بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الواقعة
الدَّرس: الثَّاني
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ من الشَّيطانِ الرجيمِ
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ [الواقعة:41-57]
– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله.
الحمدُ للهِ، وبعدَما ذكرَ اللهُ عاقبةَ المؤمنين المتَّقين السَّابقين منهم وأصحاب اليمينِ بعدَما ذكرَ جزاءَهم وما أعدَّ لهم من الكرامةِ ذكرَ عاقبةَ الكافرين من المنافقين والمشركين وهم أصحابُ الشِّمالِ، أصحابُ الشِّمالِ هم الكفَّارُ والمنافقون، هم أصنافُ الكفَّارِ، كلُّهم يدخلون في أصحابِ الشِّمالِ.
{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ}، {لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:31] {لَا ظَلِيلٍ}، {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:29-31] فما هو إلَّا النَّارُ واللَّهبُ والدُّخانُ والعذابُ المهينُ، نسألُ اللهَ العافيةَ، نعوذُ باللهِ.
{فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} كانُوا في الدُّنيا مُتْرَفِينَ مُنعَّمين فهذه عاقبةُ الكفرِ والتَّكذيبِ برسلِ اللهِ.
{وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} يصرُّون على الذُّنوب العظيمةِ {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ}.
{وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} وهذا خبرٌ عن تكذيبِهم باليومِ الآخرِ، {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} هذا فيه ردٌّ عليهم وتأكيدٌ لما أخبرَتْ به الرُّسلُ، فالأوَّلون والآخرون من البشريَّة كلُّهم مَجْمُوعُونَ لمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وهو يومُ الجمعِ، يومُ القيامةِ من أسمائه يومُ الجمعِ، {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الجاثية:26]، وهو يومُ الحشرِ يُحشَرُ النَّاسُ ويُجمَعون، الأوَّلون منهم والآخرون {لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} وهذا طعامُ أهلِ النَّارِ، وشجرةُ الزَّقُّومِ أخبرَ اللهُ عنها أنَّها شجرةٌ تخرجُ وتنبتُ في أصلِ الجحيمِ، طلعُها كأنَّه رؤوسُ الشَّياطين، {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} هذا هو طعامُهم، وهذا هو شرابُهم، طعامُهم الزَّقُّومُ وشرابُهم الحميمُ، كما قالَ تعالى في الآياتِ الأخرى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات:67-68]، {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} الإبلِ العِطاشِ، الهيمُ: جمعُ هيماء أو أهيم وهي الإبلُ العِطاشُ {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}.
{هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} هذا قِراهم وهذه ضيافتُهم في يومِ القيامةِ {هَذَا نُزُلُهُمْ} النُزُلُ: هو القِرى وما يُقدَّمُ للضَّيفِ، هَذَا نُزُلُ أصحابِ الشِّمالِ، هَذَا نُزُلُ أصحابِ الشِّمالِ من الكفَّار والمنافقين والمشركين {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ}
قالَ اللهُ: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} إلى آخرِ الآياتِ.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:
ثمَّ ذكرَ ما أعدَّ لأصحابِ اليمينِ فقالَ: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} أي: شأنُهم عظيمٌ، وحالُهم جسيمٌ.
– الشيخ : يعني: هذا تعبيرٌ عن الاستفهام، هذا الاستفهامُ للتَّعظيمِ {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ}؟ فهذا الاستفهامُ تارةً يكونُ لتعظيمِ الشَّأنِ وتارةً يكونُ للتَّهويل وتعظيمِ الأمرِ {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} كما تقدَّمَ {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة:7-9] يعني: أمرُهم عظيمٌ وخبرُهم عظيمٌ.
– القارئ : {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} أي: مقطوعٍ ما فيهِ مِن الشَّوكِ والأغصانِ الرَّديئةِ المضرَّةِ، مجعولٍ مكانَ ذلكَ الثَّمرُ الطَّيِّبُ، وللسِّدرِ مِن الخواصِّ، الظِّلُّ الظَّليلُ، وراحةُ الجسمِ فيهِ.
{وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} والطَّلحُ معروفٌ، وهوَ شجرٌ كبارٌ يكونُ بالباديةِ، تنضدُ أغصانُهُ مِن الثَّمرِ اللَّذيذِ الشَّهيِّ.
{وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} أي: كثيرٍ مِن العيونِ والأنهارِ السَّارحةِ، والمياهِ المتدفِّقةِ.
{وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} أي: ليسَتْ بمنزلةِ فاكهةِ الدُّنيا تنقطعُ في وقتٍ مِن الأوقاتِ، وتكونُ ممتنعةً أي: متعسِّرةً على مبتغيها، بل هيَ على الدَّوامِ موجودةٌ، وجَناها قريبٌ يتناولُهُ العبدُ على أيِّ حالٍ يكونُ.
{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي: مرفوعةٍ فوقَ الأسرَّةِ ارتفاعًا عظيمًا، وتلكَ الفرشُ مِن الحريرِ والذَّهبِ واللُّؤلؤِ وما لا يعلمُهُ إلَّا اللهُ.
{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} أي: إنَّا أنشأْنا نساءَ أهلِ الجنَّةِ نشأةً غيرَ النَّشأةِ الَّتي كانَتْ في الدُّنيا، نشأةٌ كاملةٌ لا تقبلُ الفناءَ.
{فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} صغارُهنَّ وكبارُهنَّ. وعمومُ ذلكَ يشملُ الحورَ العِينَ ونساءَ أهلِ الدُّنيا، وأنَّ هذا الوصفَ -وهوَ البكارةُ- ملازمٌ لهنَّ في جميعِ الأحوالِ
– الشيخ : يعني أنَّ أهلَ الجنَّةِ لهم زوجاتٌ صنفان: حورٌ خلقَهنَّ اللهُ في الجنَّة ليزوِّجَ بهنَّ من شاءَ من أوليائه، وفيه النِّساءُ المؤمناتُ المؤمنات اللَّاتي دخلْنَ الجنَّةَ يكنَّ أزواجًا لمن شاءَ اللهُ من أوليائه ويكنَّ أبكارًا سواءٌ كنَّ أبكارًا مثل من تموتُ صغيرةً أو كانتْ كبيرةً كلُّهن يُنشئُهنَّ اللهُ أبكارًا يُصيِّرُهنَّ أبكارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لأصْحَابِ الْيَمِينِ، {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [التوبة:72] فالمؤمناتُ يدخلْنَ الجنَّةَ كما يشاءُ اللهُ ويتمتعْنَ بنعيمها كذلك، ويُزوَّجْنَ من المؤمنين ممَّن شاءَ اللهُ، واللهُ أعلمُ كيفَ يكونُ ذلك.
– القارئ : كما أنَّ كونَهنَّ {عُرُبًا أَتْرَابًا} ملازمٌ لهنَّ في كلِّ حالٍ، والعَروبُ: هيَ المرأةُ المتحبِّبةُ إلى بعلِها بحسنِ لفظِها، وحسنِ هيئتِها ودلالِها وجمالِها ومحبَّتِها، فهيَ الَّتي إنْ تكلَّمَتْ سبَتِ العقولَ، وودَّ السَّامعُ أنَّ كلامَها لا ينقضي، خصوصًا عندَ غنائِهنَّ بتلكَ الأصواتِ الرَّخيمةِ والنَّغماتِ المطرِبةِ، وإنْ نظرَ إلى أدبِها وسمتِها ودلِّـها ملأَتْ قلبَ بعلِها فرحًا وسرورًا، وإنْ انتقلَتْ مِن محلٍّ إلى آخرَ، امتلأَ ذلكَ الموضعُ منها ريحًا طيِّبًا ونورًا، ويدخلُ في ذلكَ الغُنجةُ عندَ الجِماعِ.
والأترابُ اللَّاتي على سنٍّ واحدةٍ، ثلاثٍ وثلاثينَ سنةً، الَّتي هيَ غايةُ ما يتمنَّى وأكملُ سنِّ الشَّبابِ، فنساؤُهم عُرُبٌ أترابٌ، متَّفقاتٌ مؤتلفاتٌ، راضياتٌ مرضيَّاتٌ، لا يَحزنُ ولا يُحزِنُ
– الشيخ : على أيِّ حالٍ ليس بينهنَّ مثل ما بينَ الضَّرائر في الدُّنيا، بل هنَّ طيِّباتُ القلوبِ متآلفاتٌ، كلُّ العيوبِ الَّتي في لذَّاتِ الدُّنيا منتفيةٌ عن لذَّاتِ الآخرةِ: فليسَ الخمرُ كالخمر ولا النِّساءُ كالنِّساء في أخلاقهنَّ وطباعهنَّ فشتَّانَ بينَ هؤلاء وهؤلاء سبحانَ الله العظيم، خَيِّراتٌ، {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70] فكلُّ ما يُتصوَّرُ مِن حُسنِ الخَلقِ والخُلقِ فهو حاصلٌ في الدُّنيا [لعلَّ قصدَ الشَّيخ في الجنَّة] بل فيهنَّ من الصِّفاتِ الفاضلةِ لا يخطرُ بالبالِ كما في الحديثِ القدسيِّ: (قالَ اللهُ: أعددْتُ لعبادي الصَّالحينَ ما لا عينٌ رأَتْ ولا أذنٌ سمعَتْ ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ) هذا محقَّقٌ في مآكلِ الجنَّةِ ومشاربِها ونسائِها، وجميعُ أصنافِ نعيمِها لا يخطرُ في البالِ ولا يدورُ في الخيالِ.
– القارئ : بل هنَّ أفراحُ النُّفوسِ، وقرَّةُ العيونِ، وجِلاءُ الأبصارِ.
– الشيخ : ما أدري أيش؟ جِلاءُ الأبصارِ ذي ما لها، ما لها
– القارئ : {لأصْحَابِ الْيَمِينِ} أي: معدَّاتٌ لهم مهيَّئاتٌ.
{ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} أي: هذا القسمُ وهم أصحابُ اليمينِ عددٌ كثيرٌ مِن الأوَّلِينَ، وعددٌ كثيرٌ مِن الآخرينَ.
– الشيخ : بخلافِ السَّابقين فهم ثلَّةٌ من الأوَّلين وقليلٌ من الآخرين، أمَّا أهلُ اليمينِ فهم كثيرٌ من الأوَّلين وكثيرٌ من الآخرينَ، {ثُلَّةٌ} أي: جماعةٌ، تعبيرٌ عن الكثرةِ، {ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} أمَّا السَّابقون فالكثيرون في الأوَّلين وقليلٌ في الآخرين، ولابنِ القيِّم في النُّونيَّةِ فصلٌ عن هذين الصِّنفين أصحاب اليمين عن السَّابقين وأصحاب اليمينِ يقولُ:
أهلُ اليمينِ فثلَّةٌ معَ مثلِها والسَّابقونَ أقلُّ في الحسبانِ
ما ذاكَ إلَّا أنَّهم هم الغرباءُ ليسَتْ غربةُ الأوطانِ
لكنَّها واللهِ غربةُ قائمٍ بالدِّينِ بينَ عساكرِ الشَّيطانِ
فصلٌ بديعٌ جميلٌ!
– القارئ : قالَ اللهُ تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} الآياتِ:
المُرادُ بأصحابِ الشِّمالِ هم: أصحابُ النَّارِ، والأعمالِ المشؤومةِ.
فذكرَ اللهُ لهم مِن العقابِ ما هم حقيقونَ بهِ، فأخبرَ أنَّهم {فِي سَمُومٍ} أي: ريحٍ حارَّةٍ مِن حرِّ نارِ جهنَّمَ، يأخذُ بأنفاسِهم، وتقلقُهم أشدَّ القلقِ، {وَحَمِيمٍ} أي: ماءٍ حارٍّ يقطعُ أمعاءَهم.
{وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} أي: لهبِ نارٍ يختلطُ بدخانٍ.
{لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} أي: لا بردَ فيهِ ولا كرمَ، والمقصودُ أنَّ هناكَ الهمُّ والغمُّ، والحزنُ والشَّرُّ، الَّذي لا خيرَ فيهِ، لأنَّ نفيَ الضِّدِّ إثباتٌ لضدِّهِ.
ثمَّ ذكرَ أعمالَهم الَّتي أوصلَتْهم إلى هذا الجزاءِ فقالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} أي: قد ألهَتْهم دنياهم، وعملُوا لها، وتنعَّمُوا وتمتَّعُوا بها
– الشيخ : كما قالَ تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20] فالقرآنُ يفسِّرُ بعضُه بعضًا
– القارئ : فألهاهم الأملُ عن إحسانِ العملِ، فهذا هوَ التَّرفُ الَّذي ذمَّهم اللهُ عليهِ.
{وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} أي: وكانُوا يفعلونَ الذُّنوبَ الكبارَ ولا يتوبونَ منها، ولا يندمونَ عليها، بل يصرُّونَ على ما يسخطُ مولاهم، فقدمُوا عليهِ بأوزارٍ كثيرةٍ غيرِ مغفورةٍ.
وكانُوا ينكرونَ البعثَ، فيقولونَ استبعادًا لوقوعِهِ: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَاؤُنَا الأوَّلُونَ} أي: كيفَ نُبعَثُ بعدَ موتِنا وقد بَليْنا فكنَّا ترابًا وعظامًا؟ هذا مِن المُحالِ! قالَ تعالى جوابًا لهم وردًّا عليهم:
{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي: قلْ إنَّ متقدِّمَ الخلقِ ومتأخِّرَهم، الجميعَ سيبعثُهم اللهُ ويجمعُهم لـميقاتِ يومٍ معلومٍ، قدَّرَهُ اللهُ لعبادِهِ حينَ تنقضي الخليقةَ ويريدُ اللهُ تعالى جزاءَهم على أعمالِهم الَّتي عملُوها في دارِ التَّكليفِ.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ} عن طريقِ الهدى، التَّابعونَ لطريقِ الرَّدى، {الْمُكَذِّبُونَ} بالرَّسولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما جاءَ بهِ مِن الحقِّ والوعدِ والوعيدِ.
{لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} وهوَ أقبحُ الأشجارِ وأخسُّها، وأنتنُها ريحًا، وأبشعُها منظرًا.
{فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} والَّذي أوجبُ لهم أكلَها -معَ ما هيَ عليهِ مِن الشَّناعةِ- الجوعُ المفرِطُ، الَّذي يلتهبُ في أكبادِهم وتكادُ تنقطعُ منهُ أفئدتُهم، هذا الطَّعامُ الَّذي يدفعونَ بهِ الجوعَ، وهوَ الَّذي لا يُسمِنُ ولا يُغني مِن جوعٍ.
وأمَّا شرابُهم، فهوَ بئسَ الشَّرابُ، وهوَ أنَّهم يشربونَ على هذا الطَّعامِ مِن الماءِ الحميمِ الَّذي يغلي في البطونِ {شُرْبَ الْهِيمِ} وهيَ الإبلُ العِطاشُ، الَّتي قد اشتدَّ عطشُها، أو أنَّ الهيمَ داءٌ يصيبُ الإبلَ، لا تُروَى معَهُ مِن شرابِ الماءِ.
{هَذَا} الطَّعامُ والشَّرابُ {نزلُهُمْ} أي: ضيافتُهم {يَوْمَ الدِّينِ} وهيَ الضِّيافةُ الَّتي قدَّمُوها لأنفسِهم، وآثرُوها على ضيافةِ اللهِ لأوليائِهِ.
قالَ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:107-108]
ثمَّ ذكرَ الدَّليلَ العقليَّ على البعثِ، فقالَ..
– الشيخ : إلى آخرِهِ .