بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الحديد
الدَّرس: السَّادس
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:20-21]
– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
يقول تعالى: {اعْلَمُوا} إعلامٌ مِن الله للعباد بحقيقة الدنيا، وأن هذه الدنيا ما هي إلا -كما ذكرَ اللهُ- {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} أمورٌ باطلةٌ لعبٌ ولهوٌ وزخرفٌ، مَظهرٌ مظاهر وتكاثر وتفاخر، كلُّ هذه أعمال لا تُغني شيئًا ولا تعود على أهلِها بخير، {وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ}
ثم يضربُ الله لها مثلًا في ازدهارِها وزينتِها ثم ذهابها {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ} يَيْبَسُ {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ} يصيرُ {حُطَامًا} بعد أن كان مُزدهرًا وأخضر، بعد أن كان أخضرَ مُزدهرًا مزدانًا يصير هشيمًا تَذروهُ الرياح، وقد ضربَ الله هذا الـمَثَلَ في مواضع من القرآن، يضربُ اللهُ المثَلَ للدُّنيا بالغَيث الذي ينزلُ على الأرض فتَخضرُّ وتَنْبتُ أنواعَ النباتات وتزدهرُ الأرض بآثار الغيث، ثم سَرعان ما تطلع عليها الشمس وتهبُّ عليها الرياح فيذبُل النبات ويصفر وييبس ثم يصير إلى هَشيم مُكَسَّر حُطام تَذْروهُ الرياح.
{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} في الآخرة هذه الأمور العظيمة، {وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} للكافرين والمنافقين وأهل المعاصي كلٌّ بحسبِ حالِه وما يستحقُّ، وَفيها {مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} لأهل الإيمان والتقوى، فالآخرةُ فيها جزاءٌ العباد خيرًا كان أو شرًّا.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} مَتاعٌ يغترُّ به الجاهلون ويَفْتتونَ بِه ويُعظِّمونَه، الجاهلون يُعظِّمون هذه الدُّنيا ويتعلَّقون بها ويُؤْثِرُونَهَا على الدار الآخرة {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17،16] فالله في هذه الآيات يُعرِّفُ العبادَ بحقيقة هذه الدنيا حتى لا يَنخدعوا بها ولا يَغْتَرُّوا بها ولا يُؤْثِرُوها على الدار الآخرة.
ثم يُعَقِّبُ ذلك بدعوة العباد إلى السباق إلى مغفرةِ الله وكرامتِه {سَابِقُوا} وقال في الآية الأخرى: {وَسَارِعُوا} [آل عمران:133]، {سارعوا} و {سَابِقُوا} فهذه الدنيا دارُ سِباق، دار سباقٌ لخيرِ الآخرة، ولكنَّ أكثر الناس يتسابقون على الحظوظِ الدُّنيويَّة العاجلة، يتسابقون على حظوظ الدُّنيا مِن كثرةِ مالٍ وولدٍ وحُظوظٍ وجاهٍ وسلطان.
{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} جنة واسعة واسعة {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}، سبحان الله! شيءٌ لا تتصوَّرُهُ عقولُ الناسِ القاصرة، {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أُعِدَّتْ لِمَنْ؟ {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} وفي الآية الأخرى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] والمتَّقون هم الذين آمنوا بالله ورسولِه، فلا منافاةَ بين الآيتين. {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}.
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} الإيمانُ بالله ورسولِه {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} والجنةُ وما فيها مِن النعيم {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} فهذا هو السبب، الإيمان بالله ورسوله هو {فَضْلُ اللَّهِ} وهو السببُ، والجنة التي {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} هذه هي الكرامةُ والجزاء، وهي المسبَّب، فذكر اللهُ السببَ والـمُسبَّبَ، هذا هو الطريق، هذا هو السبيل، مَن يسابقُ إلى الجنة ويَطلبُها فليأخذْ بالسبب، والسببُ هو الإيمان بالله ورسولِه وتقوى الله في السِّرِّ والعلانية بفعلِ ما أمرَ به ورسولُه وتركِ ما نهى اللهُ عنه ورسولُه.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} الآيات:
يُخْبِرُ -تَعَالَى- عَنْ حَقِيقَةِ الدُّنْيَا وَمَا هِيَ عَلَيْهِ، وَيُبَيِّنُ غَايَتَهَا وَغَايَةَ أَهْلِهَا، بِأَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، تَلْعَبُ بِهَا الْأَبْدَانُ، وَتَلْهُو بِهَا الْقُلُوبُ، وَهَذَا مِصْدَاقُهُ مَا هُوَ مَوْجُودٌ وَوَاقِعٌ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ قَدْ قَطَعُوا أَوْقَاتَ عمرهم بِلَهْوِ قُلُوبِهِمْ، وَغَفْلَتِهِمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ
– الشيخ : نسأل الله العافية، هذا الشيخُ يقول: مِصداق هذا الواقع، الواقعُ شاهدٌ لِمَا أخبرَ الله به، فالمتعلِّقون بالدنيا هذه حياتُهم لعبٌ ولهوٌ، ولا سِيَّما إن المسلمين قد ابتُلوا بالتَّبَعيَّة للكفار والتقليد والإعجاب بهم، والكفارُ ليس لهم غايةٌ إلا الدنيا، ليس لهم آخرةٌ لا يفكّرون في الآخرة؛ لأنَّهم لا يؤمنون بها، فهمومُهم كلُّها للدنيا وفي الدنيا، {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3]، {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ} [يونس:7] هذه صفةُ حال الكفار، وكثيرٌ من المسلمين بسببِ التَّبَعيَّة والإعجاب بالكفار شابهوهم في هذا كلِّه، شابهوهم في الغفلةِ عن الآخرة، وفي الغفلة عن آيات الله، وفي الإقبال على هذه الدنيا وتعظيمِها والعنايةِ بزينتِها وزخرفِها وحظوظِها، سبحان الله! نسأل الله العافية، {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} سبحان الله العظيم!
تأمَّلوا تأمَّلوا الآن حال المسلمين في تصرفاتِهم أنواع اللَّعِب واللَّهو بما اجتلبَهُ وبما صنعَه الكفار وقذفُوا به إلى المسلمين باختيارِ المسلمين وبرضاهُم مثل هذه الآلاتِ الجوَّالات وما يتصلُّ بها مِن برامج متنوعة مختلفة تجلبُ لـِمُقْتَنِيْها أنواعَ اللَّهو وأنواعَ الباطل، وفيها برامج أنواع الألعاب الباطلة، وقُلْ مثلَ ذلك في اللَّعِب على مستوى الأمَّةِ وعلى مستوى الدول كالمبارياتِ الرياضيَّة التي يَتعلَّق بها كثير مِن الغَالطين الجاهلين الـمُؤْثِرينَ للدنيا ولَهْوِها وَلَعِبِهَا، فالشيخ يُنَبِّهُ يقول: يَشهدُ بما أخبر الله به الواقع، طبِّق قوله تعالى: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} طبقها على الواقع تجدها كذلك.
– القارئ : فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ قَدْ قَطَعُوا أَوْقَاتَ عمرِهم بِلَهْوِ قُلُوبِهِمْ، وَغَفْلَتِهِمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَمَّا أَمَامَهُمْ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَتَرَاهُمْ قَدِ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا، بِخِلَافِ أَهْلِ الْيَقَظَةِ وَعُمَّالِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ قُلُوبَهُمْ مَعْمُورَةٌ بِذِكْرِ اللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَقَدْ شَغَلُوا أَوْقَاتَهُمْ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ، مِنَ النَّفْعِ الْقَاصِرِ وَالْمُتَعَدِّي.
وقوله: {وَزِينَةً} أي: تَزَيُّنٌ
– الشيخ : العملُ القاصرُ: الذي ليسَ له أثرٌ على الآخرين مثل الصيام، الصيامُ مِن العمل القاصر على الإنسان نفسِه، أو الصلاة تصلِّيها هذه عملٌ قاصرٌ، لكن الصدقة عملٌ مُتَعَدٍّ للآخرين يصلُ نفعُه للآخرين، هذا عملٌ مُتعدٍّ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مِن العمل المتعدي نفعُه، التَّعليم كذلك، هذا العملُ المتعدّي، والقاصرُ: هو الذي أثرُه وفائدتُه تعودُ على المكلَّفِ وحدَه كالصيام والصلاة والذكر وما إلى ذلك.
– القارئ : وَقَوْلُهُ: {وَزِينَةً} أَيْ: تَزَيُّنٌ فِي اللِّبَاسِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْمَرَاكِبِ وَالدُّورِ وَالْقُصُورِ وَالْجَاهِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} أَيْ: كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا يُرِيدُ مُفَاخَرَةَ الْآخَرِ، وَأَنْ يَكُونَ هُوَ الْغَالِبُ فِي أُمُورِهَا، وَالَّذِي لَهُ الشُّهْرَةُ فِي أَحْوَالِهَا، {وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} أَيْ: كُلٌّ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْكَاثِرُ لِغَيْرِهِ فِي الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَهَذَا مِصْدَاقُهُ، وُقُوعُهُ مِنْ مُحِبِّي الدُّنْيَا وَالْمُطْمَئِنِّينَ إِلَيْهَا.
بِخِلَافِ مَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا وَحَقِيقَتَهَا، فَجَعَلَهَا مَعْبَرًا وَلَمْ يَجْعَلْهَا مُسْتَقَرًّا، فَنَافَسَ فِيمَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ، وَاتَّخَذَ الْوَسَائِلَ الَّتِي تُوَصِّلُهُ إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ وَإِذَا رَأَى مَنْ يُكَاثِرُهُ وَيُنَافِسُهُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، نَافَسَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
ثُمَّ ضَرَبَ لِلدُّنْيَا مَثَلًا
– الشيخ : اذكروا قصةَ الفقراءِ مع الأغنياء، الفقراءُ الذين جاؤوا إلى الرسولِ يشكون يقولونَ: "سبقَ أَهْلُ الدُّثُورِ" يَعنون الأغنياء، "يَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، ويتصدَّقون"، إذًا هم نافَسُوهُم في ماذا؟ في المالِ يريدون أن يكونوا أكثرَ منهم أو مثلهم؟ لا، نافَسُوهم في العملِ الصالح، فالموفَّقونَ يتنافسون في الأعمالِ الصالحة، والمخذولونَ يتنافسون في حظوظِ الدنيا.
– القارئ : ثُمَّ ضَرَبَ لِلدُّنْيَا مَثَلًا بِغَيْثٍ نَزَلَ عَلَى الْأَرْضِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ، حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا، وَأَعْجَبَ نَبَاتَها الْكَفَّارُ، الَّذِينَ قَصَرُوا نَظَرَهُمْ وَهِمَمَهُمْ عَلَى الدُّنْيَا جَاءَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا أَتْلَفَهَا فَهَاجَتْ وَيَبِسَتْ، فَعَادَتْ إِلَى حَالِهَا الْأُولَى، كَأَنَّهُ لَمْ يَنْبُتْ فِيهَا خَضْرَاءُ، وَلَا رُؤِيَ لَهَا مَرْأًى أَنِيقٌ، كَذَلِكَ الدُّنْيَا، بَيْنَمَا هِيَ زَاهِيَةٌ لِصَاحِبِهَا زَاهِرَةٌ، مَهْمَا أَرَادَ مِنْ مَطَالِبِهَا حَصَلَ، وَمَهْمَا تَوَجَّهَ لِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِهَا وَجَدَ أَبْوَابَهُ مُفَتَّحَةً، إِذْ أَصَابَهَا الْقَدَرُ فَأَذْهَبَهَا مِنْ يَدِهِ، وَأَزَالَ تَسَلُّطَهُ عَلَيْهَا، أَوْ ذَهَبَ بِهِ عَنْهَا، فَرَحَلَ مِنْهَا صِفْرَ الْيَدَيْنِ، لَمْ يَتَزَوَّدْ مِنْهَا سِوَى الْكَفَنِ، فَتَبًّا لِمَنْ أَضْحَتْ هِيَ غَايَةُ أُمْنِيَّتِهِ وَلَهَا عَمَلُهُ وَسَعْيُهُ.
– الشيخ : وكذلك هذه الحضارة يُنْتَظَرُ لها هذا المصيرُ وهذه النهاية، فهي في غايةٍ مِن الازدهارِ وهي مُهددةٌ بالانهيار {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا.. كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس:24].
– القارئ : وَأَمَّا الْعَمَلُ لِلْآخِرَةِ فَهُوَ الَّذِي يَنْفَعُ، وَيُدَّخَرُ لِصَاحِبِهِ، وَيَصْحَبُ الْعَبْدَ عَلَى الْأَبَدِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} أَيْ: حَالُ الْآخِرَةِ مَا يَخْلُو مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا الْعَذَابُ الشَّدِيدُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَأَغْلَالِهَا وَسَلَاسِلِهَا وَأَهْوَالِهَا
– الشيخ : أعوذ بالله، أعوذ بالله مِن النار
– القارئ : لِمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هِيَ غَايَتُهُ وَمُنْتَهَى مَطْلَبِهِ، فَتَجَرَّأَ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ، وَكَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَكَفَرَ بِأَنْعُمِ اللَّهِ.
وَإِمَّا مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ لِلسَّيِّئَاتِ، وَإِزَالَةٌ لِلْعُقُوبَاتِ، وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ، يُحِلُّ مَنْ أَحَلَّهُ عَلَيْهِ دَارَ الرِّضْوَانِ لِمَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا، وَسَعَى لِلْآخِرَةِ سَعْيَهَا. فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدْعُو إِلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ}
– الشيخ : هذا نُسمِّيهِ "موازنة"، الآن هذه موازنةٌ بين الدنيا والآخرة، اختر أيُّها العاقلُ أيَّ الأمرين، اخترِ الدَّارَ الفانيةَ الذاهبةَ التي إمَّا أن ترحلَ عنها وتتركها أو ترحلَ عنكَ وأنتَ تنظرُ، أمِ الدارَ الباقيةَ؟ اختر، فهذه موازنة بين الدَّار الباقية والدَّار الفانية.
– القارئ : أَيْ: إِلَّا مَتَاعٌ يُتَمَتَّعُ بِهِ وَيُنْتَفَعُ بِهِ، وَيُسْتَدْفَعُ بِهِ الْحَاجَاتُ، لَا يَغْتَرُّ بِهِ وَيَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ إِلَّا أَهْلُ الْعُقُولِ الضَّعِيفَةِ الَّذِينَ يَغُرُّهُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
ثُمَّ أَمَرَ بِالْمُسَابَقَةِ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالسَّعْيِ بِأَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ مِنَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالِاسْتِغْفَارِ النَّافِعِ وَالْبُعْدِ عَنِ الذُّنُوبِ وَمَظَانِّهَا، وَالْمُسَابَقَةِ إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْحِرْصِ عَلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ عَلَى الدَّوَامِ مِنَ الْإِحْسَانِ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ بِجَمِيعِ وُجُوهِ النَّفْعِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ الْأَعْمَالَ الْمُوجِبَةَ لِذَلِكَ، فَقَالَ: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يَدْخُلُ فِيهِ أُصُولُ الدِّينِ وَفُرُوعُهَا، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أَيْ: هَذَا الَّذِي بَيَّنَّاهُ لَكُمْ، وَذَكَرْنَا لَكُمْ فِيهِ الطُّرُقَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالطُّرُقَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَى النَّارِ، وَأَنَّ ثَوَابَ اللَّهِ بِالْأَجْرِ الْجَزِيلِ وَالثَّوَابِ الْجَمِيلِ مَنْ أَعْظَمِ مِنَّتِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَفَضْلِهِ. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} الَّذِي لَا يُحْصَى ثَنَاءٌ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَفَوْقَ مَا يُثْنِي عَلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ.
انتهى
– الشيخ : حسبك