بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الحديد
الدَّرس: الخامس
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [الحديد:16-19]
– الشيخ : إلى هنا.
الحمدُ للهِ، يقولُ تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} يعني: ألم يحِنِ الوقتُ الَّذي تخشعُ قلوبُ المؤمنين للهِ، والخشوعُ هو السُّكونُ والذُّلُّ، تخشعُ: تذِلُّ وتسكنُ لذكرِ اللهِ، {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} وهو القرآنُ والسُّنَّةُ، {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} الَّذينَ قسَتْ قلوبُهم {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}.
ثمَّ قالَ تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وهذا فيه بشارةٌ أنَّ اللهَ تعالى كما يُحيي الأرضَ بعدَ موتِها كذلكَ يُحيي القلوبَ بعدَ موتِها وقسوتِها، فهو الَّذي يمنُّ على من يشاءُ فيصلحُ قلبَه ويليِّنُ قلبَه {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
ثمَّ قالَ تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} يعني: المنفقينَ في سبيلِ اللهِ المتصدِّقينَ، {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} فالمتصدِّقُ في سبيلِ اللهِ يعاملُ ربَّه واللهُ يضاعفُ له المثوبةَ فيجزيهِ بالحسنةِ عشرَ أمثالها إلى سبعمائةِ ضعفٍ {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261]، سبحانَ الله العظيم، {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261]، {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ذكرَ اللهُ في هذه الآياتِ أصنافَ الصَّالحينَ، طبقات المؤمنين: الأنبياءُ والصِّدِّيقون والشُّهداءُ والصَّالحونَ، فهذه الطَّوائفُ الأربعةُ أُشيرَ إليها في هذهِ الآياتِ، المصدِّقونَ الَّذين تضاعفَ لهم الأجرُ هذا يتضمَّنُ صفةَ الصَّالحين، ثمَّ قولُهُ تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} فتضمَّنَتِ الآيةُ ذكرَ الرُّسلِ وذكرَ الصِّدِّيقينَ، ثمَّ قالَ تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} فتضمَّنَت الآيةُ ذكرَ الصَّالحين والصِّدِّيقينَ والنَّبيِّينَ والشُّهداء.
ثمَّ ذكرَ اللهُ ضدَّهم {وَ} هم {الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أعوذُ باللهِ، فشتَّانَ بينَ الفريقينِ في الأعمالِ والأحوالِ والمآلِ، فالمؤمنون المتَّقون أولياءُ اللهِ مآلُهم إلى كرامةِ اللهِ في جنَّاتِ النَّعيمِ، والَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآياتِ اللهِ مصيرُهم إلى الجحيمِ.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآياتِ:
لمَّا ذكرَ حالَ المؤمنينَ والمؤمناتِ والمُنافقينَ والمنافقاتِ في الدَّارِ الآخرةِ، كانَ ذلكَ ممَّا يدعو القلوبَ إلى الخشوعِ لربِّها، والاستكانةِ لعظمتِهِ، فعاتبَ اللهُ المؤمنينَ على عدمِ ذلكَ، فقالَ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ}
أي: ألم يأتِ الوقتُ الَّذي بهِ تلينُ قلوبُهم وتخشعُ لذكرِ اللهِ، الَّذي هوَ القرآنُ، وتنقادُ لأوامرِهِ وزواجرِهِ، وما نزلَ مِن الحقِّ الَّذي جاءَ بهِ محمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ وهذا فيهِ الحثُّ على الاجتهادِ على خشوعِ القلبِ للهِ تعالى، ولما أنزلَهُ مِن الكتابِ والحكمةِ، وأنْ يتذكَّرَ المؤمنونَ المواعظَ الإلهيَّةَ والأحكامَ الشَّرعيَّةَ كلَّ وقتٍ، ويحاسبُوا أنفسَهم على ذلكَ، {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ} أي: ولا يكونُوا كالَّذينَ أنزلَ اللهُ عليهم الكتابَ الموجبَ لخشوعِ القلبِ والانقيادِ التَّامِّ، ثمَّ لم يدومُوا عليهِ، ولا ثبتُوا، بل طالَ عليهم الزَّمانُ واستمرَّتْ بهم الغفلةُ، فاضمحلَّ إيمانُهم وزالَ إيقانُهم، {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} فالقلوبُ تحتاجُ في كلِّ وقتٍ إلى أنْ تُذكَّرَ بما أنزلَهُ اللهُ، وتنطقُ بالحكمةِ، كذا وتنطقُ
– الشيخ : إي، فالقلوبُ مرَّة ثانية
– القارئ : فالقلوبُ تحتاجُ في كلِّ وقتٍ إلى أنْ تُذكَّرَ بما أنزلَهُ اللهُ، وتنطقَ بالحكمةِ
– طالب: وتُناطَق بالحكمة
– الشيخ : تُناطَق؟
– طالب: إي
– الشيخ : كأنَّها جيِّد، كأنَّها مناسبةٌ
– القارئ : وتُناطَق؟
– الشيخ : لعلَّها
– القارئ : وتُناطَقَ بالحكمةِ ولا ينبغي الغفلةُ عن ذلكَ، فإنَّ ذلكَ سببٌ لقسوةِ القلبِ وجمودِ العينِ.
{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فإنَّ الآياتِ تدلُّ العقولَ على المطالبِ الإلهيَّةِ، والَّذي أحيا الأرضَ بعدَ موتِها قادرٌ على أنْ يُحييَ الأمواتَ بعدَ موتِهم، فيجازيهم بأعمالِهم، والَّذي أحيا الأرضَ بعدَ موتِها بماءِ المطرِ قادرٌ على أنْ يُحييَ القلوبَ الميتةَ بما أنزلَهُ مِن الحقِّ على رسولِهِ، وهذهِ الآيةُ تدلُّ على أنَّهُ لا عقلَ لمَن لم يهتدِ بآياتِ اللهِ ولم ينقدْ لشرائعِ اللهِ.
قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ…} الآياتِ:
{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} بالتَّشديدِ أي: الَّذينَ أكثرُوا مِن الصَّدقاتِ الشَّرعيَّةِ، والنَّفقاتِ المرضيَّةِ، {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} بأنْ قدَّمُوا مِن أموالِهم في طرقِ الخيراتِ ما يكونُ زاخرًا لهم عندَ ربِّهم،
– الشيخ : مدَّخَرًا
– القارئ : عندي زاخرًا
– الشيخ : إي هو يريدُ معناه، يمكن تمشي مدَّخرًا أوضح
– القارئ : ما يكونُ مُدَّخَرًا لهم عندَ ربِّهم، {يُضَاعَفُ لَهُمُ} الحسنةُ بعشرِ أمثالِها إلى سبعمائةِ ضعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ، {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} وهوَ ما أعدَّهُ اللهُ لهم في الجنَّةِ، ممَّا لا تعلمُهُ النُّفوسُ.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} والإيمانُ عندَ أهلِ السُّنَّةِ: هوَ ما دلَّ عليهِ الكتابُ والسُّنَّةُ، هوَ قولُ القلبِ واللِّسانِ، وعملِ القلبِ واللِّسانِ والجوارحِ، فيشملُ ذلكَ جميعَ شرائعِ الدِّينِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، فالَّذينَ جمعُوا هذهِ الأمورَ هم الصِّدِّيقونَ أي: الَّذينَ مرتبتُهم فوقَ مرتبةِ عمومِ المؤمنينَ، ودونَ مرتبةِ الأنبياءِ.
وقولُهُ: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} كما وردَ في الحديثِ الصَّحيحِ: (إنَّ في الجنَّةِ مائةُ درجةٍ، ما كلُّ درجتَينِ كما بينَ السَّماءِ والأرضِ، أعدَّها اللهُ للمجاهدينَ في سبيلِهِ) وهذا يقتضي شدَّةَ علوِّهم ورفعتِهم، وقربِهم للهِ تعالى.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} فهذهِ الآياتُ جمعَتْ أصنافَ الخلقِ، المتصدِّقينَ، والصِّدِّيقِينَ، والشُّهداءَ، وأصحابَ الجحيمِ، فالمتصدِّقونَ الَّذينَ جلُّ عملِهم الإحسانُ إلى الخلقِ، وبذلُ النَّفعِ إليهم بغايةِ ما يمكنُهم، خصوصًا بالنَّفعِ بالمالِ في سبيلِ اللهِ.
والصِّدِّيقونَ هم الَّذينَ كمَّلُوا مراتبَ الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ، والعلمِ النَّافعِ، واليقينِ الصَّادقِ، والشُّهداءُ هم الَّذينَ قاتلُوا في سبيلِ اللهِ لإعلاءِ كلمةِ اللهِ
– الشيخ : قاتلُوا وإلا قُتِلُوا؟
– القارئ : قاتلُوا
– الشيخ : ما في قُتِلُوا عندكم؟
– طالب: قُتِلوا
– طالب آخر: تأتي يا شيخ بعدَها "فقُتِلُوا"
– الشيخ : فقُتِلُوا تمام، قاتلُوا فقُتِلُوا؛ صحّ
– القارئ : والشُّهداءُ هم الَّذينَ قاتلُوا في سبيلِ اللهِ لإعلاءِ كلمةِ اللهِ، وبذلُوا أنفسَهم وأموالَهم فقُتِلُوا، وأصحابُ الجحيمِ هم الكفَّارُ الَّذينَ كذَّبُوا بآياتِ اللهِ.
وبقيَ قسمٌ ذكرَهم اللهُ في سورةِ فاطرٍ، وهم المقتصدونَ الَّذين أدَّوا الواجباتِ وتركُوا المحرَّماتِ، إلَّا أنَّهم حصلَ منهم تقصيرٌ ببعضِ حقوقِ اللهِ وحقوقِ عبادِهِ، فهؤلاءِ مآلُهم الجنَّةُ، وإنْ حصلَ لهم عقوبةٌ ببعضِ ما فعلُوا.
– الشيخ : نعم.