الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الممتحنة/(2) من قوله تعالى {قد كانت لكم أسوة حسنة} الآية 4 إلى قوله تعالى {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة} الآية 7
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(2) من قوله تعالى {قد كانت لكم أسوة حسنة} الآية 4 إلى قوله تعالى {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة} الآية 7

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الممتحنة

الدَّرس: الثَّاني

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة:4-7]

الشيخ : إلى هنا.

الحمدُ للهِ، لما نهى اللهُ المؤمنين عن موادَّةِ الكافرين أعدائِهم أعداء اللهِ وأعدائِهم {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، وذكرَ ما يقتضي قطعَ موالاتهم؛ لما فعلُوه من الكفرِ والشِّركِ وإخراجِ الرَّسولِ والمؤمنين من بلادِهم وأرضِهم المسجد الحرام، أكَّدَ ذلكَ بذكرِ ما يحملُهم كذلك على موالاةِ أولياءِ اللهِ ومعاداةِ أعدائِه وهي الأسوةُ بإبراهيمَ أبيهم -أبي الأنبياءِ- الأسوةُ به وبالمؤمنين معَه في براءتِهم من الكافرين والمشركين ومن دينِهم ومن معبوداتهم، يعني عليكم أيُّها المؤمنون أنْ تتأسَّوا بإبراهيمَ -عليه السَّلامُ- ومَن معَه.

{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ} تقتدونَ بهم في براءتِهم من الكفرِ والكافرين {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} هذه منابذةٌ وإعلانٌ للعداوةِ، {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} فما دمْتُم على الكفرِ والشِّركِ فلا مودَّةَ ولا ولاءَ ولا نصرةَ ولا مهادنةَ، بل نحنُ برآءُ منكم ونحنُ أعداءٌ لكم ما دمْتُم مقيمين على الكفرِ {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}.

ثمَّ قالَ تعالى: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} فهذا مستثنىً من الأسوةِ بإبراهيمَ، يعني نتأسَّى بإبراهيمَ في براءتِه من الكفرِ والكافرين، ولكن لا نتأسَّى به في الاستغفارِ للمشركين، فإنَّ إبراهيمَ -عليه السَّلامُ- وعدَ أباه أن يستغفرَ له {إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114]، قالَ اللهُ: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} فهذا ليسَ داخلًا في ما نتأسَّى به في إبراهيمَ، نتأسَّى بإبراهيمَ فيه، يقولُ إبراهيمُ لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}.

ثمَّ ذكرَ دعاءَ هؤلاءِ المؤمنين: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

ثمَّ قالَ تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} هذا تأكيدٌ لما سبقَ وبيانٌ للَّذين يقومون بهذه العبوديَّةِ وهذه الطَّريق القويم البراءة من الكافرين {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} فالَّذين يرجونَ اللهَ واليومَ الآخرَ هؤلاء هم الَّذين يتأسُّون بإبراهيمَ ومَن معَه، كما قالَ تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، فالإيمانُ باللهِ واليومِ الآخرِ يبعثُ على القيامِ بهذا الواجبِ وهو التَّأسِّي بأنبياءِ اللهِ في براءتِهم من الكافرينَ {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}.

ثمَّ قالَ تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} يعني: هذا فيهِ وعدٌ بأنَّ اللهَ سيهدي من يشاءُ من الكافرين وتكونُ بينَهم وبينَ المؤمنين المودَّة بعدَما كانَ بينَهم العداوةُ الدِّينيَّةُ، فقد يهدي اللهُ الكافرين، فتعودُ المودَّةُ بينَهم وبينَ أقاربِهم وإخوانِهم الَّذين كانُوا مقاطعين لهم ومتبرِّئين منهم و"عسى" من اللهِ واجبةٌ، فيها الوعدُ، فيها وعدٌ أنْ تعودَ المودَّة.

{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ} من أرحامِكم وأقاربِكم، بينَكم وبينَهم مودَّةٌ، واللهُ قديرٌ، اللهُ قديرٌ على أنْ يهديَ القلوبَ ويصلحَ أحوالَ من شاءَ من عبادِه {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فإذا شاءَ تعالى هدى مَن شاءَ من هؤلاء الكافرين وغفرَ لهم حتَّى صارُوا في عدادِ المؤمنين فعادَتِ المودَّةُ بينَهم وبينَ أرحامِهم وأقاربِهم الَّذين كانَت بينَهم وبينَهم العداوةُ، وهذا واقعٌ فكم من المشركين مَن آمنَ واهتدى فصارَ من عِدادِ المؤمنين وعادَتِ المودَّةُ بينَهم وبينَ الَّذين كانُوا معادين لهم، وهذا راجعٌ إلى قدرةِ الله ومغفرته ورحمته، ولهذا قالَ: {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

القارئ : قالَ الإمامُ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِهِ تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} الآياتِ:

قد كانَ لكم يا معشرَ المؤمنينَ {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: قدوةٌ صالحةٌ وائتمامٌ ينفعُكم {فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} مِن المؤمنينَ، لأنَّكم قد أُمِرْتُم أنْ تتَّبعُوا ملَّةَ إبراهيمَ حنيفًا، {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: إذْ تبرَّأَ إبراهيمُ -عليهِ السَّلامُ- ومَن معَهُ مِن المؤمنينَ مِن قومِهم المشركينَ وممَّا يعبدونَ مِن دونِ اللهِ.

ثمَّ صرَّحُوا بعداوتِهم غايةَ التَّصريحِ، فقالُوا: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا} أي: ظهرَ وبانَ {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} أي: البغضُ بالقلوبِ، وزوالُ مودَّتِها، والعداوةُ بالأبدانِ، وليسَ لتلكَ العداوةِ والبغضاءِ وقتٌ ولا حدٌّ، بل ذلكَ {أَبَدًا} ما دمْتُم مستمرِّينَ على كفرِكم {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} أي: فإذا

الشيخ : يعني العداوةُ بينَنا وبينَكم مستمرَّةٌ حتَّى تؤمنوا {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ.. وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221]، فما نُهِيَ عنه من معاملةِ الكافرين مستمرٌّ حتَّى يؤمنوا ويعودوا إلى الصِّراطِ المستقيمِ.

 

القارئ : أي: فإذا آمنْتُم باللهِ وحدَهُ، زالَتِ العداوةُ والبغضاءُ، وانقلبَتْ مودَّةً وولايةً، فلكم أيُّها المؤمنونَ أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيمَ ومَن معَهُ في القيامِ بالإيمانِ والتَّوحيدِ بلوازمِ ذلكَ ومقتضياتِهِ، وفي كلِّ شيءٍ تعبدونَ بهِ للهِ وحدَهُ

الشيخ : البراءةُ من الكفَّارِ طاعةٌ للهِ ورسوله واتِّباعٌ للرُّسلِ -عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- إبراهيم والمؤمنين معه، وهي من أنواعِ العبوديَّة، فعبادةُ اللهِ تكونُ بالفعلِ وتكونُ بالتَّرك، بموالاةِ أولياءِ اللهِ ومعاداةِ أعداءِ اللهِ؛ لأنَّ المؤمنين يفعلون ذلك قربةً إلى الله وطاعةً لله وتحقيقًا لمحبَّتهم لله، فهم يحبُّون اللهَ ويحبُّون من يحبُّه اللهُ ويبغضونَ أعداءَ اللهِ موافقةً لله فإنَّ اللهَ عدوٌّ للكافرين، ولهذا قالَ في أوَّل السُّورة: {عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} [الممتحنة:1]، فعلى المؤمنين أن يعادوا أعداءَ اللهِ وأعداءَهم ويتبرَّؤُوا منهم.

 

القارئ : {إِلَّا} في خصلةٍ واحدةٍ وهيَ {قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ} آزرَ المشركِ، الكافرِ المعاندِ حينَ دعاهُ إلى الإيمانِ والتَّوحيدِ فامتنعَ، فقالَ إبراهيمُ: {لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ و} الحالُ أنِّي لا {أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} ولكنِّي أدعو ربِّي عسى أنْ لا أكونَ بدعاءِ ربِّي شقيًّا، فليسَ لكم أنْ تقتدوا بإبراهيمَ في هذهِ الحالةِ الَّتي دعا بها للمشرِكِ، فليسَ لكم أنْ تدعوا للمشركينَ، وتقولُوا: إنَّا في ذلكَ متَّبعونَ لملَّةِ إبراهيمَ، فإنَّ اللهَ ذكرَ عذرَ إبراهيمَ في ذلكَ بقولِهِ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ…} [التوبة:114]، الآياتِ.

ولكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيمَ ومَن معَهُ، حينَ دعوا اللهَ وتوكَّلُوا عليهِ وأنابُوا إليهِ، واعترفُوا بالعجزِ والتَّقصيرِ، فقالُوا: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} أي: اعتمدْنا عليكَ في جلبِ ما ينفعُنا ودفعِ ما يضرُّنا، ووثقْنا بكَ يا ربَّنا في ذلكَ.

{وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} أي: رجعْنا إلى طاعتِكَ ومرضاتِكَ وجميعِ ما يقرِّبُ إليكَ، فنحنُ في ذلكَ ساعونَ، وبفعلِ الخيراتِ مجتهدونَ، ونعلمُ أنَّا إليكَ نصيرُ، فسنستعدُّ للقدومِ عليكَ، ونعملُ ما يُزلفُنا إليكَ.

– طالب: ما يقرِّبُنا زلفىً إليكَ.

الشيخ : نعم

القارئ : {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي: لا تسلِّطْهم علينا بذنوبِنا، فيفتنونا، ويمنعونا ممَّا يقدرونَ عليهِ مِن أمورِ الإيمانِ، ويفتنونَ أيضًا بأنفسِهم فإنَّهم إذا رأَوا لهم الغلبةَ، ظنُّوا أنَّهم على الحقِّ وأنَّا على الباطلِ فازدادُوا كفرًا وطغيانًا، {وَاغْفِرْ لَنَا} ما اقترفْنا مِن الذُّنوبِ والسَّيِّئاتِ وما قصَّرْنا بهِ مِن المأموراتِ، {رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} القاهرُ لكلِّ شيءٍ، {الْحَكِيمُ} الَّذي يضعُ الأشياءَ مواضعَها، فبعزَّتِكَ وحكمتِكَ انصرْنا على أعدائِنا، واغفرْ لنا ذنوبَنا، وأصلحْ عيوبَنا.

ثمَّ كرَّرَ الحثَّ لهم على الاقتداءِ بهم، فقالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وليسَ كلُّ أحدٍ تسهلُ عليهِ هذهِ الأسوةُ، وإنَّما تسهلُ على مَن {كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} فإنَّ الإيمانَ واحتسابَ الأجرِ والثَّوابِ، يسهِّلُ على العبدِ كلَّ عسيرٍ، ويقلِّلُ لديهِ كلَّ كثيرٍ، ويوجبُ لهُ الإكثارَ مِن الاقتداءِ بعبادِ اللهِ الصَّالحينَ، والأنبياءِ والمرسلينَ، فإنَّهُ يرى نفسَهُ مفتقرًا ومضطرًّا إلى ذلكَ غايةَ الاضطرارِ.

{وَمَنْ يَتَوَلَّ} عن طاعةِ اللهِ والتَّأسِّي برسلِ اللهِ، فلن يضرَّ إلَّا نفسَهُ، ولا يضرُّ اللهَ شيئًا، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} الَّذي لهُ الغِنى التَّامُّ المطلَقُ مِن جميعِ الوجوهِ، فلا يحتاجُ إلى أحدٍ مِن خلقِهِ بوجهٍ، {الْحَمِيدُ} في ذاتِهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، فإنَّهُ محمودٌ على ذلكَ كلِّهِ.

ثمَّ أخبرَ تعالى أنَّ هذهِ العداوةَ الَّتي أمرَ اللهُ بها المؤمنينَ للمشركينَ، ووصفَهم بالقيامِ بها أنَّهم ما دامُوا على شركِهم وكفرِهم، وأنَّهم إنْ انتقلُوا إلى الإيمانِ، فإنَّ الحكمَ يدورُ معَ علَّتِهِ، والمودَّةُ الإيمانيَّةُ ترجعُ، فلا تيأسُوا أيُّها المؤمنونَ، مِن رجوعِهم إلى الإيمانِ، فـ {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} سببُ رجوعِهم إلى الإيمانِ، {وَاللَّهُ قَدِيرٌ} على كلِّ شيءٍ، ومِن ذلكَ هدايةُ القلوبِ وتقليبُها مِن حالٍ إلى حالٍ، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لا يتعاظمُهُ ذنبٌ أنْ يغفرَهُ، ولا يكبرُ عليهِ عيبٌ أنْ يسترَهُ، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، وفي هذهِ الآيةِ إشارةٌ وبشارةٌ بإسلامِ بعضِ المشركينَ، الَّذينَ كانُوا إذْ ذاكَ أعداءً للمؤمنينَ، وقد وقعَ ذلكَ، وللهِ الحمدُ والمنَّةُ.

{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} [الممتحنة:8]

الشيخ : أحسنْتَ

القارئ : أحسنَ اللهُ إليكَ

الشيخ : لقد أسلمَ كثيرٌ من المشركين بعدَ نزولِ هذه الآياتِ، فبعدَ صلحِ الحديبيةِ وتمَّ الصُّلحُ واستقرَّتْ وكفَّ النَّاسُ بعضَهم عن بعضٍ ووُقِفَ القتالُ أسلمَ كثيرون ودخلُوا في دينِ اللهِ أفواجًا.