بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة المجادلة
الدَّرس: الخامس
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:14-19]
– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله.
يقولُ اللهُ لنبيِّه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا} يعني: ألم تعلمْ وينتهي علمُكَ إلى هؤلاءِ {الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} تولَّوهم بالمناصرةِ والمعاونةِ والصَّداقةِ والمحبَّةِ، والَّذين غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هم اليهودُ، والَّذين تولَّوهم هم المنافقون، فالمنافقون يتولَّون الكفَّارَ يصانعونهم ويصادقونهم ضدَّ المسلمين، وهذا كما وقعَ في عهدِ النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يزلْ يقعُ عبرَ التاريخِ.
فالمنافقون هم العدوُّ الدَّاخليُّ، المنافقون هم العدوُّ الدَّاخليُّ يعاضدون ويناصرون ويصادقون العدوَّ الخارجيَّ، {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4]، وكما قالَ في السُّورةِ الأخرى الآتية سورة الحشر: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر:11]
فهؤلاءِ هم هم المعنيُّون في هذه الآياتِ، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} هؤلاءِ المنافقون ليسُوا من المسلمين وليسوا من أهلِ الكتابِ، لكنْ باطنُهم معَ أهلِ الكتابِ وظاهرُهم معَ المسلمينَ، {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء:143]، هذه حالُهم، فهم يأتون هؤلاءِ بوجهٍ وهؤلاء بوجهٍ، {قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} واليهودُ مغضوبٌ عليهم، كلَّما يُذكَرون يذكرُ اللهُ غضبَه عليهم كما في سورةِ البقرةِ وغيرِها، وهم المذكورون في سورةِ الفاتحةِ كما جاءَ في الحديثِ الصَّحيح: (اليهودُ مغضوبٌ عليهم والنَّصارى ضالُّونَ) إذًا هذا تفسيرُ هذه الآياتِ من سورةِ الفاتحةِ.
{تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} المنافقونَ دأبُهم الكذبُ، {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا}، {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} وهو الدَّركُ الأسفلُ من النَّار، هذا مصيرُ المنافقين {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، هذا الَّذي أعدَّهُ اللهُ لهم، {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ وحلفَهم ستارةً يتَّقونَ بها سطوةَ المسلمين وانتقامَ المسلمين منهم، يأتون ويعتذرون ويحلفون أنَّهم ما فعلوا ولا قالُوا.. {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} لن تنفعَهم أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ولا سلطانُهم ولا قوَّتُهم ولا مكرُهم وخداعُهم لا يغني عنهم شيئًا ولا ينجيهم من عذابِ اللهِ {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يخبرُ اللهُ تعالى عنهم أنَّهم يوم القيامةِ سيبعثُهم اللهُ معَ سائرِ النَّاسِ سيُبعَثون ولا يزالون في عماهم في ضلالهم يحلفون له تعالى كما يحلفونَ لكم {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} استولى عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ وتسلَّطَ عليهم وصارُوا مطيعينَ له منقادينَ لدعوتِه ومكرِهِ {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} فالمنافقون والكفَّار هم حزبُ الشَّيطانِ، والمؤمنون هم حزبُ اللهِ كما سيأتي في آخرِ آيةٍ، فالنَّاسُ حزبان: حزبُ اللهِ وحزبُ الشَّيطانِ، فالأنبياءُ وأتباعُهم حزبُ اللهِ وجندُ اللهِ، والكفَّارُ والمنافقون هم حزبُ الشَّيطانِ وجندُ الشَّيطانِ.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا} الآياتِ:
يخبرُ تعالى عن شناعةِ حالِ المنافقينَ الَّذين يتولَّونَ الكافرينَ مِن اليهودِ والنَّصارى وغيرِهم ممَّن غضبَ اللهُ عليهم، ونالُوا مِن لعنةِ اللهِ أوفى نصيبٍ، وأنَّهم ليسُوا مِن المؤمنينَ ولا مِن الكافرينَ، {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى..}
– الشيخ : وهم في الحقيقةِ من الكافرين، لكن ليسَ منهم في الانتسابِ الظَّاهر، ليسوا من أهلِ الكتابِ، ليسوا من اليهودِ، ليسوا من النَّصارى، لكنَّهم في بواطنِهم معَهم معَ اليهودِ والنَّصارى والمشركين، لأنَّهم أولياؤُهم يتولَّونهم.
– القارئ : {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143]
فليسُوا مؤمنينَ ظاهرًا وباطنًا لأنَّ باطنَهم معَ الكفَّارِ، ولا معَ الكفَّارِ ظاهرًا وباطنًا، لأنَّ ظاهرَهم معَ المؤمنينَ، وهذا وصفُهم الَّذي نعتَهم اللهُ بهِ، والحالُ أنَّهم يحلفونَ على ضدِّهِ الَّذي هوَ الكذبُ، فيحلفونَ أنَّهم مؤمنونَ، والحالُ أنَّهُ أنَّهم ليسُوا مؤمنينَ.
فجزاءُ هؤلاءِ الخونةِ الفجرةِ الكذبةِ، أنَّ اللهَ أعدَّ لهم عذابًا شديدًا، لا يُقادَرُ قدرُهُ، ولا يُعلَمُ وصفُهُ، إنَّهم ساءَ ما كانُوا يعملونَ، حيثُ عملُوا بما يسخطُ اللهَ ويوجبُ عليهم العقوبةَ واللَّعنةَ.
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي: تِرسًا ووقايةً، يتَّقونَ بها مِن لومِ اللهِ ورسولِهِ والمؤمنينَ، فبسببِ ذلكَ صدُّوا أنفسَهم وغيرَهم عن سبيلِ اللهِ، وهيَ الصِّراطُ الَّذي مَن سلكَهُ أفضى بهِ إلى جنَّاتِ النَّعيمِ. ومَن صدَّ عنهُ فليسَ إلَّا الصِّراطَ الموصِلَ إلى الجحيمِ، {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} حيثُ استكبرُوا عن الإيمانِ باللهِ والانقيادِ لآياتِهِ، أهانَهم بالعذابِ السَّرمديِّ، الَّذي لا يُفتَّرُ عنهم ساعةً ولا هم يُنظَرونَ.
{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي: لا تدفعُ عنهم شيئًا مِن العذابِ، ولا تحصِّلُ لهم قسطًا مِن الثَّوابِ، {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} الملازمونَ لها، الَّذين لا يخرجونَ عنها، و {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ومَن عاشَ على شيءٍ ماتَ عليهِ.
فكما أنَّ المنافقينَ في الدُّنيا يموِّهونَ على المؤمنينَ، ويحلفونَ لهم أنَّهم مؤمنونَ، فإذا كانَ يومُ القيامةِ وبعثَهم اللهُ جميعًا، حلفُوا للهِ كما حلفُوا للمؤمنينَ، ويحسبونَ في حَلفِهم هذا أنَّهم على شيءٍ، لأنَّ كفرَهم ونفاقَهم وعقائدَهم الباطلةَ، لم تزلْ ترسخُ في أذهانِهِم شيئًا فشيئًا، حتَّى غرَّتْهم وظنُّوا أنَّهم على شيءٍ يُعتَدُّ بهِ، ويُعلَّقُ عليهِ الثَّوابُ، وهم كاذبونَ في ذلكَ، ومِن المعلومِ أنَّ الكذبَ لا يَرُوْجُ على عالمِ الغيبِ والشَّهادةِ.
وهذا الَّذي جرى عليهم مِن استحواذِ الشَّيطانِ الَّذي استولى عليهم، وزيَّنَ لهم أعمالَهم، وأنساهم ذكرَ اللهِ، وهوَ العدوُّ المبينُ، الَّذي لا يريدُ بهم إلَّا الشَّرَّ، {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]
{أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الَّذينَ خسرُوا دينَهم ودنياهم وأنفسَهم وأهليهم.