الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الطلاق/(1) من قوله تعالى {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} الآية 1 إلى قوله تعالى {ويرزقه من حيث لا يحتسب} الآية 3

(1) من قوله تعالى {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} الآية 1 إلى قوله تعالى {ويرزقه من حيث لا يحتسب} الآية 3

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الطَّلاق

الدَّرس: الأوَّل

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشيطانِ الرجيمِ، بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:1-3]

– الشيخ : إلى هنا.

بسم الله الرحمن الرحيم، هذه سورة ويُقالُ لها: "سورةُ النِّساء الصُّغرى"، وهي مدنيَّة، افتُتِحَتْ بخطابِ النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} واللهُ -تعالى- دائمًا يخاطب نبيَّه بصفةِ النبوة وصفةِ الرسالة {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:67،41] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ولا يقول: "يا محمَّد"، تشريفًا له -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- بما أكرمَهُ الله به مِن النُّبوة والرسالة.

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وبهذا يُعلَم أنَّ هذا الخطاب وإن كان للنبي -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- فهو للأمةِ {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} يعني: إذا أردتُم تطليقَهُنَّ {فَطَلِّقُوهُنَّ}  لوقتِ عدَّتهن، للوقت الذي يُعتدُّ فيه، في الوقت الذي يُعتبر أو يُحتسَبُ مِن العِدَّة، وهي أن يُطلقها طاهرًا طُهرًا لم يمسَّها فيه، طلاقُ السُّنة: أن يُطلقها واحدة في طُهرٍ لم يُجامعْها فيه، أمَّا الطلاق في حيضٍ أو الطلاق في طُهر قد حصل فيه جماع فهو طلاقٌ بِدعيٌّ، ولهذا ابنُ عمر -رضيَ الله عنه- لـمَّا طلَّق امرأتَه وهي حائضٌ قالَ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- لعمر: (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا) {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} أحصُوها أي: اضبطُوها، اضبطوا العِدَّة التي هي وقتٌ للرجعة {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} وصية هذه هي الوصيةُ الجامعةُ العامةُ التي يعني تُثَنَّى في القرآن كثيرًا خطابًا للنَّبي أو للمؤمنين أو لجميع الناس {اتَّقُوا اللَّهَ} اتقوا رَبَّكُمْ {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} وهؤلاء هنَّ الرَّجعيات، والرجعيةُ: هي التي طُلِّقَتْ طلقةً واحدةً أو طلقتين، أمَّا إذا طلَّقَ الرجلُ امرأتَه الثالثةَ فإنَّها تكونُ بائنةً بينونةً كبرى.

{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} هذا نهيٌ للأزواج أن يُخرجوا المطلقاتِ الرجعيات، ونهيٌ لهنَّ أنْ يخرجنَ، فلا يحلُّ له أن يخرجَها إذا طلَّقها طلقةً في البيت، إذا طلَّقَها طلاقًا رجعيًا تبقى في البيت، وليسَ لها أنْ تخرجَ كذلك، {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} إذا حصلَ منها ما يُوجِبُ إخراجَها نعم. {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}.

{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} يعني هذه الأحكامُ هي حدودُ الله فلا تعتدُوها {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} مَن يتعدَّ الحدود التي حدَّها اللهُ وبيَّنها، وتعدي حدودَ الله تجاوز ما أباحَ اللهُ إلى ما حرَّمَ {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}.

{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} يعني مِن الرَّجعة، إذا طلَّقَ الرجلُ امرأتَه وهي في العِدَّة فعليها أن تبقى؛ لأنَّها ربما حصلَ العودة مِن الرجلِ والرغبة في دوامِ العِشْرة {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}.

قال الله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} قال الـمُفسِّرون: إذا قاربْنَ بلوغَ أجلهِنَّ إذا قاربْنَ انقضاءَ العِدَّةِ {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} يعني: إذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فعلى الزوجِ أنْ يحسمَ الأمرَ إمَّا بالرجوع وإلا بتركِها حتى تَبِيْنَ ويَنْفُذَ الطلاق وتنتهي العِشْرة، ويُسمى هذا "بَينونة صغرى"، إذا طلَّقَ الرجلُ امرأتَه طلقةً واحدةً أو طلقتين ثمَّ انقضَتْ العِدَّة بانَتْ منه، بانَتْ يعني: انفصلَتْ منه، لكنَّه انفصالٌ نسبيٌّ بينونة صغرى، لكن بحيث لا يملكُ الرجعةَ إليها إلا بعقدٍ جديدٍ، أمَّا ما دامَتْ في العِدَّة فله أن يراجعها بلا عقدٍ وبدون رِضاها أيضًا.

{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أمرٌ بالشهادةِ، بالشهادة على الطلاقِ وعلى الرجعة، فهذه هي السُّنة، السُّنة أن يُشهِدَ الرجلُ على طلاقِ امرأتِه، إذا طلَّقَها يُشهِدُ شاهدَيْنِ ذَوَيْ عدلٍ، وإذا راجعَها كذلك؛ لإثباتِ هذه الأحكامِ حتَّى لا يحصلَ هناك تَجَاحُد، {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} هو الذي ينتفعُ بالمواعظ ويأتمرُ بأوامرِ الله وينتهي عمَّا نهاهُ الله -تعالى- عنه {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} بفعلِ ما أمرَ اللهُ بِه وتركِ ما نهى اللهُ عنه {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} مِن كلِّ ضيقٍ يُيَسر أمورَه {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} فهذا وعدٌ مِن الله للمتقين بتيسيرِ أمورِهم وتفريجِ كروبِهم وبرزقِهم {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}.

قالَ الله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ويُفَوِّضُ أمرَهُ إليه ويعتمَّد عليهِ فاللهُ يَكفيهِ ما أهمَّهُ يَكفيهِ مُهمَّاته، فاللهُ حَسْبُهُ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36] {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} فاللهُ -تعالى- قدَّرَ المقاديرَ وقدَّرَ الأحكامَ -سبحانه وتعالى- بحكمةٍ وعلمٍ بعلمِهِ المحيط وبحكمتِهِ البالغة {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}.

 

(تفسير السعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ -رحمَه اللهُ تعالى:

تَفْسِيرُ سُورَةِ الطَّلَاقِ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} الآياتَ:

يَقُولُ -تَعَالَى- مُخَاطِبًا لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِلْمُؤْمِنِينَ:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} أَيْ: أَرَدْتُمْ طَلَاقَهُنَّ {فَـ} الْتَمِسُوا لِطَلَاقِهِنَّ الْأَمْرَ الْمَشْرُوعَ، وَلَا تُبَادِرُوا بِالطَّلَاقِ مِنْ حِينِ يُوجَدُ سَبَبُهُ، مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةٍ لِأَمْرِ اللَّهِ.

بَلْ {طَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَيْ: لِأَجْلِ عِدَّتِهِنَّ، بِأَنْ يُطَلِّقَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ طَاهِرٌ، فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ، فَهَذَا الطَّلَاقُ هُوَ الَّذِي تَكُونُ الْعِدَّةُ فِيهِ وَاضِحَةً بَيِّنَةً، بِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ، فَإِنَّهَا لَا تُحْتَسَبُ تِلْكَ الْحَيْضَةُ، الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الطَّلَاقُ، وَتَطُولُ عَلَيْهَا الْعُدَّةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ وَطِئَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ حَمْلُهَا، فَلَا يَتَبَيَّنُ وَ لَا يَتَّضِحُ بِأَيِّ عِدَّةٍ تَعْتَدُّ، {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} وإحصاءٌ ضَبْطُهَا بِالْحَيْضِ إِنْ كَانَتْ تَحِيضُ، أَوْ بِالْأَشْهُرِ إِنْ لَمْ تَكُنْ تَحِيضُ، وَلَيْسَتْ حَامِلًا فَإِنَّ فِي إِحْصَائِهَا أَدَاءً لِحَقِّ اللَّهِ، وَحَقِّ الزَّوْجِ الْمُطلِّقِ، وَحَقِّ مَنْ سَيَتَزَوَّجُهَا بَعْدُ، وَحَقِّهَا فِي النَّفَقَةِ وَنَحْوِهَا فَإِذَا ضَبَطَتْ عَدَّتَهَا، عَلِمَتْ حَالَهَا عَلَى بَصِيرَةٍ، وَعُلْمَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ، وَمَا لَهَا مِنْهَا، وَهَذَا الْأَمْرُ بِإِحْصَاءِ الْعِدَّةِ، يَتَوَجَّهُ لِلزَّوْجِ وَلِلْمَرْأَةِ، إِنْ كَانَتْ مُكَلَّفَةً، وَإِلَّا فَلِوَلِيِّهَا، وَقَوْلُهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} أَيْ: فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ، وَخَافُوهُ فِي حَقِّ الزَّوْجَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ، {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} مُدَّةَ الْعِدَّةِ، بَلْ تَلْزَمُ بَيْتَهَا الَّذِي طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ فِيهِ.

{وَلا يَخْرُجْنَ} أَيْ: لَا يَجُوزُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ مِنْهَا، أَمَّا النَّهْيُ عَنْ إِخْرَاجِهَا، فَلِأَنَّ الْمَسْكَنَ، يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ، لِتَسْتَكْمِلَ فِيهِ عِدَّتَهَا الَّتِي هِيَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِ.

وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ خُرُوجِهَا، فَلَمَّا فِي خُرُوجِهَا، مِنْ إِضَاعَةِ حَقِّ الزَّوْجِ وَعَدَمِ صَوْنِهِ.

وَيَسْتَمِرُّ هَذَا النَّهْيُ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبُيُوتِ، وَالْإِخْرَاجِ إِلَى تَمَامِ الْعِدَّةِ.

{إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أَيْ: بِأَمْرٍ قَبِيحٍ وَاضِحٍ، مُوجِبٍ لِإِخْرَاجِهَا، بِحَيْثُ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ الضَّرَرُ مِنْ عَدَمِ إِخْرَاجِهَا، كَالْأَذَى بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْفَاحِشَةِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَسَبَّبَتْ لِإِخْرَاجِ نَفْسِهَا، وَالْإِسْكَانِ فِيهِ جَبْرٌ لِخَاطِرِهَا، وَرِفْقٌ بِهَا، فَهِيَ الَّتِي أَدْخَلَتِ الضَّرَرَ عَلَى نَفْسِهَا، وَهَذَا فِي الْمُعْتَدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَأَمَّا الْبَائِنُ: فَلَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَاجِبَةٌ، لِأَنَّ السُّكَنةَ تَبَعٌ لِلنَّفَقَةِ، وَالنَّفَقَةُ تَجِبُ لِلرَّجْعِيَّةِ دُونَ الْبَائِنِ، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أَيِ: الَّتِي حَدَّدَهَا لِعِبَادِهِ وَشَرَعَهَا لَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِلُزُومِهَا وَالْوُقُوفِ مَعَهَا، {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} بِأَنْ لَمْ يَقِفْ مَعَهَا، بَلْ تَجَاوَزْهَا، أَوْ قَصَّرَ عَنْهَا، {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أَيْ: بَخَسَهَا حَقَّهَا، وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ مِنِ اتِّبَاعِ حُدُودِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ الصَّلَاحُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

{لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} أَيْ: شَرَعَ اللَّهُ الْعِدَّةَ، وَحَدَّدَ الطَّلَاقَ بِهَا، لِحِكَمٍ عَظِيمَةٍ: فَمِنْهَا: أَنَّهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ فِي قَلْبِ الْمُطَلِّقِ الرَّحْمَةَ وَالْمَوَدَّةَ، فَيُرَاجِعُ مَنْ طَلَّقَهَا، وَيَسْتَأْنِفُ عِشْرَتَهَا، فَيَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ مُدَّةَ الْعِدَّةِ، أَوْ لَعَلَّهُ يُطْلِّقُهَا لِسَبَبٍ مِنْهَا، فَيَزُولُ ذَلِكَ السَّبَبُ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، فَيُرَاجِعُهَا لِانْتِفَاءِ سَبَبِ الطَّلَاقِ.

وَمِنَ الْحِكَمِ: أَنَّهَا مُدَّةُ التَّرَبُّصِ، يُعْلَمُ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا مَنْ زَوْجِهَا.

وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أَيْ: إِذَا قَارَبْنَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، لِأَنَّهُنَّ لَوْ خَرَجْنَ مِنَ الْعِدَّةِ، لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالْفِرَاقِ. {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أَيْ: عَلَى وَجْهِ الْمُعَاشَرَةِ الْحَسَنَةِ، وَالصُّحْبَةِ الْجَمِيلَةِ، لَا عَلَى وَجْهِ الضِّرَارِ وَإِرَادَةِ الشَّرِّ وَالْحَبْسِ، فَإِنَّ إِمْسَاكَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَجُوزُ، {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أَيْ: فِرَاقًا لَا مَحْذُورَ فِيهِ، مِنْ غَيْرِ تَشَاتُمٍ وَلَا تُخَاصُمٍ، وَلَا قَهْرٍ لَهَا عَلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا.

{وَأَشْهِدُوا} عَلَى طَلَاقِهَا وَرَجْعَتِهَا {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أَيْ: رَجُلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ عَدْلَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي الْإِشْهَادِ الْمَذْكُورِ، سَدًّا لِبَابِ الْمُخَاصَمَةِ، وَكِتْمَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَلْزَمُهُ بَيَانُهُ.

{وَأَقِيمُوا} أَيُّهَا الشُّهَدَاءُ {الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} أَيِ: ائْتُوا بِهَا عَلَى وَجْهِهَا، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَاقْصُدُوا بِإِقَامَتِهَا وَجْهَ اللَّهِ -تَعَالَى- وَلَا تُرَاعُوا بِهَا قَرِيبًا لِقَرَابَتِهِ، وَلَا صَاحِبًا لِمَحَبَّتِهِ، ذَلِكُمْ الَّذِي ذَكَرْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، يُوجِبُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَتَّعِظَ بِمَوَاعِظِ اللَّهِ، وَأَنْ يُقَدِّمَ لِآخِرَتِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، مَا يتَمَكَّنُ مِنْهَا، بِخِلَافِ مَنْ تَرَحَّلَ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي بِمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، وَلَا يُعَظِّمُ مَوَاعِظَ اللَّهِ لِعَدَمِ الْمُوجِبِ لِذَلِكَ.

وَلَمَّا كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ يُوقِعُ فِي الضِّيقِ وَالْكَرْبِ وَالْغَمِّ، أَمَرَ -تَعَالَى- بِتَقْوَاهُ، وَوَعَدَ مَنِ اتَّقَاهُ فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا. فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ الطَّلَاقَ، فَفَعَلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، بِأَنْ أَوْقَعَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي غَيْرِ حَيْضٍ وَلَا طُهْرٍ أَصَابَهَا فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَضيقُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، بَلْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَسِعَةً يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى النِّكَاحِ إِذَا نَدِمَ عَلَى الطَّلَاقِ، وَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي سِيَاقِ الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فَكُلُّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَازَمَ مَرْضَاتَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَمِنْ جُمْلَةِ ثَوَابِهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مَنْ كُلِّ شِدَّةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَكَمَا أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ جَعَلَ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، فَمَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ يَقَعُ فِي الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ، الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا وَالْخُرُوجِ مِنْ تَبِعَتِهَا، وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فِيهِ، بَلْ أَوْقَعَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ -كَالثَّلَاثِ وَنَحْوِهَا- فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنْدَمَ نَدَامَةً لَا يَتَمَكَّنُ مِنِ اسْتِدْرَاكِهَا وَالْخُرُوجِ مِنْهَا.

وَقَوْلُهُ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ أَيْ: يَسُوقُ اللَّهُ الرِّزْقَ لِلْمُتَّقِي، مِنْ وَجْهٍ لَا يَحْتَسِبُهُ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ.

{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أَيْ: فِي أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، بِأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى اللَّهِ فِي جَلْبِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ، وَيَثِقُ بِهِ فِي تَسْهِيلِ ذَلِكَ {فَهُوَ حَسْبُهُ} أَيْ: كَافِيهِ الْأَمْرُ الَّذِي تَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي كَفَالَةِ الْغَنِيِّ الْقَوِيِّ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَكِنْ رُبَّمَا أَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ اقْتَضَتْ تَأْخِيرَهُ إِلَى الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ لَهُ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} أَيْ: لَا بُدَّ مِنْ نُفُوذِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَلَكِنَّهُ {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} أَيْ: وَقْتًا وَمِقْدَارًا، لَا يَتَعَدَّاهُ وَلَا يُقَصِّرُ عَنْهُ. انتهى

– الشيخ : أحسنت.