بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الحاقَّة
الدَّرس: الثَّالث
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:25-37]
– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله.
هذه الآياتُ ذُكِرَ فيها حالُ الفريقِ الثَّاني: فريقُ الأشقياءِ، وهم من يُؤتَى كتابَهُ بشمالِهِ، فلنتدبَّرْ التَّبايُنَ بينَ الفريقين، فالأوَّلُ يقولُ: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19]، تعبيرًا عن سرورِه، وأنَّهُ رأى فيه ما يسرُّه {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19-20]، وهذا يقولُ: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} فيتمنَّى أنَّه يموتُ {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} ثمَّ يتذكَّرُ أنَّ ما كانَ عليه في الدُّنيا من المالِ والسُّلطانِ، وأنَّ ذلكَ لم يُغنِ عنهُ شيئًا {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}
ثمَّ ذكرَ تعالى ما يُفعَلُ بهِ وما يُقالُ للملائكةِ في معاملتِه: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} يعني: اجعلُوا الغُلَّ في عنقِهِ، الغُلُّ: ما يُوضَعُ في العنقِ لسحبِ الظَّالمِ، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ} [غافر:69-71]، {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} [الإنسان:4]، {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} أدخلُوهُ في الجحيمِ حتَّى يقاسيَ حرَّها وأليمَ عذابِها، نعوذُ باللهِ من الشِّقوة، هذا تصويرٌ لحال ذلكَ الشَّقيِّ.
{ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} سلسلةٌ يُسلَكُ فيها، ذُكِرَ في التَّفسير أنَّه يُسلَكُ فيها فتُدخَلُ في دبرِه فتخرجُ من طرفِه الآخرِ، ويُسلَكُ فيها، إنَّه لعذابٌ، أيُّ عذابٍ! {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}
{إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} هذا فيه بيانُ سببِ هذا الشَّقاءِ، سببُه أنَّه كانَ لا يؤمنُ باللهِ ربًّا وإلهًا، فلا يعبدُ الله، أو يعبدُه ويعبدُ معَه غيرَه فيكونُ مشركًا، {لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} كما قالَ المجرمون إذا سألَهم أهلُ الجنَّةِ: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:42-45]، فالآياتُ يفسِّرُ بعضُها بعضًا.
{وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}، {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1-3]، فأينَ مَن {يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8]، ومَن {لَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}؟ يعني: ما يدعو إلى إطعامِ المسكينِ أصلًا.
{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} في ذلكَ الوقتِ ليسَ له حميمٌ، يعني: صديقٌ صادقُ المودَّةِ لهُ، ليسَ له صديقٌ يحنُّ عليهِ ويعطفُ عليه ويسعى في نفعِه فهذا لا وجودَ لهُ، لا {تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} ليسَ لهم {طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} وهذا نوعٌ من مأكول أهلِ النَّارِ ولا بدَّ أنَّه خبيثٌ لا يُسمِنُ ولا يُغني من جوعٍ، ولابَّد أنَّه قبيحُ الطَّعمِ والرَّائحةِ والأثرِ، نعوذُ بالله.
{لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} يعني: العصاةُ المذنِبونَ الكافرونَ {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} ففي هذه الآيةِ تعبيرٌ وتصويرٌ لحالِ الأشقياءِ يومَ القيامةِ، ماذا يقولونَ؟ وماذا يُقالُ لهم، وماذا يُفعَلُ بهم، إنَّهُ الشَّقاءُ الَّذي ليسَ بعدَه ولا فوقَه شقاءٌ {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا} [هود:106-107] نسألُ اللهَ العافيةَ، أعوذُ بالله من الشِّقوةِ، أعوذُ باللهِ من الشِّقوةِ.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ…} الآياتِ:
هؤلاءِ هم أهلُ الشَّقاءِ يُعطَونَ كتبَهم المشتمِلةَ على أعمالِهم السَّيِّئةِ بشمالِهم تمييزًا لهم وخزيًا وعارًا وفضيحةً، فيقولُ أحدُهم مِن الهمِّ والغمِّ والحزنِ. {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} لأنَّهُ يُبشَّرُ بدخولِ النَّارِ والخسارةِ الأبديَّةِ.
{وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} أي: ليتَني كنْتُ نسيًّا منسيًّا ولم أُبعَثْ وأُحاسَبْ ولهذا قالَ: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} أي: يا ليتَ موتتي هيَ الموتةُ الَّتي لا بعثَ بعدَها.
ثمَّ التفتَ إلى مالِهِ وسلطانِهِ، فإذا هوَ وبالٌ عليهِ لم يقدِّمْ منهُ لآخرتِهِ، ولا ينفعُهُ لو افتدى بهِ مِن العذابِ شيئًا، فيقولُ: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} أي: ما نفعَني لا في الدُّنيا، لم أقدِّمْ منهُ شيئًا، ولا في الآخرةِ، قد ذهبَ وقتُ نفعِهِ.
{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} أي: ذهبَ واضمحلَّ فلم تنفعِ الجنودُ ولا الكثرةُ ولا العَدَدُ ولا العُدَدُ. ولا الجاهُ العريضُ، بل ذهبَ ذلكَ كلُّهُ أدراجَ الرِّياحِ، وفاتَتْ بسببِهِ المتاجرُ والأرباحُ، وحضرَ بدلَهُ الهمومُ والغمومُ والأتراحُ فحينئذٍ يُؤمَرُ بعذابِهِ فيُقالُ للزَّبانيةِ الغِلاظِ الشِّدادِ: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} أي: اجعلُوا في عنقِهِ غُلًّا يخنقُهُ.
{ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} أي: اقلبُوهُ على جمرِها ولهبِها.
{ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا} مِن سلاسلِ الجحيمِ في غايةِ الحرارةِ {فَاسْلُكُوهُ} أي: انظمُوهُ فيها بأنْ تدخلَ في دبرِهِ وتخرجَ مِن فمِهِ، ويُعلَّقَ فيها، فلا يزالُ يُعذَّبُ هذا العذابَ الفظيعَ، فبئسَ العذابُ والعقابُ، وواحسرةَ لهُ التَّوبيخُ والعتابُ.
فإنَّ السَّببَ الَّذي أوصلَهُ إلى هذا المحلِّ: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} بأنْ كانَ كافرًا بربِّهِ معاندًا لرسلِهِ رادًّا ما جاؤُوا بهِ مِن الحقِّ.
{وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي: ليسَ في قلبِهِ رحمةٌ يرحمُ بها الفقراءَ والمساكينَ فلا يطعمُهم مِن مالِهِ ولا يحضُّ غيرَهُ على إطعامِهم، لعدمِ الوازعِ في قلبِهِ، وذلكَ لأنَّ مدارَ السَّعادةِ ومادَّتَها أمرانِ: الإخلاصُ للهِ، الَّذي أصلُهُ الإيمانُ باللهِ، والإحسانُ إلى الخلقِ بوجوهِ الإحسانِ، الَّذي مِن أعظمِها دفعُ ضرورةِ المحتاجينَ بإطعامِهم ما يتقوَّتونَ بهِ، وهؤلاءِ لا إخلاصَ ولا إحسانَ، فلذلكَ استحقُّوا ما استحقُّوا.
{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا} أي: يومَ القيامةِ {حَمِيمٍ} أي: قريبٌ أو صديقٌ يشفعُ لهُ لينجوَ مِن عذابِ اللهِ أو يفوزَ بثوابِ اللهِ: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18]
وليسَ لهُ طعامٌ إلَّا مِن غِسلينَ وهوَ صديدُ أهلِ النَّارِ الَّذي هوَ في غايةِ الحرارةِ، ونتنِ الرِّيحِ، وقبحِ الطَّعمِ ومرارتِهِ لا يأكلُ هذا الطَّعامَ الذَّميمَ {إِلَّا الْخَاطِئُونَ} الَّذينَ أخطؤُوا الصِّراطَ المستقيمَ وسلكُوا سبلَ كلِّ طريقٍ يوصلُهم إلى الجحيمِ فلذلكَ استحقُّوا العذابَ الأليمَ.
قالَ اللهُ تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} [الحاقة:38]
– الشيخ : إلى هنا .