتِ الأرضُ كلُّها، حتَّى التَّنُّورُ الَّذي لم تجرِ العادةُ بوجودِ الماءِ فيهِ، فضلًا عن كونِهِ منبَعًا للماءِ، لأنَّهُ موضعُ النَّارِ.
{فَالْتَقَى الْمَاءُ} أي: ماءُ السَّماءِ والأرضِ {عَلَى أَمْرٍ} مِن اللهِ لهُ بذلكَ، {قَدْ قُدِرَ} أي: قد كتبَهُ اللهُ في الأزلِ وقضاهُ، عقوبةً لهؤلاءِ الظَّالمينَ الطَّاغينَ.
{وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} أي: ونجَّيْنا عبدَنا نوحًا على السَّفينةِ ذاتِ الألواحِ والدُّسرِ أي: المساميرُ الَّتي قد سُمِّرَتْ بها ألواحُها وشُدَّ بها أسرُها.
{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي: تجري بنوحٍ ومَن آمنَ معَهُ، ومَن حملَهُ مِن أصنافِ المخلوقاتِ برعايةٍ مِن اللهِ، وحفظٍ منهُ لها عن الغرقِ ونظرٍ وكلاءةٍ منهُ تعالى، وهوَ نعمَ الحافظُ الوكيلُ، {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} أي: فعلْنا بنوحٍ ما فعلْنا مِن النَّجاةِ مِن الغرقِ العامِّ، جزاءً لهُ حيثُ كذَّبَهُ قومُهُ وكفرُوا بهِ فصبرَ على دعوتِهم، واستمرَّ على أمرِ اللهِ فلم يردَّهُ عنهُ رادٌّ ولا صدَّهُ عنهُ صادٌّ، كما قالَ تعالى عنهُ في الآيةِ الأخرى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود:48] الآيةَ.
ويُحتمَلُ أنَّ المُرادَ: أنَّا أهلكْنا قومَ نوحٍ، وفعلْنا بهم ما فعلْنا مِن العذابِ والخزيِ، جزاءً لهم على كفرِهم وعنادِهم، وهذا متوجِّهٌ على قراءةِ مَن قرأَها بفتحِ الكافِ.
{وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي: ولقد تركْنا قصَّةَ نوحٍ معَ قومِهِ آيةً يتذكَّرُ بها المتذكِّرونَ، على أنَّ مَن عصى الرُّسلَ وعاندَهم أهلكَهُ اللهُ بعقابٍ عامٍّ شديدٍ، أو أنَّ الضَّميرَ يعودُ إلى السَّفينةِ وجنسِها، وأنَّ أصلَ صنعتِها تعليمٌ مِن اللهِ لرسولِهِ نوحٍ -عليهِ السَّلامُ-، ثمَّ أبقى اللهُ تعالى صنعتَها وجنسَها بينَ النَّاسِ؛ ليدلَّ ذلكَ على رحمتِهِ بخلقِهِ وعنايتِهِ، وكمالِ قدرتِهِ، وبديعِ صنعتِهِ، {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ؟ أي: فهل مِن متذكِّرٍ للآياتِ، ملقَ ذهنَهُ وفكرتَهُ لِما يأتيهِ منها، فإنَّها في غايةِ البيانِ واليُسرِ؟
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي: فكيفَ رأيْتَ أيُّها المخاطَبُ عذابَ اللهِ الأليمَ وإنذارَهُ الَّذي لا يُبقي لأحدٍ عليهِ حجَّةً.
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي: ولقد يسَّرْنا وسهَّلْنا هذا القرآنَ الكريمَ، ألفاظَهُ للحفظِ والأداءِ، ومعانيهِ للفهمِ والعلمِ، لأنَّهُ أحسنُ الكلامِ لفظًا، وأصدقُهُ معنىً، وأبينُهُ تفسيرًا، فكلُّ مَن أقبلَ عليهِ يسَّرَ اللهُ عليهِ مطلوبَهُ غايةَ التَّيسيرِ، وسهَّلَهُ عليهِ، والذِّكرُ شاملٌ لكلِّ ما يتذكَّرُ بهِ العاملونَ مِن الحلالِ والحرامِ، وأحكامِ الأمرِ والنَّهي، وأحكامِ الجزاءِ والمواعظِ والعبرِ، والعقائدِ النَّافعةِ والأخبارِ الصَّادقةِ، ولهذا كانَ علمُ القرآنِ حفظًا وتفسيرًا أسهلَ العلومِ وأجلَّها على الإطلاقِ، وهوَ العلمُ النَّافعُ الَّذي إذا طلبَهُ العبدُ أُعينَ عليهِ، قالَ بعضُ السَّلفِ عندَ هذهِ الآيةِ: هل مِن طالبِ علمٍ فيُعانُ عليهِ؟ ولهذا يدعو اللهُ عبادَهُ إلى الإقبالِ عليهِ والتَّذكُّرِ بقولِهِ: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
قالَ اللهُ تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}
– الشيخ : إلى هنا.