الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الجمعة/(1) من قوله تعالى {يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض} الآية 1 إلى قوله تعالى {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } الآية 8
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(1) من قوله تعالى {يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض} الآية 1 إلى قوله تعالى {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } الآية 8

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الجمعة

الدَّرس: الأوَّل

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:1-8]

– الشيخ : نعم إلى هنا.

الحمدُ لله، هذه سورةُ الجمعةِ وهي مدنيَّةٌ، وافتُتِحَتْ بمثل ما افتُتِحَتْ به بعضُ السُّورِ الَّتي تقدَّمَتْ، افتُتِحَتْ بذكرِ تسبيحِ العوالمِ له سبحانه وتعالى، فهذه "الـمُسبِّحاتُ".

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يسبِّحونه، ينزِّهونه عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ، ويثنونَ عليه ويحمدونَه ويقدِّسونَه، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}

{الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ} تقدَّمَ هذانِ الاسمانِ في سورةِ الحشرِ {الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ} فمِن أسمائِه تعالى "الملكُ" الَّذي له ملكُ السَّمواتِ والأرضِ ومَن فيهنَّ، {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:83]، وهو "القدُّوس" المتقدِّسُ عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ، الـمُقَدَّسُ الَّذي تقدِّسُه ملائكتُه وأنبياؤُه وأولياؤُه {الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} فهذه أربعةُ أسماءٍ جاءَتْ متتابعةً {الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} كذا الآية؟

– طالب: نعم

– الشيخ : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} أيضًا ومن محامدِه، ومن آثارِ كرمِه ورحمتِه، من آثارِ كرمِه ورحمتِه -سبحانه وتعالى- أنْ {بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} وهو محمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، خاتمُ النَّبيِّين وسيِّدُ ولدِ آدمَ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، والأمِّيُّون كلُّ من ليسُوا من أهلِ الكتابِ، ومنهم العربُ، فالأمِّيُّون مَن ليسَ مِن أهلِ الكتابِ، مَن ليسَ له كتابٌ، {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} [آل عمران:20]، فقرنَ بينَ الَّذين أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ، فهنا يقولُ: {بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ} آياتِ اللهِ، هذا ما أُمِرَ به وكُلِّفَ به، اللهُ بعثَهُ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِ اللهِ {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، {وَيُزَكِّيهِمْ}، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} يُزَكِّيهِمْ بما يرشدُهم إليه من الأخلاقِ الكريمةِ والأعمالِ الصَّالحةِ الَّتي تزكو بها النُّفوسُ وتتطهَّرُ بها الأرواحُ.

{وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} والكتابُ: القرآنُ، والحكمةُ: هيَ السُّنَّةُ، كما قالَ تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113]، وَيُعَلِّمُهُمُ الْحِكْمَةَ الَّتي هي وضعُ الأشياءِ في مواضعِها، وهذه الحكمةُ يتضمَّنُها القرآنُ وتتضمَّنُها السُّنَّةُ {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة:269]

يقولُ تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} كانَ الأمِّيُّون قبلَ بعثةِ محمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ضلالٍ مبينٍ من الجهالاتِ وأنواعِ الكفرِ وأنواعِ المعاصي، كانُوا في ضلالٍ وفي بعدٍ عن الطَّريقِ المستقيمِ في بعدٍ عن هدى اللهِ، في ظلماتِ الكفرِ وظلماتِ الجهلِ وظلماتِ المعاصي بأنواعِها من ارتكابِ الفواحشِ والظُّلمِ والعدوانِ -عدوانِ بعضِهم على بعضٍ- مَن أعرضَ عن هدى اللهِ تاهَ في الضَّلالاتِ وتخبَّطَ ووقعَ في أنواعِ القبائحِ {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: ضلالٍ بيِّنٍ ظاهرٍ يدركُه من له عقلٌ سليمٌ.

ثمَّ قالَ تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} المقصودُ بهذا هم الَّذين جاؤوا من بعد الأوَّلين الجيل الأوَّل، فيدخل في الأوَّلين الصَّحابةُ، ويدخلُ في الآخرين التَّابعون، {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} و "لَمَّا" هذه تأتي تدلُّ على أنَّ المنفيَّ لم يقعْ لكنَّه متوقَّعٌ، {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} كما قالَ تعالى: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص:8]، أي: سيذوقوا عذابًا {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} العلمُ والإيمانُ {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} فالَّذين حصلَ لهم العلمُ والزَّكاءُ والاهتداءُ هؤلاء قد نالُوا فضلَ اللهِ وفازُوا بنعمتِه العظيمةِ واللهُ يُؤتي فضلَه {مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} يمنُّ على مَن يشاءُ وهو العزيزُ الحكيمُ سبحانه وتعالى.

ثمَّ ضربَ مثلًا لليهودِ الَّذين جاءَهم موسى -عليه السَّلامُ- بالتَّوراة، ولكنَّهم لم يعملوا بها ولم يهتدوا بها بل حرَّفوها {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} يعني: كُلِّفُوا بها كُلِّفُوا بالعملِ بها، ولكنَّهم لم يفعلوا {حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} فمثلُهم كمثلِ حمارٍ حُمِّلَ أسفارًا فيها العلمُ وهو لا ينتفعُ منها بشيءٍ، لا ينتفعُ، لا يحصلُ له منها إلَّا العبءَ الثَّقيلَ، إلَّا ما يجدُه من مشقَّةِ الحملِ {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} أسفارًا من الكتبِ المشتملةِ على العلمِ، فهذا الحمارُ ليسَ له من هذه الأسفارِ إلَّا تعبُ الحملِ، فهكذا اليهودُ ضربَ اللهُ لهم بهذا المثلِ السُّوء، مثل السُّوء.

{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ}، {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ} "بئسَ" فعلٌ يدلُّ على الذَّمِّ، {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} هذا المثلُ، {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} ذلك المثل، فهذا مثلُ سوءٍ يصوِّرُ حالَ اليهودِ، ويتضمَّنُ تقبيحَ حالِهم وتقبيحَ سيرتِهم.

ثمَّ قالَ تعالى آمرًا نبيَّه: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا} يعني: قلْ لليهودِ، الَّذينَ هادُوا هم اليهودُ، قيلَ: سُمُّوا يهودًا لقولِ موسى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:156]، أي: تبْنا إليكَ، ولكن هنا ليسَ المرادُ أنَّهم الَّذين تابُوا بل الَّذين صارُوا يهودًا، {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} واليهودُ يزعمون أنَّهم أَوْلِيَاءُ الِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ، كما يقولونَ إنَّ لهم الدَّارَ الآخرةَ، لهم الجنَّةُ {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]

قالَ اللهُ تعالى: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} إنْ كنْتُم أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ وأنَّ لكم الجنَّةَ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ حتَّى تصيروا إلى الجنَّةِ، وهذا فيه تحدٍّ لهم وإفحامٌ لهم وإبطالٌ لدعواهم، من يعلمُ أنَّه من أهلِ الجنَّةِ حقيقٌ له أنْ يتمنَّى الموتَ حتَّى ينتقلَ من هذه الدُّنيا وعنائِها وشقائِها ونغصِها إلى دارِ الكرامةِ والنَّعيمِ التَّامِّ.

قالَ اللهُ: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أخبرَ تعالى أنَّهم لا يتمنَّونه أبدًا بسببِ ما قدَّمَتْ أيديهم من الأعمالِ السَّيِّئةِ والكفرِ والتَّكذيبِ وقتلِ الأنبياءِ وتحريفِ كتبِ اللهِ وما ارتكبُوه من العظائمِ {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.

ثمَّ قالَ تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} الموتُ لا مفرَّ منهُ، فمَن فرَّ منه فإنَّه إنْ لم يدركْه من ورائِه فإنَّه يلقاه أمامَه، فهذا الفارُّ يفرُّ من الموتِ والموتُ أمامَه {فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} لم يقلْ: "فإنَّه مدركُكم" في هذه الآيةِ، وفي الآيةِ الأخرى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء:78] فالموتُ لا يفلتُ منه أحدٌ؛ لأنَّ اللهَ قد حكمَ به على هذه الخليقةِ {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة:60]، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} هذا حكمٌ عامٌّ {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:57]، ولهذا الموتِ وقتٌ معلومٌ مكتوبٌ لكلِّ نفسٍ، {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:145]

قالَ تعالى: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} بالموتِ يرجعُ العبادُ إلى اللهِ فينبِّئُهم بما عملُوا ويجزيهم على ذلكَ.

 

(تفسيرُ الشَّيخِ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى-:

تفسيرُ سورةِ الجمعةِ، وهيَ مدنيَّةٌ:

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الآياتِ: {الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} أي: يسبِّحُ للهِ، وينقادُ لأمرِهِ، ويتألَّهُهُ، ويعبدُهُ، جميعُ ما في السَّمواتِ والأرضِ، لأنَّهُ الكاملُ الملكُ، الَّذي لهُ ملكُ العالمِ العلويِّ والسُّفليِّ، فالجميعُ مماليكُهُ، وتحتَ تدبيرِهِ، {الْقُدُّوسُ} المعظَّمُ، المنزَّهُ عن كلِّ آفةٍ ونقصٍ، {الْعَزِيزُ} القاهرُ للأشياءِ كلِّها، {الْحَكِيمُ} في خلقِهِ وأمرِهِ.

فهذهِ الأوصافُ العظيمةُ ممَّا تدعو إلى عبادةِ اللهِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ.

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ}

المرادُ بالأمِّيِّينَ: الَّذين لا كتابَ عندَهم، ولا أثرَ رسالةٍ مِن العربِ وغيرِهم، ممَّن ليسُوا مِن أهلِ الكتابِ، فامتنَّ اللهُ تعالى عليهم، منَّةً عظيمةً، أعظمُ مِن منَّتِهِ على غيرِهم، لأنَّهم عادمونَ للعلمِ والخيرِ، وكانُوا في ضلالٍ مبينٍ، يتعبَّدونَ للأصنامِ والأشجارِ والأحجارِ، ويتخلَّقونَ بأخلاقِ السِّباعِ الضَّاريةِ، يأكلُ قويُّهم ضعيفَهم، وقد كانُوا في غايةِ الجهلِ بعلومِ الأنبياءِ، فبعثَ اللهُ فيهم رسولًا منهم، يعرفونَ نسبَهُ، وأوصافَهُ الجميلةَ وصدقَهُ، وأنزلَ عليهِ كتابَهُ {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} القاطعةَ الموجبةَ للإيمانِ واليقينِ، {وَيُزَكِّيهِمْ} بأنْ يفصلَ على الأخلاقِ الفاضلةِ، ويحثَّهم لهم، ويزجرَهم عن الأخلاقِ الرَّذيلةِ، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أي: علمَ الكتابِ وعلمَ السُّنَّةِ، المشتمِلُ ذلكَ علومَ الأوَّلينَ والآخرينَ، فكانُوا بعدَ هذا التَّعليمِ والتَّزكيةِ منهُ أعلمَ الخلقِ، بل كانُوا أئمَّةَ أهلِ العلمِ والدِّينِ، وأكملَ الخلقِ أخلاقًا، وأحسنَهم هديًا وسمتًا، اهتدَوا بأنفسِهم، وهدَوا غيرَهم، فصارُوا أئمَّةَ المهتدينَ، وقادةَ المؤمنينَ، فللَّهِ عليهم ببعثِهِ هذا الرَّسولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أكملُ نعمةٍ، وأجلُّ منحةٍ، وقولُهُ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} أي: وامتنَّ على آخرينَ مِن غيرِهم أي: مِن غيرِ الأمِّيِّينَ، ممَّن يأتي بعدَهم، ومِن أهلِ الكتابِ، لما يلحقُوا بهم، أي: فيمن باشرَ دعوةَ الرَّسولَ، يُحتمَلُ أنَّهم لما يلحقُوا بهم في الفضلِ، ويُحتمَلُ أنْ يكونُوا لمَّا يلحقُوا بهم في الزَّمانِ، وعلى كلٍّ، فكِلا المعنيَينِ صحيحٌ، فإنَّ الَّذينَ بعثَ اللهُ فيهم رسولَهُ وشاهدُوهُ وباشرُوا دعوتَهُ، حصلَ لهم مِن الخصائصِ والفضائلِ ما لا يمكنُ أحدًا أنْ يلحقَهم فيها، وهذا مِن عزَّتِهِ وحكمتِهِ، حيثُ لم يتركْ عبادَهُ هملًا ولا سدىً، بل ابتعثَ فيهم الرُّسلَ، وأمرَهم ونهاهم، وذلكَ مِن فضلِ اللهِ العظيمِ، الَّذي يؤتيهِ مَن يشاءُ مِن عبادِهِ، وهوَ أفضلُ مِن نعمتِهِ عليهم بعافيةِ البدنِ وسعةِ الرِّزقِ، وغيرِ ذلكَ، مِن النِّعمِ الدُّنيويَّةِ، فلا أعظمَ مِن نعمةِ الدِّينِ الَّتي هيَ مادَّةُ الفوزِ، والسَّعادةِ الأبديَّةِ.

قالَ اللهُ تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} الآياتِ:

لمَّا ذكرَ تعالى منَّتَهُ على هذهِ الأمَّةِ، الَّذينَ ابتعثَ فيهم النَّبيَّ الأمِّيَّ، وما خصَّهم اللهُ بهِ مِن المزايا والمناقبِ، الَّتي لا يلحقُهم فيها أحدٌ وهم الأمَّةُ الأمِّيَّةُ الَّذينَ فاقُوا الأوَّلينَ والآخرينَ، حتَّى أهلَ الكتابِ، الَّذين يزعمونَ أنَّهم العلماءُ الرَّبَّانيُّونَ والأحبارُ المتقدِّمونَ، ذكرَ أنَّ الَّذينَ حمَّلَهم اللهُ التَّوراةَ

– الشيخ : حمَّلهم

– القارئ : ذكرَ أنَّ الَّذينَ حمَّلَهم اللهُ التَّوراةَ مِن اليهودِ وكذا النَّصارى، وأمرَهم أنْ يتعلَّمُوها، ويعملُوا

– الشيخ : قولُه: "وكذا النَّصارى" ينبِّهُ الشَّيخُ إلى أنَّ النَّصارى أيضًا هم متعبَّدون بالتَّوراة لأنَّ عيسى -عليه السَّلامُ- كما تقدَّمَ لم يكن ناسخًا لشريعةِ التَّوراة إلَّا إنَّما نسخَ بعضَها كما قالَ تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، فالنَّصارى متعبَّدون بالتَّوراةِ كذلك.

 

– القارئ : وكذا النَّصارى وأمرَهم أنْ يتعلَّمُوها، ويعملُوا بما فيها، وأنَّهم لم يحملُوها ولم يقومُوا بما حُمِّلُوا بهِ، أنَّهم لا فضيلةَ لهم، وأنَّ مثلَهم كمثلِ الحمارِ الَّذي يحملُ فوقَ ظهرِهِ أسفارًا مِن كتبِ العلمِ، فهل يستفيدُ ذلكَ الحمارُ مِن تلكَ الكتبِ الَّتي فوقَ ظهرِهِ؟ وهل تلحقُهُ فضيلةٌ بسببِ ذلكَ؟ أم حظُّهُ منها حملُها فقط؟ فهذا مثلُ علماءِ أهلِ الكتابِ الَّذين لم يعملُوا بما في التَّوراةِ، الَّذي مِن أجلِّهِ وأعظمِهِ الأمرُ باتِّباعِ محمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والبشارةُ بهِ، والإيمانُ بما جاءَ بهِ مِن القرآنِ، فهل استفادَ مَن هذا وصفُهُ مِن التَّوراةِ إلَّا الخيبةَ والخسرانَ وإقامةَ الحجَّةِ عليهِ؟ فهذا المثلُ مطابقٌ لأحوالِهم.

{بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} الدَّالَّةِ على صدقِ رسولِنا وصدقِ ما جاءَ بهِ.

{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي: لا يرشدُهم إلى مصالحِهم، ما دامَ الظُّلمُ لهم وصفًا، والعنادُ لهم نعتًا ومِن ظلمِ اليهودِ وعنادِهم، أنَّهم يعلمونَ أنَّهم على باطلٍ، ويزعمونَ أنَّهم على حقٍّ، وأنَّهم أولياءُ اللهِ مِن دونِ النَّاسِ.

ولهذا أمرَ اللهُ رسولَهُ، أنْ يقولَ لهم: إنْ كنْتُم صادقينَ في زعمِكم أنَّكم على الحقِّ، وأولياءُ اللهِ: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} وهذا أمرٌ خفيفٌ، فإنَّهم لو علمُوا أنَّهم على حقٍّ لَمَّا توقَّفُوا عن هذا التَّحدِّي الَّذي جعلَهُ اللهُ دليلًا على صدقِهم إنْ تمنَّوهُ، وكذبِهم إنْ لم يتمنَّوهُ ولمَّا لم يقعْ منهم معَ الإعلانِ لهم بذلكَ، عُلِمَ أنَّهم عالمونَ ببطلانِ ما هم عليهِ وفسادِهِ، ولهذا قالَ: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: مِن الذُّنوبِ والمعاصي، الَّتي يستوحشونَ مِن الموتِ مِن أجلِها، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فلا يمكنُ أنْ يخفى عليهِ مِن ظلمِهم شيءٌ، هذا وإنْ كانُوا لا يتمنَّونَ الموتَ بما قدَّمَتْ أيديهم، بل يفرُّونَ منه غايةَ الفرارِ، فإنَّ ذلكَ لا ينجيهم، بل لا بدَّ أنْ يلاقيَهم الموتُ الَّذي قد حتَّمَهُ اللهُ على العبادِ وكتبَهُ عليهم.

ثمَّ بعدَ الموتِ واستكمالِ الآجالِ، يُرَدُّ الخلقُ كلُّهم يومَ القيامةِ إلى عالمِ الغيبِ والشَّهادةِ، فينبِّئُهم بما كانُوا يعملونَ، مِن خيرٍ وشرٍّ، قليلٍ وكثيرٍ. انتهى.

– الشيخ : أحسنْتَ.