بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة المعارج
الدَّرس: الأوَّل
*** *** ***
– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج1:-19]
– الشيخ : إلى هنا {إِنَّ الْإِنْسَانَ}، لا إله إلا الله.
هذه سورة المعارج مكيَّة، افتُتِحَتْ بالخبر عن طلب المشركين والكفَّارِ عذابَ الله استعجالًا، نظرًا لتكذيبِهم، كقول أعداء الرسل: {ائْتِنَا}، كلُّ أمةٍ تقول لنبيِّها {فائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف:70] وهذا تعبيرٌ عن التكذيب، تكذيبهم {فائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} وهنا يقول: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} دعا داعٍ {بِعَذَابٍ}، {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} بعذابٍ هو واقعٌ لا محالةَ.
{لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} هذا عذابٌ واقعٌ وليس له دافعٌ، ليس له مَنْ يدفعُهُ، ليس له دافعٌ مِن الله، وإذا لم يكن له دافعٌ من الله فلا دافعَ له، إن لم يدفعْهُ الله لم يدفعْهُ أحدٌ {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} {ذِي الْمَعَارِجِ} صفة لله يعني الله ذو المعارج، تقول: "الله ذو المعارج"، كان مِن تلبيةِ الرسولِ يقول: (لبيَّكَ ذا المعارجِ)، والمعارجُ جمعُ مِعْراجٍ، ويُطلَق على آلة الصعود، آلةُ العُرُوج أو مواضع العُرُوج والصعود، وهذا مِن أدلَّةِ علو الله -سبحانه وتعالى-، فالملائكة تعرج إلى الله ويعرجُ إليهِ الأمرُ، {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] والملائكة ينزلون مِن عندِه ويصعدونَ ويعرجون إليه.
{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} أي: الأرواح تَعْرُجُ {إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} وهو يومُ القيامة، يومٌ عظيمٌ مقدارُهُ خمسون ألفَ سنةٍ، ويشهد لهم مِن السُّنة أنَّ مانعَ الزكاة يُعذَّبُ بمالِه مِن إبلٍ أو بقرٍ أو غنمٍ أو ذهبٍ (في يومٍ..) يقول عليه الصلاة والسلام: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) فيُرى سبيلَهُ إما إلى الجنة وإما إلى النار، إنَّه ليومٌ عسيرٌ على الكافرين!
يقول تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} الكفار يرونَ هذا اليوم بعيدًا {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} الله -تعالى- يعلمُ أنَّه قريبٌ والمكذِّبونَ له يَستبعدونَهُ {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} تتغيَّرُ هذه الأجرامُ على صلابتِها وقوتِها، تتغيَّرُ وتضعُفُ {الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} كما جاء في الآية كما في الآية الأخرى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:5،4]
{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} يأمر الله نبيَّهُ أن يصبرَ على ما يقولُ الكفارُ له، يقولونَ: "إنه كاهنٌ، ومجنونٌ، وساحرٌ، وشاعرٌ" فالله يأمر نبيَّه بالصبر {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} والصبرُ الجميل: هو الذي لا شكايةَ معه، فلا يشكو إلا إلى الله، فالصبرُ الجميل: هو الذي لا شكايةَ معه، أما مَن يشكو مِنْ حالِهِ إلى الخلقِ فليسَ صبرُهُ صبرًا جميلًا، والصفحُ الجميل: هو الذي لا عتابَ معه، والهجرُ الجميلُ: هو الذي لا أذىً معه.
{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} في ذلك اليوم لا يَستغيثُ أحدٌ بأحدٍ، الحميمُ: هو الصديقُ الـمُحِبّ، صديقٌ حميمٌ، {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} كما تقدَّم [الحاقة:35]
{وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} لأن كلًّا مهمومٌ ومشغولٌ بنفسِهِ.
{يُبَصَّرُونَهُمْ} يرونَ الأصدقاءَ والمحبِّينَ والقَرَاباتِ يرونهم، يرى بعضُهم بعضًا ولكن لا أحدَ يلوي على أحدٍ، ولا يُنقذُ أحدٌ أحدًا.
{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ} الكافر، الكافرُ هو المجرم حقًّا، الكافرُ هو المجرم حقًّا؛ لأنَّ الكُفْرَ باللهِ أعظمُ جريمة، أعظم معصيةٍ، {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} يودُّ أن يفدِي نفسَه مِن عذابِ الله بأغلى بأحبِّ الناسِ إليهِ ببنيهِ وبصاحبته {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} يودُّ أن يفتدي بكلِّ شيءٍ ثمَّ ينجو، ولكن لا يمكن..، {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة:48] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان:33] فلا الوالدُ يَجزي عَن ولدِهِ، ولا الولدُ هو يجزي عن والدِهِ، لا يُغني أحدٌ عن أحدٍ.
ثم قال تعالى: {كَلَّا} هذه كلمةٌ تدلُّ على الزَّجْرِ والرَّدْعِ للكافرين {كَلَّا} هيهاتَ، لن يحصلَ شيءٌ مما يتمنونَهُ ويطلبونَه مِن النجاة {إِنَّهَا لَظَى} أي: النار {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى} تدعو الكافرَ الشَّقي البعيدَ الذي أعرضَ عَن هدى الله وأعرضَ عن ذكرِ الله {أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى} جمعَ المالَ وأكثرَ منه؛ ظنًّا أن ذلك ينفعُهُ، وهذا في الدنيا {أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى} فالنارُ يوم القيامة ترى المجرمين فَتَتَغَــيَّظُ عليهم وتدعوهم إلى نفسِها؛ ليُلقَوا فيها. فهذا كلُّهُ تهديدٌ للكافرين الذين كذَّبُوا رسلَ اللهِ وكفروا باللهِ وأشركوا بِهِ واتَّبَعُوا وآثروا الدنيا على الآخرة، إنه لوعيدٌ شديدٌ رهيبٌ! لكنَّ القلوبَ القاسيةَ لا تَرْعَوْي ولا تتأثرُ، نسأل الله العافية، لا تتأثَّرُ بالموعظة، {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10] ففي هذا الوعيد تذكرةٌ لِمَنْ يخشى الله ويتقيهِ ويؤمن به ويخافه.
– طالب: {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} الشَّوى؟
– الشيخ : فسَّروه بجلدةِ الرأسِ، أعوذ بالله.
(تفسيرُ السعدي)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ -رحمه الله تعالى-:
تفسيرُ سورةِ "سألَ سائلٌ" وهيَ مكيةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} الآيات.
يَقُولُ تَعَالَى مُبَيِّنًا لِجَهْلِ الْمُعَانِدِينَ، وَاسْتِعْجَالِهِمْ لِعَذَابِ اللَّهِ، اسْتِهْزَاءً وَتَعَنُّتًا وَتَعْجِيزًا:
{سَأَلَ سَائِلٌ} أَيْ: دَعَا دَاعٍ، وَاسْتَفْتَحَ مُسْتَفْتِحٌ {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ} لِاسْتِحْقَاقِهِمْ لَهُ بِكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ} أَيْ: لَيْسَ لِهَذَا الْعَذَابِ الَّذِي اسْتَعْجَلَ بِهِ مَنِ اسْتَعْجَلَ، مِنْ مُتَمَرِّدِي الْمُشْرِكِينَ، أَحَدٌ يَدْفَعُهُ قَبْلَ نُزُولِهِ، أَوْ يَرْفَعُهُ بَعْدَ نُزُولِهِ، وَهَذَا حِينَ دَعَا النَّضِرُ بْنُ الْحَارِثِ الْقُرَشِيِّ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ فَقَالَ: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ [الأنفال:32].
فَالْعَذَابُ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ، فَإِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ، فَلَوْ عَرَفُوا اللَّهَ تَعَالَى، وَعَرَفُوا عَظَمَتَهُ، وَسِعَةَ سُلْطَانِهِ وَكَمَالَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، لَمَا اسْتَعْجَلُوا وَلَا اسْتَسْلَمُوا وَتَأَدَّبُوا، وَلِهَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى مِنْ عَظَمَتِهِ مَا يُضَادُّ أَقْوَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ فَقَالَ: {ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} أَيْ: ذُو الْعُلُوِّ وَالْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ، وَالتَّدْبِيرِ لِسَائِرِ الْخَلْقِ، الَّذِي تَعْرُجُ إِلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ بِمَا جَعَلَهَا عَلَى تَدْبِيرِهِ، وَتَعْرُجُ إِلَيْهِ الرُّوحُ، وَهَذَا اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْأَرْوَاحَ كُلَّهَا، بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا،
– الشيخ : يعني أنها اسمُ جنس، "الروح" ليس المراد روحًا معينًة.
– القارئ : وَهَذَا عِنْدَ الْوَفَاةِ، فَأَمَّا الْأَبْرَارُ فَتَعْرُجُ أَرْوَاحُهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَيُؤْذَنُ لَهَا مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَتُحَيِّي رَبَّهَا وَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَتَحْظَى بِقُرْبِهِ، وَتَبْتَهِجَ بِالدُّنُوِّ مِنْهُ، وَيَحْصُلَ لَهَا مِنْهُ الثَّنَاءُ وَالْإِكْرَامُ وَالْبِرُّ وَالْإِعْظَامُ.
وَأَمَّا أَرْوَاحُ الْفُجَّارِ فَتَعْرُجُ، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى السَّمَاءِ اسْتَأْذَنَتْ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا، وَأُعِيدَتْ إِلَى الْأَرْضِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمَسَافَةَ الَّتِي تَعْرُجُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَى اللَّهِ وَأَنَّهَا تَعْرُجُ فِي يَوْمٍ بِمَا يُسِّرَ لَهَا مِنَ الْأَسْبَابِ، وَأَعَانَهَا عَلَيْهِ مِنَ اللَّطَافَةِ وَالْخِفَّةِ وَسُرْعَةِ السَّيْرِ، مَعَ أَنَّ تِلْكَ الْمَسَافَةَ عَلَى السَّيْرِ الْمُعْتَادِ مِقْدَارُ خَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ مِنِ ابْتِدَاءِ الْعُرُوجِ إِلَى وُصُولِهَا مَا حَدَّ لَهَا، وَمَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، فَهَذَا الْمُلْكُ الْعَظِيمُ، وَالْعَالَمُ الْكَبِيرُ، عُلْوِيُّهُ وَسُفْلِيُّهُ، جَمِيعُهُ قَدْ تَوَلَّى خَلْقَهُ وَتَدْبِيرَهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى، فَعَلِمَ أَحْوَالَهُمُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ، وَمُسْتَقَرَّهُمْ وَمُسْتَوْدَعَهُمْ، وَأَوْصَلَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ، مَا عَمَّهُمْ وَشَمِلَهُمْ وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ حُكْمَهُ الْقَدَرِيَّ، وَحُكْمَهُ الشَّرْعِيَّ وَحُكْمَهُ الْجَزَائِيَّ.
فَبُؤْسًا لِأَقْوَامٍ جَهِلُوا عَظَمَتَهُ، وَلَمْ يُقَدِّرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، فَاسْتَعْجَلُوا بِالْعَذَابِ عَلَى وَجْهِ التَّعْجِيزِ وَالِامْتِحَانِ، وَسُبْحَانَ الْحَلِيمِ الَّذِي أَمْهَلَهُمْ وَمَا أَهْمَلَهُمْ، وَآذَوْهُ فَصَبَرَ عَلَيْهِمْ وَعَافَاهُمْ وَرَزَقَهُمْ.
هَذَا أَحَدُ الِاحْتِمَالَاتِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَيَكُونُ هَذَا الْعُرُوجُ وَالصُّعُودُ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ يُظْهِرُ لِعِبَادِهِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، مَا هُوَ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى مَعْرِفَتِهِ، مِمَّا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ عُرُوجِ الْأَمْلَاكِ وَالْأَرْوَاحِ صَاعِدَةً وَنَازِلَةً، بِالتَّدَابِيرِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالشُّؤُونِ الرَّبَّانِيَّةِ في الخليقةِ.
{فِي ذَلِكَ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسُونَ أَلْفِ سَنَةٍ} مِنْ طُولِهِ وَشِدَّتِهِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَفِّفُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِ.
وَقَوْلُهُ: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} أَيِ: اصْبِرْ عَلَى دَعْوَتِكَ لِقَوْمِكَ صَبْرًا جَمِيلًا لَا تَضَجُّرَ فِيهِ وَلَا مَلَلَ، بَلِ اسْتَمِرَّ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَادْعُ عِبَادَهُ إِلَى تَوْحِيدِهِ، وَلَا يَمْنَعُكَ عَنْهُمْ مَا تَرَى مِنْ عَدَمِ انْقِيَادِهِمْ، وَعَدَمِ رَغْبَتِهِمْ، فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ خَيْرًا كَثِيرًا.
{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} الضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الْبَعْثِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ عَذَابُ السَّائِلِينَ بِالْعَذَابِ أَيْ: إِنَّ حَالَهُمْ حَالُ الْمُنْكِرِ لَهُ، أَوِ الَّذِي غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشِّقْوَةُ وَالسَّكْرَةُ، حَتَّى تَبَاعَدَ جَمِيعُ مَا أَمَامَهُ مِنَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَاللَّهُ يَرَاهُ قَرِيبًا، لِأَنَّهُ رَفِيقٌ حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ فَهُوَ قَرِيبٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَهْوَالَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَمَا يَكُونُ فِيهِ، فَقَالَ: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} الآيات.
{يَوْمِ} أَيِ: الْقِيَامَةِ، تَقَعُ فِيهِ هَذِهِ الْأُمُورُ الْعَظِيمَةُ فَـ {تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} وَهُوَ الرَّصَاصُ الْمُذَابُ مِنْ تَشَقُّقِهَا وَبُلُوغُ الْهَوْلِ مِنْهَا كُلَّ مَبْلَغٍ.
{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} وَهُوَ الصُّوفُ الْمَنْفُوشُ، ثُمَّ تَكُونُ بَعْدَ ذَاكَ هَبَاءً مَنْثُورًا فَتَضْمَحِلُّ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الِانْزِعَاجُ وَالْقَلَقُ لِهَذِهِ الْأَجْرَامِ الْكَبِيرَةِ الشَّدِيدَةِ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْعَبْدِ الضَّعِيفِ الَّذِي قَدْ أَثْقَلَ ظَهْرَهُ بِالذُّنُوبِ وَالْأَوْزَارِ؟
أَلَيْسَ حَقِيقًا أَنْ يَنْخَلِعَ قَلْبُهُ وَيَنْزَعِجَ لُبُّهُ، وَيَذْهَلَ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ؟ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ} أَيْ: يُشَاهِدُ الْحَمِيمُ -وَهُوَ الْقَرِيبُ- حَمِيمَهُ، فَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مُتَّسَعٌ لِسُؤَالِهِ عَنْ حَالِهِ، وَلَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعِشْرَتِهِمْ وَمَوَدَّتِهِمْ، وَلَا يَهُمُّهُ إِلَّا نَفْسُهُ.
يَوَدُّ الْمُجْرِمُ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ
– الشيخ : لا يسألُ عن حالِهِ ولا يسألُهُ المساعدةَ ولا يسألُهُ المساعدةَ.
– القارئ : {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ} أَيْ: زَوْجَتُهُ {وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ} أَيْ: قَرَابَتُهُ {الَّتِي تُؤْوِيهِ} أَيِ: الَّتِي جَرَتْ عَادَتُهَا فِي الدُّنْيَا أَنْ تَتَنَاصَرَ وَيُعِينَ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يَنْفَعُ أَحَدٌ أَحَدًا، وَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.
بَلْ لَوْ يَفْتَدِي الْمُجْرِمُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعَذَابِ بكلِّ مَنْ يعرفُهُ {ومَنْ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُنْجِيهِ} لَمْ يَنْفَعْهُ.
{كَلَّا} أَيْ: لَا حِيلَةَ وَلَا مَنَاصَ لَهُمْ، قَدْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وَذَهَبَ نَفْعُ الْأَقَارِبِ وَالْأَصْدِقَاءِ.
{إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} أَيْ: النَّارُ الَّتِي تَتَلَظَّى تَنْزِعُ مِنْ شِدَّتِهَا لِلْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
{تَدْعُو} إِلَى نَفْسِهَا {مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى} أَيْ: أَدْبَرَ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ، وَجَمْعُ الْأَمْوَالِ بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَأَوْعَاهَا، فَلَمْ يُنْفِقْ مِنْهَا ما ينفعُهُ ويدفعُ عنه النارَ، فَالنَّارُ تَدْعُو هَؤُلَاءِ إِلَى نَفْسِهَا، وَتَسْتَعِدُّ لِلِالْتِهَابِ بِهِمْ.
انتهى
– الشيخ : نسأل الله العافية
– طالب: أحسنَ الله إليك
شيخنا {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} على الكفارِ والمسلمين والا [أم] على الكفار فقط؟
– الشيخ : {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:8-10]