الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الواقعة/(1) من قوله تعالى {إذا وقعت الواقعة} الآية 1 إلى قوله تعالى {وثلة من الآخرين} الآية 40

(1) من قوله تعالى {إذا وقعت الواقعة} الآية 1 إلى قوله تعالى {وثلة من الآخرين} الآية 40

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الواقعة

الدَّرس: الأوَّل

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة:1-40]

– الشيخ : إلى هنا.

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، سورةُ الواقعةِ هي من السُّورِ المكِّيَّة، أي: الَّتي نزلَتْ قبلَ الهجرةِ، وأوَّلُها فيه ذكرُ القيامةِ الكبرى وأقسامِ النَّاسِ في ذلك الوقتِ، وفي آخرِها ذكرُ القيامةِ الصُّغرى وهيَ الموتُ، والواقعةُ اسمٌ من أسماءِ القيامةِ كالحاقَّة، والغاشيةِ، والطَّامَّةِ، وما أشبهَ ذلكَ.

{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} هي واقعةٌ لا محالةَ، لا كذبَ فيها بل هي صدقُ وحقٌّ وجدٌّ، فهي أمرٌ يقينٌ، واقعةٌ لا محالةَ، وفي ذلكَ اليومِ {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} يرتفعُ فيها أقوامٌ وينخفضُ آخرون، يرفعُ اللهُ فيها أقوامًا إلى أعلى عليِّينَ، وهم أهلُ كرامةِ اللهِ، وتخفضُ آخرين، يخفضُهم اللهُ في أسفلِ سافلين، نعوذُ باللهِ من الشِّقوةِ {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ}.

{إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} يكونُ هذا الأمرُ في ذلكَ الوقتِ يومَ يحصلُ للأرضِ رجفةٌ وزلزلةٌ {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} فكانَتْ بعدَ القوَّةِ والصَّلابة أصبحَت كالعهن المنفوشِ، بل تصيرُ ترابًا وكثيبًا مهيلًا حتَّى تضمحلَّ وتصيرُ هباءً {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} وتُسيَّرُ الجبالُ عن مواقعِها {يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} [طه:105-106]، واللهُ قد أخبرَ عن هذهِ الأحوالِ في آياتٍ عديدةٍ، أحوالُ القيامةِ، أحوالُ الجبالِ، وأحوالُ السَّماءِ، وأحوالُ الأرضِ في ذلكَ اليومِ.

يقولُ: {وَكُنْتُمْ} أيُّها النَّاسُ {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} ثلاثةُ أصنافٍ: صنفانِ هم أهلُ الإيمانِ، وصنفٌ أهلُ الكفرِ، {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} أصحابُ اليمينِ ما أصحابُ اليمينِ، {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} هم أصحابُ اليمينِ {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ هم أصحابُ الشِّمالِ وهم الأشقياءُ.

ثمَّ قالَ تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} وأُخِّرَ ذكرُهم -واللهُ أعلمُ- لأنَّهم سيطولُ الحديثُ عنهم بذكرِ نعيمِهم وما أعدَّ اللهُ لهم {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}، {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} قيلَ مِن الأممِ الماضيةِ، وقيلَ من أوَّلِ هذه الأمَّةِ.

{وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} فالسَّابقونَ في هذه الأمَّةِ في أوَّلها أكثر من السَّابقين من آخرها، فطليعتُهم الصَّحابةُ -رضوانُ اللهِ عليهم- طليعتُهم هم أهلُ القرنِ الأوَّلِ أصحابُ النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

ثمَّ ذكرَ تعالى أصنافَ النَّعيمِ الَّذي يـُمَتَّعونَ به من الأرائكِ والسُّررِ والمطاعمِ والمشاربِ والخدمِ والزَّوجاتِ {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ … وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} جمالًا وصفاءً، وهنَّ حُورٌ عِينٌ، وكثيرًا ما يذكرُ اللهُ نساءَ الجنَّةِ بهذه الصِّفاتِ، حُورٌ عِينٌ كأنَّهنَّ لؤلؤٌ مكنونٌ، فذكرَ سبحانه وتعالى مجالسَهم وخدمَهم وزوجاتِهم ومطاعمَهم وشرابَهم

{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا} لا يسمعونَ في الجنَّة من الكلامِ ما هو لغوٌ لا خيرَ فيه ولا ما فيه إثمٌ، بخلافِ هذه الدُّنيا، هذه الدُّنيا فيها أكثرُ الكلامِ فيها لغوٌ وتأثيمٌ، أكثرُ الكلامِ في هذه الدُّنيا من النَّاسِ لغوٌ وتأثيمٌ، أمَّا الجنَّةُ فليسَ فيها إلَّا الكلامُ السَّالمُ من المآثمِ ومن العيوبِ {إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}.

ثمَّ ذكرَ سبحانه وتعالى الصِّنفَ الثَّاني من المؤمنين من أولياءِ اللهِ وهم أصحابُ اليمينِ، وهم دونهم كما تقدَّمَ في سورةِ الرَّحمنِ، وهم دونهم، فأهلُ الجنَّةِ طبقتانِ: المقرَّبون، وأصحابُ اليمينِ، فَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ هم المقرَّبونَ {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} سمَّاهم اللهُ المقرَّبين.

{فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} مَخْضُودِ الشَّوكِ ليسَ فيه شوكٌ، {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} قيلَ: هو الموزُ {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ … وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} ففواكهُ الجنَّةِ ميسَّرةٌ حاصلةٌ لا مانعَ يمنعُها ولا تنقطعُ، ليسَتْ كفاكهةِ الدُّنيا الَّتي تنقطعُ في وقتٍ من الأوقاتِ، لها وقتٌ تُوجَدُ ثمَّ تنقطعُ، {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ}.

{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} وهذا إخبارٌ بزوجاتهم {عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ}.

ثمَّ قالَ تعالى عن أصحابِ اليمينِ: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ}.

 

(تفسيرُ الشَّيخِ السَّعديِّ)

– القارئ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى-:

تفسيرُ سورةِ الواقعةِ وهيَ مكِّيَّةٌ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} الآياتِ:

يُخبِرُ تعالى بحالِ الواقعةِ الَّتي لا بدَّ مِن وقوعِها، وهيَ القيامةُ الَّتي {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي: لا شكَّ فيها، لأنَّها قد تظاهرَتْ عليها الأدلَّةُ العقليَّةُ والسَّمعيَّةُ، ودلَّتْ عليها حكمتُهُ تعالى.

{خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} أي: خافضةٌ لأناسٍ في أسفلِ سافلِينَ، رافعةٌ لأناسٍ في أعلى عليِّينَ

الشيخ : اللهُ أكبرُ، {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:20-21]

القارئ : أو خفضَتْ بصوتِها فأسمعَتِ القريبَ، ورفعَتْ فأسمعَتِ البعيدَ.

{إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا} أي: حُرِّكَتْ واضطربَتْ.

{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} أي: فُتِّتَتْ.

{فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} فأصبحَتِ الأرضُ ليسَ عليها جبلٌ ولا مَعلَمٌ، قاعًا صفصفًا، لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا.

{وَكُنْتُمْ} أيُّها الخلقُ {أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} أي: انقسمْتُم ثلاثَ فرقٍ بحسبِ أعمالِكم الحسنةِ والسَّيِّئةِ.

ثمَّ فصَّلَ أحوالَ الأزواجِ الثَّلاثةِ، فقالَ: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} تعظيمٌ لشأنِهم، وتفخيمٌ لأحوالِهم.

{وَأَصْحَابُ الْمَشئَمَةِ} أي: الشِّمالِ، {مَا أَصْحَابُ الْمَشئَمَة} تهويلٌ لحالِهم.

{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} أي: السَّابقونَ في الدُّنيا إلى الخيراتِ، هم السَّابقونَ في الآخرةِ لدخولِ الجنَّاتِ.

أولئكَ الَّذينَ هذا وصفُهم المقرَّبونَ عندَ اللهِ في جنَّاتِ النَّعيمِ في أعلى عليِّينَ في المنازلِ العالياتِ الَّتي لا منزلةَ فوقَها.

وهؤلاءِ المذكورونَ {ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ} أي: جماعةٌ كثيرونَ مِن المتقدِّمِينَ مِن هذهِ الأمَّةِ وغيرِهم.

{وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ}

وهذا يدلُّ على فضلِ صدرِ هذهِ الأمَّةِ في الجملةِ على متأخِّريها، لكونِ المقرَّبينَ مِن الأوَّلينَ أكثرَ مِن المتأخِّرينَ.

والمُقرَّبونَ هم خواصُ الخلقِ، {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} أي: مرمولةٍ بالذَّهبِ والفضَّةِ، واللُّؤلؤِ، والجوهرِ، وغيرِ ذلكَ مِن الحليِّ والزِّينةِ، الَّتي لا يعلمُها إلَّا اللهُ تعالى.

{مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا} أي: على تلكَ السُّرُرِ، جلوسَ تمكُّنٍ وطمأنينةٍ وراحةٍ واستقرارٍ. {مُتَقَابِلِينَ} وجهُ كلٍّ منهم إلى وجهِ صاحبِهِ، مِن صفاءِ قلوبِهم، وتقابلُها بالمحبَّةِ وحسنِ أدبِهم وتقابلِ قلوبِهم.

{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} أي: يدورُ على أهلِ الجنَّةِ لخدمةِ وقضاءِ حوائجِهم، ولدانٌ صغارُ الأسنانِ، في غايةِ الحسنِ والبهاءِ، {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} أي: مستورٌ لا ينالُهُ ما يغيِّرُهُ، مخلوقونَ للبقاءِ والخلدِ، لا يهرمونَ ولا يتغيَّرونَ، ولا يزيدونَ على أسنانِهم.

ويدورونَ عليهم بآنيةٍ شرابُهم {بِأَكْوَابٍ} وهيَ الَّتي لا عُرى لها، {وَأَبَارِيقَ} الأواني الَّتي لها عُرىً، {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} أي: مِن خمرٍ لذيذِ المشربِ، لا آفةَ فيها.

{لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي: لا تُصدعُهم رؤوسُهم كما تُصدِعُ خمرةُ الدُّنيا رأسَ شاربِها.

{وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات:47]، أي: لا تُنزَفُ عقولُهم، ولا تذهبُ أحلامُهم منها، كما يكونُ لخمرِ الدُّنيا.

والحاصلُ: أنَّ كلَّ ما في الجنَّةِ مِن أنواعِ النَّعيمِ الموجودِ جنسُهُ في الدُّنيا، لا يُوجَدُ في الجنَّةِ فيهِ آفةٌ، كما قالَ تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15]، وَذَكَرَ هنا خمرَ الجنَّةِ، ونفى عنها كلَّ آفةٍ تُوجَدُ في الدُّنيا.

{وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} أي: مهما تخيَّرُوا، وراقَ في أعينِهم، واشتهَتْهُ نفوسُهم، مِن أنواعِ الفواكهِ الشَّهيَّةِ، والجنى اللَّذيذِ حصَلَ لهم على أكملِ وجهٍ وأحسنِهِ.

{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي: مِن كلِّ صنفٍ مِن الطُّيورِ يشتهونَهُ، ومِن أيِّ جنسٍ مِن لحمِهِ أرادُوا، وإنْ شاؤُوا مشويًّا، أو طبيخًا، أو غيرَ ذلكَ.

{وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي: ولهم حورٌ عِينٌ، والحوراءُ: الَّتي في عينِها كحلٌ وملاحةٌ، وحسنٌ وبهاءٌ، والعَينُ: حسانُ الأعينِ وضخامُها، وحسنُ العينِ في الأنثى، مِن أعظمِ الأدلَّةِ على حسنِها وجمالِها.

{كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي: كأنَّهنَّ اللُّؤلؤُ الأبيضُ الرَّطبُ الصَّافي البهيُّ، المستورُ عن الأعينِ والرِّيحِ والشَّمسِ، الَّذي يكونُ لونُهُ مِن أحسنِ الألوانِ، الَّذي لا عيبَ فيهِ بوجهٍ مِن الوجوهِ، فكذلكَ الحورُ العينُ، لا عيبَ فيهنَّ بوجهٍ، بل هنَّ كاملاتُ الأوصافِ جميلاتُ النُّعوتِ.

فكلُّ ما تأمَّلْتَهُ منها لم تجدْ فيهِ إلَّا ما يسرُّ القلبَ ويروقُ النَّاظرَ.

وذلكَ النَّعيمُ المُعدُّ لهم {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فكما حسنَتْ منهم الأعمالُ، أحسنَ اللهُ لهم الجزاءَ، ووفَّر لهم الفوزَ والنَّعيمَ.

{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} أي: لا يسمعونَ في جنَّاتِ النَّعيمِ كلامًا يُلغَى، ولا يكونُ فيهِ فائدةٌ، ولا كلامًا يُؤثِمُ صاحبَهُ.

{إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} أي: إلَّا كلامًا طيِّبًا، وذلكَ لأنَّها دارُ الطَّيِّبينَ، ولا يكونُ فيها إلَّا كلُّ طيِّبٍ، وهذا دليلٌ على حسنِ أدبِ أهلِ الجنَّةِ في خطابِهم فيما بينَهم، وأنَّهُ أطيبُ كلامٍ، وأسرُّهُ للقلوبِ، وأسلمُهُ مِن كلِّ لغوٍ وإثمٍ، نسألُ اللهَ مِن فضلِهِ.

الشيخ : نسألُ اللهَ من فضلِهِ، إلى هنا.