الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الرحمن/(2) من قوله تعالى {خلق الإنسان من صلصال} الآية 14 إلى قوله تعالى {فبأي آلاء ربكما تكذبان} الآية 30
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(2) من قوله تعالى {خلق الإنسان من صلصال} الآية 14 إلى قوله تعالى {فبأي آلاء ربكما تكذبان} الآية 30

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الرَّحمن

الدَّرس: الثَّاني

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:14-30]

– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله.

الحمدُ للهِ، يُخبِرُ تعالى عَن مبدأ خَلْقِ الإنسانِ ومِمَّا خُلِقَ الإنسانُ، والإنسانُ هنا هو آدمُ أوَّلُ إنسانٍ وهو أبو جميعِ النَّاسِ، {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1]، قالَ تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} الفخَّارُ هو الطِّينُ المشويُّ الَّذي إذا خُلِطَ وجفَّ صارَ له صَلْصَلَةٌ وله طنينٌ، إذا دُقَّ بشيءٍ صارَ له صلصلةٌ {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} والفخَّارُ معروفٌ، الآن معروفٌ أوانٍ تُصنَعُ مِن الفخَّارِ، مِن الطِّينِ الجافِّ اليابسِ، واللهُ قد أخبرَ أنَّهُ خَلقَ الإنسانَ مِن ترابٍ ومِن طينٍ ومِن صَلْصَالٍ، قالَ المفسِّرونَ: إنَّ هذهِ أطوارٌ، مبدأُ الخَلقِ ترابٌ ثمَّ خُلِطَ بماءٍ فصارَ طينًا ثمَّ لَمَّا طالَ عليهِ الزَّمنُ صارَ حمأً له نَتَنٌ ورائحةٌ، قالَ تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26]، {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}.

{وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} والجانُّ الأوَّلُ هو إبليسُ، خلقَه من نارٍ، من نارِ السَّمومِ، {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:27]، وهنا قالَ: {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} إذًا هو مخلوقٌ مِن نارٍ، ولهذا افتخرَ إبليسُ على آدمَ بأنَّه مخلوقٌ مِن نارٍ، وبزعمِه أنَّ النَّارَ خيرٌ من الطِّينِ، وكانَ نظرًا فاسدًا وقياسًا فاسدًا، فلذلكَ استكبرَ عن السُّجودِ لآدمَ فحلَّتْ عليه لعنةُ اللهِ، {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف:12-13]، وقالَ: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:78]، فهذا هو الجانُّ.

ثمَّ يُذكِّرُ تعالى ببعضِ صفاتِه وأفعالِه: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وبعدَ كلِّ نعمةٍ بعدَ ذكرِ كلِّ نعمةٍ وكلِّ آيةٍ يُعقِّبُها بقولِه تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بأيِّ نعمِ اللهِ تكذِّبانِ أيُّها الثَّقلانِ، الجنُّ والإنسُ، وتقدَّمَ إنَّ الخطابَ في هذه السُّورةِ للثَّقلينِ للجنِّ والإنسِ.

ومن آياتِه ونعمِه أنْ أرسلَ البحرينِ -العذبَ والمالحَ- أرسلَهما في هذهِ الأرضِ ولا يبغي أحدُهما على الآخرِ وكلٌّ في مكانه، العذبُ يجري في مجراهُ والبحرُ في مكانه، {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} لا يبغي أحدُهما على الآخرِ.

ومن نعمِه وآياتِه أنَّه يُخرِجُ لعبادِه أنواعًا من الزِّينةِ من البحرَينِ {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ومِن آياتِه ونعمِه السُّفنُ الَّتي يصنعُها النَّاسُ، وأوَّلُ سفينةٍ صُنِعَتْ سفينةُ نوحٍ، أمرَهُ اللهُ بصنعِها فصنعَها فصارَتْ آيةً بعدَ ذلك، {وَلَهُ الْجَوَارِ} الجوارِ هي السُّفنُ {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} يعني: كالجبالِ، يراها الإنسانُ في البحرِ كأنَّها جبلٌ، ثمَّ قالَ تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} يعني: كلُّ ما على هذه الأرضِ أو على الدُّنيا هوَ فانٍ وذاهبٌ، واللهُ هو الباقي الَّذي لا يفنى ولا يبيدُ {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}.

ومن عظيمِ شأنِه أنَّه يتوجَّهُ إليهِ أهلُ السَّمواتِ والأرضِ يسألونه حوائجَهم {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} في شأنٍ يعطي ويمنعُ ويخفضُ ويرفعُ ويُعزُّ ويُذلُّ ويهدي ويُضلُّ كما يشاءُ، يدبِّرُ هذا العالمَ بحكمتِه وقدرتِه ومشيئتِه، سبحانَهُ وتعالى.

 

 (تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-: ثمَّ قالَ تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} الآياتِ:

وهذا مِن نعمِهِ تعالى على عبادِهِ، حيثُ أراهم مِن آثارِ قدرتِهِ وبديعِ صنعتِهِ، أنْ {خَلَقَ} أبا الإنسِ وهوَ آدمُ -عليهِ السَّلامُ- {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} أي: مِن طينٍ مبلولٍ، قد أُحكِمَ بلُّهُ وأُتقِنَ، حتَّى جفَّ، فصارَ لهُ صلصلةٌ وصوتٌ يشبهُ صوتَ الفخَّارِ وهوَ الطِّينُ المشويُّ.

{وَخَلَقَ الْجَانَّ} أي: أبا الجنِّ، وهوَ إبليسُ لعنَهُ اللهُ {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} أي: مِن لهبِ النَّارِ الصَّافي، أو الَّذي قد خالطَهُ الدُّخانُ، وهذا يدلُّ على شرفِ عنصرِ الآدميِّ المخلوقِ مِن الطِّينِ والتُّرابِ، الَّذي هوَ محلُّ الرَّزانةِ والثِّقلِ والمنافعِ، بخلافِ عنصرِ الجانِّ وهوَ النَّارُ، الَّتي هيَ محلُّ الخفَّةِ والطيشِ والشَّرِّ والفسادِ.

ولمَّا بيَّنَ خلقَ الثَّقلَينِ ومادَّةَ ذلكَ وكانَ ذلكَ

– الشيخ : أين الطِّين من النَّار! الطِّينُ تضعُ فيه الحبَّ فينمو وينبتُ، والنَّارُ تضعُ فيها الحبَّ فيتلفُ، فهي أداةُ فسادٍ وإتلافٍ وإهلاكٍ، والطِّينُ مزرعةٌ ومكانٌ للنَّموِ فأينَ الطِّين من النَّار! فالطِّينُ يحصلُ فيه وبه بإذنِ اللهِ خيراتٌ كثيرةٌ، وأمَّا النَّارُ فما تتَّصلُ به تتلفُه وتفسدُه.

– القارئ : ولمَّا بيَّنَ خلقَ الثَّقلَينِ ومادَّةَ ذلكَ وكانَ ذلكَ مِنَّةٌ منهُ تعالى على عبادِهِ قالَ: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}

قالَ تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ} الآياتِ:

أي: هوَ تعالى ربُّ كلِّ ما أشرقَتْ عليهِ الشَّمسُ والقمرُ، والكواكبُ النَّيِّرةُ، وكلُّ ما غربَتْ عليهِ، وكلُّ ما كانَا فيهِ فجميعُهُ تحتَ تدبيرِهِ وربوبيَّتِهِ، وثنَّاهما هنا لإرادةِ العمومِ مشرقي الشَّمسِ شتاءً وصيفًا، واللهُ أعلمُ.

قالَ اللهُ تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ…} الآياتِ

– الشيخ : يعني التَّثنيةُ باعتبارِ مشرقِ الشَّمسِ في الشِّتاءِ ومشرقِها في الصَّيف، المشرقينِ والمغربينِ، مشرقُ الشَّمسِ في الشِّتاءِ ومشرقُها ومغربُها كذلك، وجاءَ في آياتٍ أخرى: {رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج:40]، والمرادُ مشرقُها في كلِّ يومٍ، فلكلِّ شمسٍ مشرقٌ في كلِّ يومٍ، فمشرقُها اليوم غيرُ مشرقِها أمس على وجهِ التَّحديد، لأنَّها تتنقَّلُ، ولهذا يختلفُ موقعُها بينَ اليومِ والأمسِ وبينَ الشِّتاءِ والصَّيفِ.

 

– القارئ : المُرادُ بالبحرَينِ: البحرِ العذبِ، والبحرِ المالحِ، فهما يلتقيانِ، فيصبُّ العذبُ في البحرِ المالحِ، ويختلطانِ ويمتزجانِ، ولكنَّ اللهَ تعالى جعلَ بينَهما برزخًا مِن الأرضِ، حتَّى لا يبغي أحدُهما على الآخرِ، ويحصلُ النَّفعُ بكلٍّ منهما، فالعذبُ منهُ يشربونَ وتشربُ أشجارُهم وزروعُهم وحروثُهم، والملحُ بهِ يطيبُ الهواءُ ويتولَّدُ الحوتُ والسَّمكُ، واللؤلؤُ والمرجانُ، ويكونُ مستقرًّا مسخَّرًا للسُّفنِ والمراكبِ، ولهذا قالَ: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}

أي: وسخَّرَ تعالى لعبادِهِ السُّفنَ الجواريَ، الَّتي تمخرُ البحرَ وتشقُّهُ بإذنِ اللهِ، الَّتي ينشئُها الآدميُّونَ، فتكونُ مِن عظمِها وكبرِها كالأعلامِ، وهيَ الجبالُ العظيمةُ، فيركبُها النَّاسُ ويحملونَ عليها أمتعتَهم وأنواعَ تجاراتِهم وغيرَ ذلكَ ممَّا تدعو إليهِ حاجتُهم وضرورتُهم، وقد حفظَها حافظُ السَّمواتِ والأرضِ، وهذهِ مِن نعمِ اللهِ الجليلةِ، فلذلكَ قالَ: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}

قالَ اللهُ تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} الآياتِ.

أي: كلُّ مَن على الأرضِ، مِن إنسٍ وجنٍّ، ودوابٍّ، وسائرِ المخلوقاتِ، يفنى ويموتُ ويبيدُ ويبقى الحيُّ الَّذي لا يموتُ {ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} أي: ذو العظمةِ والكبرياءِ والمجدِ، الَّذي يُعظَّمُ ويُبجَّلُ ويُجَلُّ لأجلِهِ، والإكرامُ الَّذي هوَ سعةُ الفضلِ والجودِ الَّذي يكرمُ أولياءَهُ وخواصَّ خلقِهِ بأنواعِ الإكرامِ، الَّذي يُكرَمُهُ أولياؤُهُ ويُجَلُّونَهُ، ويعظمونَهُ ويحبُّونَهُ، وينيبونَ إليهِ ويعبدونَهُ، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}

قالَ اللهُ تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}

أي: هوَ الغنيُّ بذاتِهِ عن جميعِ مخلوقاتِهِ وهوَ واسعُ الجودِ والكرمِ، فكلُّ الخلقِ مفتقرونَ إليهِ، يسألونَهُ جميعَ حوائجِهم بحالِهم ومقالِهم، ولا يستغنونَ عنهُ طرفةَ عينٍ ولا أقلَّ مِن ذلكَ، وهوَ تعالى {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} يُغني فقيرًا، ويجبرُ كسيرًا، ويُعطي قومًا، ويمنعُ آخرينَ، ويُميتُ ويُحيي، ويُخفِضُ ويرفعُ، لا يشغلُهُ شأنٌ عن شأنٍ، ولا تُغلطُهُ المسائلُ، ولا يُبرمُهُ إلحاحُ الملحِّينَ، ولا طولَ مسألةِ السَّائلينَ، فسبحانَ الكريمِ الوهَّابِ، الَّذي عمَّتْ مواهبُهُ أهلَ الأرضِ والسَّمواتِ، وعمَّ لطفُهُ جميعَ الخلقِ في كلِّ اللَّحظاتِ، وتعالى الَّذي لا يمنعُهُ مِن الإعطاءِ معصيةُ العاصِينَ، ولا استغناءُ الفقراءِ الجاهلينَ بهِ وبكرمِهِ، وهذهِ الشُّؤونُ الَّتي أخبرَ أنَّهُ تعالى كلَّ يومٍ هوَ في شأنٍ، هيَ تقاديرُهُ وتدابيرُهُ الَّتي قدَّرَها في الأزلِ وقضاها، لا يزالُ تعالى يمضيها ويُنفِذُها في أوقاتِها الَّتي اقتضَتْهُ حكمتُهُ، وهيَ أحكامُهُ الدِّينيَّةُ الَّتي هيَ الأمرُ والنَّهيُ، والقدريَّةُ الَّتي يُجريها على عبادِهِ مدَّةَ مقامِهم في هذهِ الدَّارِ، حتَّى إذا تمَّتْ هذهِ الخليقةُ وأفناهم اللهُ تعالى وأرادَ تعالى أنْ ينفِذَ فيهم أحكامَ الجزاءِ، ويُريهم مِن عدلِهِ وفضلِهِ وكثرةِ إحسانِهِ ما بهِ يعرفونَهُ ويوحِّدونَهُ، نقلَ المكلَّفينَ مِن دارِ الابتلاءِ والامتحانِ إلى دارِ الحيوانِ.

وفرغَ حينئذٍ لتنفيذِ هذهِ الأحكامِ، الَّتي جاءَ وقتُها، وهوَ المرادُ بقولِهِ: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}

أي: سنفرغُ لحسابِكم ومجازاتِكم بأعمالِكم الَّتي عملْتُموها في دارِ الدُّنيا.

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}

الشيخ : إلى هنا.