الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الحاقة/(4) من قوله تعالى {فلا أقسم بما تبصرون} الآية 38 إلى قوله تعالى {فسبح باسم ربك العظيم} الآية 52

(4) من قوله تعالى {فلا أقسم بما تبصرون} الآية 38 إلى قوله تعالى {فسبح باسم ربك العظيم} الآية 52

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الحاقَّة

الدَّرس: الرَّابع

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الحاقة:38-51]

– الشيخ : سبحانه وتعالى.

يُقسِمُ تعالى بكل ما يُبصِر الناس وما لا يُبصرون {فَلَا أُقْسِمُ} "لا" هذه يقولُ أهل التفسير: إنها زائدة للتأكيد كقوله: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] وهنا قال: {فَلَا أُقْسِمُ} فيكون المضمون: "أُقسِمُ {بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ}، إذًا يُقسِمُ -تعالى- بكلِّ شيء {بِمَا تُبْصِرُونَ} "ما" صيغةُ عمومٍ اسمُ موصول، "بالذي تبصرون والذي لا تبصرون" فيشملُ هذا كلَّ الأشياء.

{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هذا هو جوابُ القسم، يعني هذا هو الـمُقسَم عليه، يُقسِمُ الله بما يُبصرون وما لا يُبصرون على أنَّ هذا القرآنَ قولُ رسولٍ، وهذا هو قولُ رسولٍ يعني تكلَّمَ به الرسولُ ابتداءً؟ لا، تكلَّمَ به تبليغاً، لأنه قال: {رَسُولٍ} فالكلامُ كلام الله، وأُضيفَ إلى الرسول إضافةً التبليغ، كما أُضيفَ إلى جبريل في الآية الأخرى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:20،19] {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} إذًا الرسولُ مُبلِّغٌ لكلامِ ربِّه.

{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} وما هو بِقَوْلِ كَاهِنٍ، خلافاً للمشركين الذين يزعمون ذلك، يزعمون أنَّ الرسول شاعرٌ أو كاهنٌ هذه مِن أقاويلِهم الباطلة {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} [الطور:29] فالله نزَّه نبيَّه عن ما وصمَهُ بِه ورماهُ بِه أعداؤُه المشركون الـمُكذِّبون الكفرة الـمُعَانِدون {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يعني هو هذا القرآن {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} كلامه تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} والآياتُ في هذا كثيرة التي يصفُ الله بها القرآن بالتنزيلِ والإنزالِ {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2] {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يعني: هو تنزيلٌ مِن ربِّ العالمين.

ثم يقول تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} يعني: الرسولُ لو أنه افترى شيئًا مِن القرآنِ لانتقمَ اللهُ منه، وحاشاه -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- أن يفتريَ شيئاً {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} يعني: افترى وقالَ ما لمْ نقلْهُ لَه، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} هذا تعبيرٌ عن إهلاكِه، الوتين: عِرقٌ يتصلُ بالقلبِ، {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}يعني: لأهلكناه {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}.

{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} لا يستطيعُ أحدٌ أن يدفعَ عنه {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} يعني: القرآن تذكرةٌ للمتقين؛ لأنَّهم هم الذين يتذكرون بِه، وإلا هو تذكرةٌ للناس كلِّهم، لكن مثل أنه هُدى، هُدى للناس كلِّهم ولكنَّه هدًى للمتقين خاصةً؛ لأنَّهم المنتفعون به {لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}.

قال الله: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} لا يَخفى على الله أمرُ المكذِّبين، هو يعلم المكذّبين مِن هؤلاء المدعوين الكفرة، {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ} يعني: القرآنُ حسرةٌ عليهم بسببِ التكذيبِ به، فالنعمةُ إذا العبدُ شكرَها صارت نعمةً تامةً وإذا كفرَ صارت نقمةً عليه، والكفرة جعلوا حظَّهم مِن القرآن التكذيب كما قال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} رزقُهم مِن القرآن: التكذيبُ به، فبئسَ ما صاروا إليه وما سلكوهُ مِن هذا الطريقِ الذي يعودُ عليهم بالشِّقوة {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} حقٌّ يقينٌ، والحقُّ اليقين هو غايةُ اليقينِ، فاليقينُ ثلاثةُ مراتب: علمُ اليقين، وعينُ اليقين، وحقُّ اليقين. فأكملُ المراتب: حقُّ اليقين، هذا يُشبِهُ قوله سبحانه وتعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23]  

{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وهذا مِن شكر النعمة، لَمَّا ذكرَ مِنَّتَهُ على رسولِه وعصمتَه لَه قال: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} سبِّحْهُ ونزههُ عن النَّقائصِ والعيوب، ذاكرًا اسمه، وتطبيقُ ذلك أن نقول: "سبحان ربي العظيم"، ولهذا جاءَ في الأثرِ جاء في الحديثِ لَمَّا نزلَتْ هذه الآية قالَ النبي: (اجعلُوهَا في ركوعِكُم) ولهذا نقولُ في الركوع: "سبحان ربي العظيم" هكذا كما جاءَ في الآية {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}.

 

(تفسير السعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.

– الشيخ : صلى الله عليه وسلم، اللهم صلِّ وسلِّم

– القارئ : قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ -رحمَه اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} الآيات:

أَقْسَمَ تَعَالَى بِمَا يُبْصِرُ الْخَلْقَ مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَمَا لَا يُبْصِرُونَهُ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ كُلُّ الْخَلْقِ بَلْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ نَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ، عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ الْكَرِيمَ بَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَنَزَّهَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَمَّا رَمَاهُ بِهِ أَعْدَاؤُهُ مِنْ أَنَّهُ شَاعِرٌ أَوْ سَاحِرٌ، وَأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ وَتَذَكُّرُهُمْ، فَلَوْ آمَنُوا وَتَذَكَّرُوا مَا يَنْفَعُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرُوا فِي حَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَرْمُقُوا أَوْصَافَهُ وَأَخْلَاقَهُ، لَرَأَوْا أَمْرًا مِثْلَ الشَّمْسِ يَدُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ {تَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، لَا يَلِيقُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ الْبَشَرِ بَلْ هُوَ كَلَامٌ دَالٌّ عَلَى عَظَمَةِ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَجَلَالَةِ أَوْصَافِهِ، وَكَمَالِ تَرْبِيَتِهِ لِلْخَلْقِ، وَعُلُوِّهِ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا ظَنٌّ مِنْهُمْ بِمَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ وَحِكْمَتِهِ.

{ولَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا} وَافْتَرَى {بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} الْكَاذِبَةَ {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} وَهُوَ عِرْقٌ مُتَّصِلٌ بِالْقَلْبِ إِذَا انْقَطَعَ هَلَكَ مِنْهُ الْإِنْسَانُ، فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الرَّسُولَ -حَاشَا وَكَلَّا- تَقَوَّلَ عَلَى اللَّهِ لَعَاجَلَهُ بِالْعُقُوبَةِ، وَأَخَذَهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، لِأَنَّهُ حَكِيمٌ، قَدِيرٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَحِكْمَتُهُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُمْهِلَ الْكَاذِبَ عَلَيْهِ، الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُ دِمَاءَ مَنْ خَالَفَهُ وَأَمْوَالَهُمْ،

– الشيخ : ولهذا يستدلُّ أهلُ العلم ويحتجُّونَ على المكذِّبين بأنَّ الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- قد نصرَه الله وأيَّدَه بأنواعٍ مِن التأييد، فلو كانَ كاذبًا لكانَ هذا سَفَهًا منه -تعالى الله عن ذلك- لو كانَ الرسولُ كما يقولُ المفترون أنه ليسَ برسولٍ وإنما هو مُفْتَرٍ على اللهِ، ثمَّ مِن الواقع نجدُ أن الرسولَ قد أيَّدَهُ اللهُ بخوارقِ العاداتِ وأيَّدَهُ بالنصر وأنواعٍ مِن التأييد الذي تشهدُ بصدقِهِ عليه الصلاة والسلام، فعُلِمَ بذلك شهادة مِن اللهِ بأنَّه رسول الله حقًّا، فتكذيبُ الرسولِ يَستلزم الطعنَ في جنابِ الله تعالى، الطعنَ في حكمتِه، أو الطعنَ في علمِه، أو الطعنَ في قدرتِه.

 

– القارئ : وَأَنَّهُ هُوَ وَأَتْبَاعُهُ لَهُمُ النَّجَاةُ، وَمَنْ خَالَفَهُ فَلَهُ الْهَلَاكُ.

فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَيَّدَ رَسُولَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَبَرْهَنَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَنَصَرَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَمَكَّنَهُ مِنْ نَوَاصِيهِمْ، فَهُوَ أَكْبَرُ شَهَادَةٍ مِنْهُ عَلَى رِسَالَتِهِ.

وَقَوْلُهُ: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} أَيْ: لَوْ أَهْلَكَهُ، مَا امْتَنَعَ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَلَا قَدَرَ أَحَدٌ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.

{وَإِنَّهُ} أَيِ: الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ {لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} يَتَذَكَّرُونَ بِهِ مَصَالِحَ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَيَعْرِفُونَهَا وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهَا، يُذَكِّرُهُمُ الْعَقَائِدَ الدِّينِيَّةَ، وَالْأَخْلَاقَ الْمَرْضِيَّةَ، وَالْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ، فَيَكُونُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَالْعُبَّادِ الْعَارِفِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ.

{وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} بِهِ، وَهَذَا فِيهِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِلْمُكَذِّبِينَ، وَإِنَّهُ سَيُعَاقِبُهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ الْبَلِيغَةِ.

{وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} فَإِنَّهُمْ لَمَّا كَفَرُوا بِهِ وَرَأَوْا مَا وَعَدَهُمْ بِهِ تَحَسَّرُوا إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ، وَلَمْ يَنْقَادُوا لِأَمْرِهِ فَفَاتَهُمُ الثَّوَابُ، وَحَصَلُوا عَلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ.

{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} أَيْ: أَعْلَى مَرَاتِبِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْعِلْمِ الْيَقِينُ وَهُوَ الْعِلْمُ الثَّابِتُ، الَّذِي لَا يَتَزَلْزَلُ وَلَا يَزُولُ.

وَالْيَقِينُ مَرَاتِبُهُ ثَلَاثَةٌ، كُلُّ وَاحِدَةٍ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا:

أَوَّلُهَا: عِلْمُ الْيَقِينِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْخَبَرِ.

ثُمَّ عَيْنُ الْيَقِينِ، وَهُوَ الْعَلَمُ الْمُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ.

ثُمَّ حَقُّ الْيَقِينِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الْمُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الذَّوْقِ وَالْمُبَاشِرَةِ.

وَهَذَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، بِهَذَا الْوَصْفِ، فَإِنَّ مَا فِيهِ

– الشيخ : يُمثِّلون له يقول: لو أخبركَ شخصٌ عدلٌ قالَ: "عندي عسلٌ"، صار عندكَ علمُ اليقين أنَّ عنده عسل، فإذا أخرجَه لكَ ورأيتَه صارَ علمك بِه مِن نوعِ: عين اليقين؛ لأنه أصبحَ مشاهدًا، فإذا أهدى إليكَ وذُقتَهُ صار علمُكَ بالعسلِ مِن نوعِ: حقُّ اليقين، هكذا يُوضِّحه العلماء بنحوِ هذا المثال، علمُ اليقين: بالخبرِ هو الـمُستفادُ من الخبر، وعينُ اليقين: هو المستفادُ بالحِسِّ والـمُشاهَدة، وحقُّ اليقين: هو الـمُستفادُ بالمـُباشرة.

 

– القارئ : فَإِنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ الْمُؤَيِّدَةِ بِالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْحَقَائِقِ وَالْمَعَارِفِ الْإِيمَانِيَّةِ، يَحْصُلُ بِهِ لِمَنْ ذَاقَهُ حَقَّ الْيَقِينِ.

{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أَيْ: نَزِّهْهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، وَقَدِّسْهُ بِذِكْرِ أَوْصَافِ جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ.

تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحَاقَّةِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. انتهى.

– الشيخ : ذكرَ اللهُ مراتبَ اليقين الأولى والثانية في سورةِ التكاثر {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:5] هذا علمُ اليقين {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:7،6] هذا هو الثاني، وحقُّ اليقين ذكرَهُ الله في هذه السورةِ، وفي سورة الواقعة. أحسنتَ.