الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الرحمن/(1) من قوله تعالى {الرحمن} الآية 1 إلى قوله تعالى {فبأي آلاء ربكما تكذبان} الآية 13
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(1) من قوله تعالى {الرحمن} الآية 1 إلى قوله تعالى {فبأي آلاء ربكما تكذبان} الآية 13

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الرَّحمن

الدَّرس: الأوَّل

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:1-13]

– الشيخ : إلى هنا.

الحمدُ للهِ، هذهِ سورةُ الرَّحمنِ، افتُتِحَتْ بهذا الاسمِ الشَّريفِ: "الرَّحمن"، والسُّورةُ مكِّيَّةٌ، وقد تكرَّرَ فيها التَّذكيرُ بنِعمِ اللهِ، فهي الآلاءُ، {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} والخطابُ فيها للجنِّ والإنسِ، {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} خطابٌ للجنِّ والإنسِ.

وبدأَ سبحانَه وتعالى بذكرِ مِننِهِ على عبادِهِ، النِّعمِ العامَّةِ والخاصَّةِ: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} هذهِ أعظمُ نعمةٍ تعليمُ القرآنِ {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} بإرسالِ محمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإنزالِ القرآنِ عليه، فعلَّمَ النَّاسَ الكتابَ {يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]، والكتابُ: القرآنُ، والحكمةُ: السُّنَّةُ، {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}.

{خَلَقَ الْإِنْسَانَ} وهذا من عظيمِ آياتِهِ، خَلْقُ الإنسانِ من آياتِ اللهِ العظيمةِ، {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا} [النساء:1]، فكلُّ هذه البشريَّةِ تعودُ إلى نفسٍ واحدةٍ.

ومن نعمِهِ على الإنسانِ أنْ {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، علَّمَه النُّطقَ والتَّعبيرَ وجعلَ له وخلقَ له الآلاتِ، آلات ذلك اللِّسان والشَّفتين، ووهبَه وركَّبَ فيه العقلَ فيقدرُ على أنْ يعبِّرَ عمَّا في نفسِه ويفصح، {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}.

{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} كذلكَ من آياتِ اللهِ ونعمِه الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، ومن حكمةِ خلقِهما وتركيبِهما على هذا النِّظامِ معرفةُ الحسابِ، كما قالَ تعالى: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:5]، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} [يونس:5]، {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}.

{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} النَّجمُ هي جنسُ النُّجومِ، جنسُ النُّجومِ في السَّماء، وَالشَّجَرُ ما يُنبتُهُ اللهُ في هذه الأرضِ من أنواعِ الأشجارِ الَّتي يأكلُ منها النَّاسُ والأنعامُ، يأكلُ منها النَّاسُ والأنعامُ.

{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} الميزانُ الحسِّيُّ الَّذي يعرفُه النَّاسُ ويزِنونَ بهِ، والميزانُ الَّذي أنزلَه اللهُ على رسلِه وهو العدلُ، {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى:17]، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25]، {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} يأمرُ اللهُ عبادَه بالعدلِ في الوزنِ وألَّا يحيفوا ولا يطفِّفوا، لا يحيفوا ولا يطفِّفوا، بل يُوفونَ الكيلَ والوزنَ، {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}.

{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} الأرضُ خلقَها وبسطَها وفرشَها للإنسانِ والحيوانِ يعيشُ على ظهرِها ويعيشُ بما خلقَه اللهُ فيها من الخيراتِ {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} فهذه أنواعٌ ممَّا يخرجُه اللهُ من الأرضِ للإنسانِ والحيوانِ، ما يخرجُه اللهُ من الأشجارِ والنَّباتِ هو ممَّا يأكلُ النَّاسُ والأنعامُ، ممَّا يأكلُ النَّاسُ والأنعامُ {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} والْعَصْفُ هو التِّبنُ، وهو الَّذي ما يحصلُ بعدَ تحطيمِ القصبِ، قصبُ الزَّرعِ إذا دِيسَ ودقَّتْهُ البهائمُ أو الآلاتُ يحصلُ منه العصفُ وهو التِّبنُ، معروفٌ.

 

 (تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:

تفسيرُ سورةِ الرَّحمنِ، وهيَ مكِّيَّةٌ، بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} الآياتِ:

هذهِ السُّورةُ الكريمةُ الجليلةُ، افتتحَها باسمِهِ "الرَّحْمَنِ" الدَّالِ على سعةِ رحمتِهِ، وعمومِ إحسانِهِ، وجزيلِ برِّهِ، وواسعِ فضلِهِ، ثمَّ ذكرَ ما يدلُّ على رحمتِهِ وأثرِها الَّذي أوصلَهُ اللهُ إلى عبادِهِ مِن النِّعمِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ والأُخرويَّةِ وبعدَ كلِّ جنسٍ ونوعٍ مِن نعمِهِ، ينبِّهُ الثَّقلَينِ لشكرِهِ، ويقولُ: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.

فذكرَ أنَّهُ {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} أي: علَّمَ عبادَهُ ألفاظَهُ ومعانيَهُ، ويسَّرَها على عبادِهِ، وهذا أعظمُ مِنَّةٍ ورحمةٍ رحمَ بها عبادَهُ، حيثُ أنزلَ عليهم قرآنًا عربيًّا بأحسنِ ألفاظٍ، وأوضحِ المعاني، مشتمِلٌ على كلِّ خيرٍ، زاجرٌ عن كلِّ شرٍّ.

{خَلَقَ الإنْسَانَ} في أحسنِ تقويمٍ، كاملَ الأعضاءِ، مستوفيَ الأجزاءِ، مُحكَمَ البناءِ، قد أتقنَ الباري تعالى البديعُ خلقُهُ أيَّ إتقانٍ، وميَّزَهُ على سائرِ الحيواناتِ.

بأنْ {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أي: التَّبيينَ عمَّا في ضميرِهِ، وهذا شاملٌ للتَّعليمِ النُّطقيِّ والتَّعليمِ الخطيِّ، فالبيانُ الَّذي ميَّزَ اللهُ بهِ الآدميَّ على غيرِهِ مِن أجلِّ نعمِهِ، وأكبرِها عليهِ.

{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي: خلقَ اللهُ الشَّمسَ والقمرَ، وسخَّرَهما يجريانِ بحسابٍ مقنَّنٍ، وتقديرٍ مقدَّرٍ، رحمةً بالعبادِ، وعنايةً بهم، وليقومَ بذلكَ مِن مصالحِهم ما يقومُ، وليعرفَ العبادُ عددَ السِّنينَ والحسابِ.

{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} أي: نجومُ السَّماءِ، وأشجارُ الأرضِ، تعرفُ ربَّها وتسجدُ لهُ، وتطيعُ وتخضعُ وتنقادُ لِما سخَّرَها لهُ مِن مصالحِ عبادِهِ ومنافعِهم.

{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} سقفَها للمخلوقاتِ الأرضيَّةِ، {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} أي: العدلَ بينَ العبادِ، في الأقوالِ والأفعالِ، وليسَ المرادُ بهِ الميزانَ المعروفَ وحدَهُ، بل هوَ كما ذكرْنا، يدخلُ فيهِ الميزانُ المعروفُ، والمكيالُ الَّذي تُكالُ بهِ الأشياءُ والمقاديرُ، والمساحاتُ الَّتي تُضبَطُ بها المجهولاتُ، والحقائقُ الَّتي يُفصَلُ بها بينَ المخلوقاتِ، ويُقامُ بها العدلُ بينَهم، ولهذا قالَ: {أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} أي: أنزلَ اللهُ الميزانَ، لئلَّا تتجاوزُوا الحدَّ في الحقوقِ والأمورِ، فإنَّ الأمرَ لو كانَ يرجعُ إلى عقولِكم وآرائِكم، لحصلَ مِن الخللِ ما اللهُ بهِ عليمٌ، ولفسدَتِ السَّمواتُ والأرضُ.

{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} أي: اجعلُوهُ قائمًا بالعدلِ، الَّذي تصلُ إليهِ مقدرتُكم وإمكانُكم، {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} أي: لا تنقصُوهُ وتعملُوا بضدِّهِ، وهوَ الجورُ والظُّلمُ والطُّغيانُ.

{وَالأرْضَ وَضَعَهَا} اللهُ على ما كانَتْ عليهِ مِن الكثافةِ والاستقرارِ واختلافِ أوصافِها وأحوالِها {لِلأنَامِ} أي: للخلقِ، لكي يستقرُّوا عليها، وتكونُ لهم مهادًا وفراشًا يبنونَ بها، ويحرثونَ ويغرسونَ ويحفرونَ ويسلكونَ سبلَها فجاجًا، وينتفعونَ بمعادنِها وجميعِ ما فيها، ممَّا تدعو إليهِ حاجتُهم، بل ضرورتُهم.

ثمَّ ذكرَ ما فيها مِن الأقواتِ الضَّروريَّةِ، فقالَ: {فِيهَا فَاكِهَةٌ} وهيَ جميعُ الأشجارِ الَّتي تثمرُ الثَّمراتِ الَّتي يتفكَّهُ بها العبادُ مِن العنبِ والتِّينِ والرُّمَّانِ والتُّفاحِ، وغيرِ ذلكَ، {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ} أي: ذاتُ الوعاءِ الَّذي ينفلقُ عن القنوانِ الَّتي تخرجُ شيئًا فشيئًا حتَّى تتمَّ، فتكونُ قوتًا يُؤكَلُ ويُدَّخَرُ، يتزوَّدُ منهُ المقيمُ والمسافِرُ، وفاكهةٌ لذيذةٌ مِن أحسنِ الفواكهِ.

{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} أي: ذو السَّاقِ الَّذي يُداسُ، فيُنتفَعُ بتبنِهِ للأنعامِ وغيرِها، ويدخلُ في ذلكَ حَبُّ البُرِّ والشَّعيرِ والذُّرةِ والأرزِ والدَّخنِ، وغيرِ ذلكَ، {وَالرَّيْحَانُ} يُحتمَلُ أنَّ المرادَ بذلكَ جميعُ الأرزاقِ الَّتي يأكلُها الآدميُّونَ، فيكونُ هذا مِن بابِ عطفِ العامِّ على الخاصِّ، ويكونُ اللهُ قد امتنَّ على عبادِهِ بالقوتِ والرِّزقِ، عمومًا وخصوصًا، ويُحتمَلُ أنَّ المُرادَ بالرَّيحانِ، الرَّيحانُ المعروفُ، وأنَّ اللهَ امتنَّ على عبادِهِ بما يسَّرَهُ في الأرضِ مِن أنواعِ الرَّوائحِ الطَّيِّبةِ، والمشامِّ الفاخرةِ، الَّتي تسرُّ الأرواحَ، وتنشرحُ لها النُّفوسُ.

ولمَّا ذكرَ جملةً كثيرةً مِن نعمِهِ الَّتي تُشاهَدُ بالأبصارِ والبصائرِ، وكانَ الخطابُ للثَّقلَينِ، الإنسِ والجنِّ، قرَّرَهم تعالى بنعمِهِ، فقالَ: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: فبأيِّ نِعمِ اللهِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ تكذِّبانِ؟

وما أحسنَ جوابَ الجنِّ حينَ تلا عليهم النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذهِ السُّورةَ، فما مَرَّ بقولِهِ: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلَّا قالُوا: "ولا بشيءٍ مِن آلائِكَ ربَّنا نكذِّبُ فلكَ الحمدُ"، فهذا الَّذي ينبغي للعبدِ إذا تُلِيَتْ عليهِ نعمُ اللهِ وآلاؤُهُ، أنْ يقرَّ بها ويشكرَ، ويحمدَ اللهَ عليها.

ثمَّ قالَ تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14]

الشيخ : أحسنْتَ.