بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة المعارج
الدَّرس: الثَّاني
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيمِ
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:19-35]
– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلا الله.
{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} يخبر تعالى عن ما طُبِعَ عليه الإنسانُ وجُبِلَ عليه مِن قلَّة الصبر في السَّرَّاء والضرَّاء {خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} هذا كالتفسيرِ لقولِه: {هَلُوعًا}، {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} من مرضٍ أو فقرٍ أو شدَّة جَزوعٌ، وإن مسَّه الخير والنعمة وأوتيَ المال فهو مَنَوعٌ بخيلٌ، قال الله:{إِلَّا الْمُصَلِّينَ} إلى آخر ما وصفَهم به فإنهم على خلاف ذلك {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}، {عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} محافظونَ عليها، صابرون {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه:132] {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}
{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} إذًا هُم عابدونَ لله صائِمون مُصلُّون مُؤَدُّون لفرائضِ اللهِ وينفقون المال، وكثيرًا ما يَقرِنُ الله بينَ الصلاة والإنفاق والصلاة والزكاة، فهذا مِن هذا النوعِ {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الأنفال:3] وهنا قال: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} مفروضٌ، فالزكاةُ فريضةٌ مُقدَّرة معلومةٌ {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} {لِلسَّائِلِ} الذي يسألُ الناسَ ويطلبُ حاجتَهُ ويسألُ مَن يعطيهِ، وكذلك المحرومُ الذي هو فقيرٌ محرومٌ مِن الرزقِ والسَّعَةِ فهم يتصدقونَ وينفقونَ ويخصُّونَ السائلَ والمحرومَ بالعطاء {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} وهو يومُ الجزاء، يؤمنون باللهِ واليوم الآخر.
{وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} خائفونَ، يخافونَ عذاب الله {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} عذابُ اللهِ شديدٌ، ولا يُؤمَنُ أنْ يحلَّ بِمَنْ هو لَه أهلٌ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}.
ثم ذكر مِن صفاتِ المصلِّين الدائمينَ على صلاتِهم {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}، من صفاتهم: أنهم حافظونَ لفروجِهم : {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} حافظونَ لها عن النَّظرِ فَهُم يسترُونَها ولا يُمكِّنونَ أحداً مِن النظر إليها وهم حافظونَ لها كذلك ممَّا حرَّمَ الله مِن الزنا وسائرِ الفواحش {لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فهذا هو الذي أباحَهُ اللهُ مِن الاستمتاعِ بالفَرجِ: الزوجةُ أو مِلْكُ اليمينِ {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} غَيْرُ مَلُومِينَ في ذلك في تعاطي والتَّمتُّعِ بما أباحَ اللهُ لا لومَ عليهم في ذلك {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} لكن مَن ابتغى سوى ذلك فهم المعتدي العادي لحدودِ الله فهو ملومٌ مذمومٌ {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى} أي: طلبَ، فَمَنِ طلب غير ذلك، {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}.
قال الله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} يُراعونها فيحفظون أماناتِهم ولا يخونونَها بل هم يؤدُّون الأماناتِ، فرعايتُها بحفظِها وأدائِها، رعايةُ الأماناتِ يكونُ بحفظِها وأدائِها، وضدُّ ذلك: الخيانة.
{وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} قَائِمُونَ بها، مُؤدُّونُ للشهادات، قَائِمُونَ بحقوقِها، وأعظمُ ذلك: شهادةُ الحق، الشهادةُ للهِ بالتوحيدِ، فهم يقومونَ بهذه الشهادةِ التي هي أعظمُ الشهاداتِ، يقومونَ بها ويؤدُّونَ حقَّها ويُصدِّقونها بأقوالِهم وأفعالِهم، وكذلك الشهادات الـمُتعلِّقة بالحقوقِ -بحقوقِ العباد- يؤدُّونها، إذا دُعُوا إليها أدَّوْهَا {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282] {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ}.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} فأثنى عليهم في أولِ هذه الصفاتِ بالدَّوام على الصلاة، وفي آخرها أثنى عليهِم بالمحافظةِ عليها، فدلَّ ذلك على عِظَمِ شأنِ الصَّلاةِ في الدِّين، عِظَمِ شأنِ الصلاة في الإسلام، فبدأَ بها في ذِكْرِ هذه الصفاتِ وختمَ بها، ولا ريبَ أن الـمُقيمين للصلاة الدَّائمين عليها الـمُحافظين عليها هم أهلٌ للقيام بسائر الأعمال الصالحة وترك المُحرَّمات، فإنَّ الصلاةَ تنهى عن الفحشاء والـمُنكر.
ثم ختمَها بهذا الوعيد {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} هذه عاقبتُهم: {فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} بكرامة الله، بما أعدَّ لهم فيها مِن النعيمِ المقيم {فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} نسألُ الله من فضله، اللهمَّ اسلك بنا سبيلَ المؤمنينَ الدائمين على صلاتِهم الـمُحافظينَ عليها.
(تفسير السعدي)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، والصلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصحبه أجمعين. قالَ الشيخُ عبد الرحمن السَّعدي -رحمه الله تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} الآيات.
وَهَذَا الْوَصْفُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَصْفُ طَبِيعَتِهِ أَنَّهُ هَلُوعٌ.
وَفَسَّرَ الْهَلُوعَ بِقَوْلِهِ: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} فَيَجْزَعُ إِنْ أَصَابَهُ فَقْرٌ أَوْ مَرَضٌ، أَوْ ذَهَابُ مَحْبُوبٍ لَهُ، مِنْ مَالٍ أَوْ أَهْلٍ أَوْ وَلَدٍ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ الصَّبْرُ وَالرِّضَا بِمَا قَضَى اللَّهُ.
{وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} فَلَا يُنْفِقُ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ، وَلَا يَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى نِعَمِهِ وَبِرِّهِ، فَيَجْزَعُ فِي الضَّرَّاءِ، وَيَمْنَعُ فِي السَّرَّاءِ.
{إِلا الْمُصَلِّينَ} الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ فَإِنَّهُمْ إِذَا مَسَّهُمُ الْخَيْرُ شَكَرُوا اللَّهَ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا خَوَّلَهُمُ اللَّهُ، وَإِذَا مَسَّهُمُ الشَّرُّ صَبَرُوا وَاحْتَسَبُوا.
وَقَوْلُهُ فِي وَصْفِهِمْ: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} أَيْ: مُدَاوِمُونَ عَلَيْهَا فِي أَوْقَاتِهَا بِشُرُوطِهَا وَمُكَمِّلَاتِهَا.
وَلَيْسُوا كَمَنْ لَا يَفْعَلُهَا، أَوْ يَفْعَلُهَا وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، أَوْ يَفْعَلُهَا عَلَى وَجْهٍ نَاقِصٍ.
{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ} حَقٌّ مَعْلُومٌ مِنْ زَكَاةٍ وَصَدَقَةٍ
{لِلسَّائِلِ} الَّذِي يَتَعَرَّضُ لِلسُّؤَالِ {وَالْمَحْرُومِ} وَهُوَ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ فَيُعْطُوهُ، وَلَا يَفْطَنُ لَهُ فَيَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ.
{وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أَيْ: يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ، وَأَخْبَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ، مِنَ الْجَزَاءِ وَالْبَعْثِ، وَيَتَيَقَّنُونَ ذَلِكَ فَيَسْتَعِدُّونَ لِلْآخِرَةِ، وَيَسْعَوْنَ لَهَا سَعْيَهَا، وَالتَّصْدِيقُ بِيَوْمِ الدِّينِ يُلْزِمُ مِنْهُ التَّصْدِيقَ بِالرُّسُلِ، وَبِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْكُتُبِ.
{وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} أَيْ: خَائِفُونَ وَجِلُونَ، فَيَتْرُكُونَ لِذَلِكَ كُلَّ مَا يُقَرِّبُهُمْ
– الشيخ : هذه ثمرةُ هذه ثمرةُ الإيمانِ بيومِ الدِّين مِن ثمراتِه: الخوفُ من عذاب الله، فلا يخافُ عذابَ الله إلا مَن آمنَ بأن وراءَه بعثٌ ونشورٌ وجزاءٌ، ولهذا قَرَنَ بين الأمرَيْن وأتبعَ هذا {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} لكمالِ إيمانِهم ويقينِهم بالمعادِ والبعثِ والنُّشورِ والجزاءِ.
– القارئ : فَيَتْرُكُونَ لِذَلِكَ كُلَّ مَا يُقَرِّبُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
{إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} أَيْ: هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي يُخْشَى وَيُحْذَرُ.
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ فَلَا يَطَأُونَ بِهَا وَطْأً مُحَرَّمًا، مِنْ زِنَى أَوْ لِوَاطٍ، أَوْ وَطْءٍ فِي دُبُرٍ، أَوْ حَيْضٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَحْفَظُونَهَا أَيْضًا مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَمَسِّهَا مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَيَتْرُكُونَ أَيْضًا وَسَائِلَ الْمُحَرَّمَاتِ الدَّاعِيَةِ لِفِعْلِ الْفَاحِشَةِ.
{إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}
– الشيخ : يعني: حِفْظُ الفروجِ يَستلزمُ تَركَ كلَّ ما يُؤدِّي إلى ضِدِّ ذلك مِن النظرِ الحرام واللَّمسِ الحرامِ والكلامِ الحرام، كلُّ ما يُؤدِّي إلى الفاحشةِ فإنَّه يجتنبُه المؤمنون المتَّقون لله، فَحِفْظُ الفرجِ يحصلُ بتركِ الفواحشِ وبتركِ وسائلِها المقرِّبة إليها.
– القارئ : {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أَيْ: سَرِيَّاتُهُمْ {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فِي وَطْئِهِنَّ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْحَرْثِ.
{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} أَيْ: غَيْرَ الزَّوْجَةِ وَمِلْكَ الْيَمِينِ، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} أَيِ: الْمُتَجَاوِزُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، لِكَوْنِهَا غَيْرَ زَوْجَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَلَا مِلْكِ يَمِينٍ.
{وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أَيْ: مُرَاعُونَ لَهَا، حَافِظُونَ مُجْتَهِدُونَ عَلَى أَدَائِهَا
– الشيخ : هذه الآية في السورةِ المكيةِ، وكذلكَ في سورة المؤمنون، والمتعةُ حَلَّتْ بعد ذلكَ وحُرِّمَتْ، فتحريمُ المتعةِ معلومٌ بالسنةِ الصحيحةِ.
– القارئ : أيْ: مُرَاعُونَ لَهَا، حَافِظُونَ مُجْتَهِدُونَ عَلَى أَدَائِهَا وَالْوَفَاءِ بِهَا، وَهَذَا شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَمَانَاتِ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، كَالتَّكَالِيفِ السِّرِّيَّةِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ، وَالْأَمَانَاتُ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْخَلْقِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَسْرَارِ، وَكَذَلِكَ الْعَهْدُ شَامِلٌ لِلْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ، وَالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ الْخَلْقَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَهْدَ يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ، هَلْ قَامَ بِهِ وَوَفَّاهُ، أَمْ رَفَضَهُ وَخَانَهُ فَلَمْ يَقُمْ بِهِ؟
{وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} أَيْ: لَا يَشْهَدُونَ إِلَّا بِمَا يَعْلَمُونَهُ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ وَلَا كِتْمَانٍ، وَلَا يُحَابِي فِيهَا قَرِيبًا وَلَا صَدِيقًا وَنَحْوَهُ، وَيَكُونُ الْقَصْدُ بِإِقَامَتِهَا وَجْهَ اللَّهِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء:135]
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ.
{أُولَئِكَ} أَيِ: الْمَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ {فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} أَيْ: قَدْ أَوْصَلَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
وَحَاصِلُ هَذَا: أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ أَهْلَ السَّعَادَةِ وَالْخَيْرِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْكَامِلَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الـمَرضيَةِ الْفَاضِلَةِ، مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، كَالصَّلَاةِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا، وَالْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ، كَخَشْيَةِ اللَّهِ الدَّاعِيَةِ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَالْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالْعَقَائِدِ النَّافِعَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَمُعَامَلَةِ اللَّهِ، وَمُعَامَلَةِ خَلْقِهِ أَحْسَنَ مُعَامَلَةٍ مِنْ إِنْصَافِهِمْ وَحِفْظِ حُقُوقِهِمْ وَأَمَانَاتِهِمْ، وَالْعِفَّةِ التَّامَّةِ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ عَمَّا يَكْرَهُ اللَّهُ تَعَالَى.