الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الطلاق/(3) من قوله تعالى {وكأين من قرية عتت عن أمر ربها} الآية 8 إلى قوله تعالى {الله الذي خلق سبع سماوات} الآية 12
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(3) من قوله تعالى {وكأين من قرية عتت عن أمر ربها} الآية 8 إلى قوله تعالى {الله الذي خلق سبع سماوات} الآية 12

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الطَّلاق

الدَّرس: الثَّالث

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيمِ

وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:8-12]

– الشيخ : الحمد لله، يقول -تعالى-: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} "كأيِّن" هذا اللَّفظُ يدلُّ على الكَثرة، يعني الكثيرُ مِن القرى، {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} يعني: عصَتْ واستكبرَتْ وتمرَّدَتْ وأصرَّتْ على الكفرِ والمعاصي {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} يعني: عَتَتْ على الرسلِ وتمرَّدوا وعانَدوا {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} ذاقَتْ العاقبة عاقبةَ أمرِها الوخيمة، العاقبة الوخيمة، وتفصيلُ هذا في القرآن كثيرٌ كما قصَّ اللهُ علينا خبرَ قومِ نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ، وكذلكَ مَن أَرسلَ اللهُ إليهم موسى وهارون وهم فرعونُ وقومُه، كلُّ هذه الأمم عَتَتْ عن أمرِ ربِّها ورسلِه، فأنزلَ اللهُ بهم عقابَه، {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40] {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا} يعني: عذابًا فظيعًا مُستَنكرًا لِعظمه وفظاعتِه {عَذَابًا نُّكْرًا}.

ثم وصَّى اللهُ عبادَه بالتقوى {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} يعني: راقِبوا اللهَ وخافوهُ يا أولي العقول، فأهل العقول هم الذين يَقبلون النُّصح ويقبلونَ الوصايا النافعة {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} وقالَ اللهُ في آيةٍ أخرى: {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197] فكثيرًا ما يُنوِّهُ اللهُ بأهلِ العقول والألباب {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19]، هم الذين يُفكّرون ويتذكّرون، يفكرون أو يتفكرون ويتذكرون.

ثم يُذكّر -تعالى- بنعمتِهِ العظيمة وهو ما أنزلَ مِن هذا القرآن وأرسلَ الرسولُ -عليه الصلاة والسلام- {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}.

ثم قال -تعالى-: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} هذه عاقبةُ مَنْ آمنَ وعملَ صالحًا جنةُ الخلد، جنة فيها كلُّ نعيمٍ وخيرٍ وسرورٍ مع الخلود الدائم {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}.

ثم قال -تعالى-: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} فالسمواتُ سبعٌ، والأرضون سبعٌ، لكن السَّموات بعضُها فوقَ بعض وبينها مسافات، وأمَّا الأرضون السَّبع فهي مُتصلٌ بعضُها ببعضٍ {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} يعني: سبعًا، والله -تعالى- قدَّرَ ذلك بحكمتِه البالغة قال -تعالى-: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} فمَن يتفكَّرُ في هذا الخلقِ الواسعِ العظيمِ يعرفُ أنه -تعالى- على كلِّ شيء قدير، وأنه بكلِّ شيءٍ عليمٌ، فمِنْ أعظمِ طرقِ العلمِ الصحيحِ هو التفكُّرُ في مخلوقاتِ الله والتدبُّر لآياتِ الله القرآنية، فاللهُ أثنى على المتدبِّرين والمتفكّرين، المتفكرين في مخلوقاتِ الله، والمتدبرين لآيات الله.

 

(تفسير السعدي)

– القارئ : بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبه أجمعين. قالَ الشيخُ عبد الرحمن السَّعدي -رحمه الله تعالى- في تفسيرِ قول الله -تعالى-: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} الآيات:

يُخْبِرُ -تَعَالَى- عَنْ إِهْلَاكِهِ الْأُمَمِ الْعَاتِيَةِ، وَالْقُرُونِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ، وَأَنَّ كَثْرَتَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا، حِينَ جَاءَهُمُ الْحِسَابُ الشَّدِيدُ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ، وَأَنَّ اللَّهَ أَذَاقَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا هُوَ مُوجِبُ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ.

وَمَعَ عَذَابِ الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابًا شَدِيدًا، {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} أَيْ: يَا ذَوِي الْعُقُولِ الَّتِي تَفْهَمُ عَنِ اللَّهِ آيَاتِهِ وَعِبَرَهُ، وَأَنَّ الَّذِي أَهْلَكَ الْقُرُونَ الْمَاضِيَةَ بِتَكْذِيبِهِمْ، أَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ مِثْلُهُمْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ.

ثُمَّ ذَكَّرَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ كِتَابِهِ، الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيُخْرِجَ الْخَلْقَ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، إِلَى نُورِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا} مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} أَيْ: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

ثُمَّ أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَنْ فِيهِنَّ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَمَا بَيْنَهُنَّ، وَأَنْزَلَ الْأَمْرَ -وَهُوَ الشَّرَائِعُ وَالْأَحْكَامُ الدِّينِيَّةُ الَّتِي أَوْحَاهَا إِلَى رُسُلِهِ- لِتَذْكِيرِ الْعِبَادِ وَوَعْظِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْأَوَامِرُ الْكَوْنِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ الَّتِي يُدَبِّرُ بِهَا الْخَلْقَ، كُلُّ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَعْرِفَهُ الْعِبَادُ وَيَعْلَمُوا إِحَاطَةَ قُدْرَتِهِ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَإِحَاطَةَ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَإِذَا عَرِفُوهُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَأَوْصَافِهِ الْمُقَدَّسَةِ عَبَدُوهُ وَأَحَبُّوهُ وَقَامُوا بِحَقِّهِ، فَهَذِهِ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ، فَقَامَ بِذَلِكَ الْمُوَفَّقُونَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَأَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ، الظَّالِمُونَ الْمُعْرِضُونَ.

تَمَّ تَفْسِيرُ سورةُ الطلاقٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ انتهى