الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الحديد/(1) من قوله تعالى {سبح لله ما في السماوات والأرض} الآية 1 إلى قوله تعالى {يولج الليل في النهار} الآية 6

(1) من قوله تعالى {سبح لله ما في السماوات والأرض} الآية 1 إلى قوله تعالى {يولج الليل في النهار} الآية 6

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الحديد

الدَّرس: الأوَّل

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الحديد:1-6]

– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله.

هذه سورةُ الحديدِ، لأنَّ اللهَ قالَ فيها: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، وهذه السُّورةُ أغلبُها من القرآنِ المكِّيِّ الَّذي نزلَ قبلَ الهجرة، وفيها آياتٌ من القرآن المدنيِّ كالآياتِ الأخيرةِ فيها.

وافتُتِحَتْ بهذا التَّسبيحِ والتَّمجيد: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، وأخبرَ تعالى أنَّ له ملكُ السَّمواتِ والأرضِ فهو المالكُ لها وهو المدبِّرُ لكلِّ العالمِ العلويِّ والسُّفليِّ، وهو مالكُها، وهو الملكُ، وهو ملكُها، ومن أفعالِه أنَّه يحيي ويميتُ، كم يحيي! وكم يحيي! وكم يميتُ!، وهو الَّذي يحيي الموتى يومَ القيامةِ ويبعثُهم وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ لا يعجزُه شيءٌ في الأرض ولا في السَّماء {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44]

{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} هذهِ أربعةُ أسماءٍ من أسماءِ اللهِ هُوَ الْأَوَّلُ وَهو الْآخِرُ وَهو الظَّاهِرُ وَهو الْبَاطِنُ {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقد فسَّرَها النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديثِ الصَّحيحِ: (اللَّهمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ) هذا معناه، هو الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَه شَيْءٌ، وهو الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَه شَيْءٌ، وهذان الاسمانِ يدلَّانِ على دوامِه في الأزلِ وفي الأبدِ، فهوَ الَّذي لا بدايةَ لوجودِه ولا نهايةَ، وهو الظَّاهِرُ الَّذي لَيْسَ فَوْقَه شَيْءٌ، وَهو الْبَاطِنُ الَّذي لَيْسَ دُونَه شَيْءٌ، فيدلُّ الاسمُ الأوَّلُ على علوِّه فوقَ كلِّ شيءٍ، والاسمُ الآخرُ "الباطنُ" يدلُّ على إحاطة علمِه وسمعِه وبصرِه بكلِّ الوجودِ.

ثمَّ يخبرُ تعالى عن خلقِه السَّموات والأرض في ستَّة أيَّامٍ، وهذا في القرآنِ كثيرٌ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [السجدة:4]، أوَّلُها يومُ الأحدِ وآخرُها يومُ الجمعةِ.

ثمَّ قالَ تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ارتفعَ وعلا فوقَ العرشِ، والعرشُ فوقَ المخلوقاتِ فوقَ السَّموات وهو أعلى المخلوقاتِ، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} ما يدخلُ فيها، وَمَا يَخْرُجُ مِن الأرضِ، ماذا يدخلُ فيها؟ يدخلُ فيها أمورٌ كثيرةٌ، تدخلُ فيها أصولُ النَّباتِ، وتدخلُ فيها الحيواناتُ في جحورِها وفي بيوتِها، ويدخلُ فيها ما شاءَ اللهُ، ويخرجُ منها الحيواناتُ والنَّباتاتُ.

{وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} من الأقدارِ والأملاكِ، {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} كذلك، كلُّ ذلك قد أحاطَ به علمُ اللهِ، فيعلمُ كلَّ ذلك علمًا تفصيليًّا صغيرَها وكبيرَها.

ثمَّ قالَ تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} فجمعَ بينَ ذكرِ العلوِّ والمعيَّةِ، فهوَ جميع مخلوقاتِه وهو معَ العبادِ أينما كانوا.

ثمَّ أكَّدَ ذلكَ الخبرَ عن ملكِه {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} فجميعُ الأمورِ ترجعُ إليه؛ لأنَّه هو المدبِّرُ لهذا العالمِ علويِّه وسفليِّه {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}.

{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} وهذا من تدبيرِه أيضًا أنَّه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ يُدخلُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ فيأخذُ منه، وبالعكسِ {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} فإذا ولجَ اللَّيلُ في النَّهار قصرَ النَّهارُ وطالَ اللَّيلُ، وبالعكسِ إذا وقت ولوج النَّهار يقصرُ اللَّيلُ ويطولُ النَّهارُ.

{وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} علمُه تعالى محيطٌ بكلِّ شيءٍ، يحيطُ بما في النُّفوسِ فيعلمُ النِّيَّاتِ ويعلمُ الخواطرَ {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]، {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [آل عمران:29]، فاللهُ عليمٌ بما تسرُّه النُّفوسُ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:16]، أنتَ تفكِّرُ -يا إنسانُ- تفكِّرُ في أمرٍ من الأمور واللهُ يعلمُ ماذا تفكِّر فيه من خيرٍ أو شرٍّ أو بينَ ذلكَ.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:

تفسيرُ سورةِ الحديدِ، وهيَ مدنيَّةٌ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} الآياتِ:

يخبرُ تعالى عن عظمتِهِ وجلالِهِ وسعةِ سلطانِهِ، أنَّ جميعَ ما في السَّمواتِ والأرضِ مِن الحيواناتِ النَّاطقةِ وغيرِها والجوامدِ تسبِّحُ بحمدِ ربِّها، وتنزِّهُهُ عمَّا لا يليقُ بجلالِهِ، وأنَّها قانتةٌ لربِّها، منقادةٌ لعزَّتِهِ، قد ظهرَتْ فيها آثارُ حكمتِهِ، ولهذا قالَ: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فهذا فيهِ بيانُ عمومِ افتقارِ المخلوقاتِ العلويَّةِ والسُّفليَّةِ لربِّها، في جميعِ أحوالِها، وعمومِ عزَّتِهِ وقهرِهِ للأشياءِ كلِّها، وعمومِ حكمتِهِ في خلقِهِ وأمرِهِ.

ثمَّ أخبرَ عن عمومِ ملكِهِ، فقالَ: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي: هوَ الخالقُ للمخلوقاتِ، الرَّازقُ المدبِّرُ لها بقدرتِهِ {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

{هُوَ الأوَّلُ} الَّذي ليسَ قبلَهُ شيءٌ، {وَالآخِرُ} الَّذي ليسَ بعدَهُ شيءٌ {وَالظَّاهِرُ} الَّذي ليسَ فوقَهُ شيءٌ، {وَالْبَاطِنُ} الَّذي ليسَ دونَهُ شيءٌ {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قد أحاطَ علمُهُ بالظَّواهرِ والبواطنِ، والسَّرائرِ والخفايا، والأمورِ المتقدِّمةِ والمتأخِّرةِ.

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أوَّلُها يومُ الأحدِ وآخرُها يومُ الجمعةِ {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواءً يليقُ بجلالِهِ، فوقَ جميعِ خلقِهِ، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ} مِن حبٍّ وحيوانٍ ومطرٍ، وغيرِ ذلكَ. {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} مِن نبتٍ وشجرٍ وحيوانٍ وغيرِ ذلكَ، {وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ} مِن الملائكةِ والأقدارِ والأرزاقِ. {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} مِن الملائكةِ والأرواحِ، والأدعيةِ والأعمالِ، وغيرِ ذلكَ. {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} كقولِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] وهذهِ المعيَّةُ: معيَّةُ العلمِ والاطِّلاعِ، ولهذا توعَّدَ ووعدَ على المجازاةِ بالأعمالِ بقولِهِ: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: هوَ تعالى بصيرٌ بما يصدرُ منكم مِن الأعمالِ، وما صدرَتْ عنهُ تلكَ الأعمالُ، مِن بِرٍّ وفجورٍ، فمجازيكم عليها، وحافظُها عليكم.

{لَهُ ملك السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} ملكًا وخلقًا وعبيدًا، يتصرَّفُ فيهم بما شاءَهُ مِن أوامرِهِ القدريَّةِ والشَّرعيَّةِ، الجاريةِ على الحكمةِ الرَّبانيَّةِ، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ} مِن الأعمالِ والعمَّالِ، فيُعرَضُ عليهِ العبادُ، فيَمِيْزُ الخبيثَ مِن الطَّيِّبِ، ويجازي المحسِنَ بإحسانِهِ، والمسيءَ بإساءتِهِ.

{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي: يُدخلُ اللَّيلَ على النَّهارِ، فيغشيهم اللَّيلُ بظلامِهِ، فيسكنونَ ويهدؤونَ، ثمَّ يُدخلُ النَّهارَ على اللَّيلِ، فيزولُ ما على الأرضِ مِن الظَّلامِ، ويضيءُ الكونَ، فيتحرَّكُ العبادُ، ويقومونَ إلى مصالحِهم ومعايشِهم، ولا يزالُ اللهُ يكوِّرُ اللَّيلَ على النَّهارِ، والنَّهارَ على اللَّيلِ، ويُداولُ بينَهما، في الزِّيادةِ والنَّقصِ، والطُّولِ والقصرِ، حتَّى تقومَ بذلكَ الفصولُ، وتستقيمَ الأزمنةُ، ويحصلُ مِن المصالحِ ما يحصلُ بذلكَ، فتباركَ اللهُ ربُّ العالمينَ، وتعالى الكريمُ الجوادُ الَّذي أنعمَ على عبادِهِ بالنِّعمِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: بما يكونُ في صدورِ العالمينَ، فيوفِّقُ مَن يعلمُ أنَّهُ أهلٌ لذلكَ، ويخذلُ مَن يعلمُ أنَّهُ لا يصلحُ لهدايتِهِ.

الشيخ : إلى هنا.