الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الرحمن/(3) من قوله تعالى {سنفرغ لكم أيه الثقلان} الآية 31 إلى قوله تعالى {فبأي آلاء ربكما تكذبان} الآية 45

(3) من قوله تعالى {سنفرغ لكم أيه الثقلان} الآية 31 إلى قوله تعالى {فبأي آلاء ربكما تكذبان} الآية 45

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الرَّحمن

الدَّرس: الثَّالث

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:31-45]

– الشيخ : إلى هنا، أعوذُ باللهِ.

الحمدُ للهِ، يقولُ تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} هذا فيهِ تهديدٌ للجنِّ والإنسِ ووعدٌ بأنَّ اللهَ سيحاسبُهم الجنَّ والإنسَ {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} هذا معروفٌ في لغةِ العربِ، يقولُ القائلُ لمن يريدُ تهديدَهُ: "سأفرغُ لكَ"، أسلوبُ تهديدٍ ووعيدٍ.

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ…} قيلَ: إنَّ هذا يُقالُ لهم يومَ القيامةِ، {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} إذًا هذا يقتضي أنَّه لا مفرَّ لهم، {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة:10-12]

{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} فاللهُ محيطٌ بالعبادِ لا مفرَّ لهم من بأسِه ولا مفرَّ لهم من بطشِهِ سبحانَه وتعالى.

{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} هذا خبرٌ عن السَّماءِ وانشقاقِها يومَ القيامةِ، {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1]، {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:1-2]، {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار:1]، فهذهِ السَّماءُ المحكَمةُ تتفطَّرُ وتنشقُّ وتُطوَى، واللهُ أخبرَ عن السَّماءِ في آياتٍ: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104]، {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، ففي ذلكَ اليومِ تكونُ السَّماءُ ذاتَ لونٍ فيهِ حمرةٌ {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج:8-10]، فهذهِ السَّماءُ تمرُّ بأحوالٍ يومَ القيامةِ كالأرض، كما أنَّ الأرضَ أيضًا يحصلُ لها من التَّغييرِ والزَّلزلةِ والاضطرابِ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم:48]، كلُّها تتبدَّلُ وتتغيَّرُ حالُها، سبحانَ الله العظيم! وذلكَ في اليومِ العظيمِ يوم القيامة {فَيَوْمَئِذٍ} في ذلكَ اليومِ {لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ}، {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ}

ثمَّ قالَ تعالى:{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} المجرمونَ هم الكفَّارُ، والمشركون هم المجرمون حقًّا، الملحِدون الكافرون هم المجرمون، يُعرَفون يومَ القيامةِ وتعرفُهم الملائكةُ بسيماهم فتأخذُهم بالنَّواصي من رؤوسِهم وبالأقدامِ ليُلقوهم في جهنَّمَ، {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت:40]، ثمَّ يُقالُ لهم: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} وفي هذا توبيخٌ لهم على كفرِهم وتكذيبِهم {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} فهم بينَ النَّارِ السَّعيرِ المحرقةِ وبينَ الحميمِ الشَّديدِ الغليانِ والحرارةِ، في عذابٍ لا يُعذَّبُه أحدٌ ولا يوثقُ وثاقه أحدٌ، وقولُه: {حَمِيمٍ آنٍ} الآني هو شديدُ الحرارةِ، غايةٌ في الحرارةِ {بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} كقولِه تعالى: يُسقَون {مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:5]، في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:2-5]، هيَ هذهِ.

 

 (تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:

{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} الآياتِ:

أي: سنفرغُ لحسابِكم ومجازاتِكم بأعمالِكم الَّتي عملْتُموها في دارِ الدُّنيا.

قالَ اللهُ تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ} الآيةَ:

أي: إذا جمعَهم اللهُ في موقفِ القيامةِ، أخبرَهم بعجزِهم وضعفِهم، وكمالِ سلطانِهِ، ونفوذِ مشيئتِهِ وقدرتِهِ، فقالَ مُعَجِّزًا لهم: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي: تجدونَ مسلكًا ومنفَذًا تخرجونَ بهِ عن ملكِ اللهِ وسلطانِهِ، {فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} أي: لا تخرجونَ عنهُ إلَّا بقوَّةٍ وتسلُّطٍ منكم، وكمالِ قدرةٍ، وأنَّى لهم ذلكَ، وهم لا يملكونَ لأنفسِهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا؟! ففي ذلكَ الموقفِ لا يتكلَّمُ أحدٌ إلَّا بإذنِهِ، ولا تسمعُ إلَّا همسًا، وفي ذلكَ الموقفِ يستوي الملوكُ والمماليكُ، والرُّؤساءُ والمرؤُسونَ، والأغنياءُ والفقراءُ.

ثمَّ ذكرَ ما أعدَّ لهم في ذلكَ الموقفِ العظيمِ فقالَ: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} الآياتِ:

 أي: يُرسَلُ عليكما لهبٌ صافٍ مِن النَّارِ {وَنُحَاسٌ} وهوَ اللَّهبُ الَّذي قد خالطَهُ الدُّخانُ، والمعنى أنَّ هذينِ الأمرينِ الفظيعَينِ يُرسَلانِ عليكما ويحيطانِ بكما فلا تنتصرانِ، لا بناصرٍ مِن أنفسِكم، ولا بأحدٍ ينصرُكم مِن دونِ اللهِ.

ولمَّا كانَ تخويفُهُ لعبادِهِ نعمةً منهُ عليهم، وسوطًا يسوقُهم بهِ إلى أعلى المطالبِ وأشرفِ المواهبِ، ذكرَ منَّتَهُ بذلكَ فقالَ: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}

{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} أي: يومَ القيامةِ مِن شدَّةِ الأهوالِ، وكثرةِ البلبالِ، وترادفِ الأوجالِ، فانخسفَتْ شمسُها وقمرُها، وانتثرَتْ نجومُها، {فَكَانَتْ} مِن شدَّةِ الخوفِ والانزعاجِ {وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} أي: كانَتْ كالمهلِ والرَّصاصِ المُذابِ ونحوِهِ {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} أي: سؤالَ استعلامٍ بما وقعَ، لأنَّهُ تعالى عالمُ الغيبِ والشَّهادةِ والماضي والمستقبلِ، ويريدُ أنْ يُجازيَ العبادَ بما علمَهُ مِن أحوالِهم، وقد جعلَ لأهلِ الخيرِ والشَّرِّ يومَ القيامةِ علاماتٍ يُعرَفونَ بها، كما قالَ تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]

وقالَ هنا: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: فيُؤخَذُ بنواصي المجرمينَ وأقدامِهم، فيُلقَونَ في النَّارِ ويُسحَبونَ فيها، وإنَّما يسألُهم تعالى سؤالَ توبيخٍ وتقريرٍ بما وقعَ منهم، وهوَ أعلمُ بهِ منهم، ولكنَّهُ تعالى يريدُ أنْ تظهرَ للخلقِ حجَّتُهُ البالغةُ، وحكمتُهُ الجليلةُ.

قالَ اللهُ تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ…} الآياتِ:

أي: يُقالُ للمكذِّبينَ بالوعدِ والوعيدِ حينَ تسعرُ الجحيمُ: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} فليهنِهم تكذيبُهم بها، وليذوقُوا مِن عذابِها ونكالِها وسعيرِها وأغلالِها ما هوَ جزاءٌ لهم على تكذيبِهم.

{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا} أي: بينَ أطباقِ الجحيمِ ولهبِها {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} أي: ماءٍ حارٍّ جدًّا قد انتهى حرُّهُ، وزمهريرٍ قد اشتدَّ بردُهُ وقرُّهُ، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}

الشيخ : حسبُكَ

القارئ : نعم انتهى.