الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة المزمل/(1) من قوله تعالى {يا أيها المزمل} الآية 1 إلى قوله تعالى {وطعاما ذا غصة وعذابا أليما} الآية 13
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(1) من قوله تعالى {يا أيها المزمل} الآية 1 إلى قوله تعالى {وطعاما ذا غصة وعذابا أليما} الآية 13

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة المزمل

الدَّرس: الأوَّل

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ [المزمل:1-14]

– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذه سورةُ المزَّمِّلِ، اسمُها من فاتحتِها {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} وهي مكِّيَّةٌ، والخطابُ فيها للنَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمزَّمِّلُ كالْمُدَّثرِ هو الْمُلتحِفُ بلحافٍ، وجاءَ في سببِ نزولِ هذه السُّورةِ والْمُدَّثرُ أنَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لما جاءَه الملكُ في الغارِ وجدَ بعدَ ذلك شيئاً من الخيفةِ فجاءَ إلى أهله وقالَ: (زمِّلوني زمِّلوني) أو (دثِّروني دثِّروني) ثمَّ جاءَه الملكُ بهذا الخطابِ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ} هذا أمرٌ من اللهِ لنبيِّه بأنْ يقومَ اللَّيلَ {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} يعني: تكونُ الأصنافُ ثلاثةً: نصفَ اللَّيلِ، أو أقلَّ منه فيكونُ الثُّلثَ، أو أكثرَ فيكونُ الثُّلثَينِ. وهذا كأنَّه تُفسِّرُه الآيةُ الآتيةُ: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل:20]

{نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} وهذا تخييرٌ للنَّبيِّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- أنْ يقومَ بهذا المقدارِ {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} جاءَ في التَّفسيرِ أنَّ ناشئةَ اللَّيلِ هي القيامُ بعدَ النَّومِ {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} فالقيامُ قيامُ اللَّيلِ بعدَ النَّوم هذا يكونُ الإنسانُ فيه أنشطَ من غيره من الأوقاتِ، على القيامِ وعلى التِّلاوةِ.

{وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} ففي النَّهارِ فرصةٌ لشؤونِ الإنسانِ في حياته لشؤونه الدُّنيويَّة {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} يأمرُ اللهُ نبيَّه أنْ يذكرَ ربَّه في كلِّ وقتٍ، وأنْ يتبتَّلَ إليه يتعبَّد له متوجِّهاً إليه {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} 

{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} يأمرُ اللهُ نبيَّه بالصَّبر على ما يقولُه الكفَّارُ من الكلام المُنكَرِ كقولهم: إنَّه مجنونٌ وكاهنٌ وساحرٌ {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ} اهجرْهم واتركْهم وذرْهم وأعرضْ عنهم {هَجْرًا جَمِيلًا} قالَ المفسِّرون: الهجرُ الجميلُ هو الَّذي لا أذى معَه، والصَّبرُ الجميلُ هو الَّذي لا شكايةَ معَه، والصَّفحُ الجميلُ هو الَّذي لا عتابَ معَه {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}

قالَ اللهُ: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} هذا أسلوبُ تهديدٍ {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} ذرْني معَهم {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا}، {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} وفي هذا تهديدٌ كقولِهِ تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} مهِّلْهم، يعني: ولا تعجلْ عليهم.

{إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} هذا العذابُ الَّذي ينتظرُهم {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} ففي هذه الآياتِ الأمرُ بقيامِ اللَّيل وقد قيلَ: إنَّه كانَ واجباً ثمَّ نُسِخَ وجوبُهُ وبقيَ، قيلَ: إنَّه واجبٌ على النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] قيلَ: إنَّ هذا خاصٌّ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وزيادةٌ في درجاته وفضلِه وعبادتِه لربِّه.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-: تفسيرُ سورةِ المزَّمِّلِ وهيَ مكِّيَّةٌ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} الآياتِ:

المزَّمِّلُ: المتغطِّي بثيابِهِ كالمدَّثرِ، وهذا الوصفُ حصلَ مِن رسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حينَ أكرمَهُ اللهُ برسالتِهِ، وابتدأَهُ بإنزالِ وحيِهِ بإرسالِ جبريلَ إليهِ، فرأى أمرًا لم يرَ مثلَهُ، ولا يقدرُ على الثَّباتِ لهُ إلَّا المُرسَلونَ، فاعتراهُ عندَ ذلكَ انزعاجٌ حينَ رأى جبريلَ -عليهِ السَّلامُ-، فأتى إلى أهلِهِ، فقالَ: (زمِّلوني زمِّلوني) وهوَ ترعدُ فرائصُهُ، ثمَّ جاءَهُ جبريلُ فقالَ: "اقرأْ" فقال: (ما أنا بقارئٍ) فغطَّهُ حتَّى بلغَ منهُ الجهدَ، وهوَ يعالجُهُ على القراءةِ، فقرأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثمَّ ألقى اللهُ عليهِ الثَّباتَ، وتابعَ عليهِ الوحيَ، حتَّى بلغَ مبلغًا ما بلغَهُ أحدٌ مِن المرسلينَ.

فسبحانَ اللهِ، ما أعظمَ التَّفاوتَ بينَ ابتداءِ نبوَّتِهِ ونهايتِها، ولهذا خاطبَهُ اللهُ بهذا الوصفِ الَّذي وجدَ منهُ في أوَّلِ أمرِهِ.

فأمرَهُ هنا بالعباداتِ المتعلِّقةِ بهِ، ثمَّ أمرَهُ بالصَّبرِ على أذيَّةِ قومِهِ، ثمَّ أمرَهُ بالصَّدعِ بأمرِهِ، وإعلانِ دعوتِهم إلى اللهِ، فأمرَهُ هنا بأشرفِ العباداتِ، وهيَ الصَّلاةُ، وبآكدِ الأوقاتِ وأفضلِها، وهوَ قيامُ اللَّيلِ.

ومِن رحمتِهِ تعالى، أنَّهُ لم يأمرْهُ بقيامِ اللَّيلِ كلِّهِ، بل قالَ: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلًا}.

ثمَّ قدَّرَ ذلكَ فقالَ: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ} أي: مِن النَّصفِ {قَلِيلًا} بأنْ يكونَ الثُّلثَ ونحوَهُ.

{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أي: على النِّصفِ، فيكونُ الثُّلثَينِ ونحوَها. {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} فإنَّ ترتيلَ القرآنِ بهِ يحصلُ التَّدبُّرُ والتَّفكُّرُ، وتحريكُ القلوبِ بهِ، والتَّعبُّدُ بآياتِهِ، والتَّهيُّؤُ والاستعدادُ التَّامُّ لهُ، فإنَّهُ قالَ: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} أي: نوحي إليكَ هذا القرآنَ الثَّقيلَ، أي: العظيمةُ معانيهِ، الجليلةُ أوصافُهُ، وما كانَ بهذا الوصفِ، حقيقٌ أنْ يُتهيَّأَ لهُ، ويُرتَّلَ، ويُتفكَّرُ فيما يشتملُ عليهِ.

ثمَّ ذكرَ الحكمةَ في أمرِهِ بقيامِ اللَّيلِ، فقالَ: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} أي: الصَّلاةَ فيهِ بعدَ النَّومِ {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} أي: أقربُ إلى حصولِ مقصودِ القرآنِ، يتواطأُ عليهِ القلبُ واللِّسانُ، وتقلُّ الشَّواغلُ، ويفهمُ ما يقولُ، ويستقيمُ لهُ أمرُهُ، وهذا بخلافِ النَّهارِ، فإنَّهُ لا يحصلُ بهِ هذا المقصودَ، ولهذا قالَ: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} أي: تردُّدًا على حوائجِكَ ومعاشِكَ، يوجبُ اشتغالَ القلبِ وعدمَ تفرُّغِهِ التَّفرُّغَ التَّامَّ.

{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} شاملٌ لأنواعِ الذِّكرِ كلِّها {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} أي: انقطعْ إلى اللهِ تعالى، فإنَّ الانقطاعَ إلى اللهِ والإنابةَ إليهِ، هوَ الانفصالُ بالقلبِ عن الخلائقِ، والاتِّصافُ بمحبَّةِ اللهِ، وكلِّ ما يقرِّبُ إليهِ، ويُدني مِن رضاهُ.

{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} وهذا اسمُ جنسٍ يشملُ المشارقَ والمغاربَ كلَّها، فهوَ تعالى ربُّ المشارقِ والمغاربِ، وما يكونُ فيها مِن الأنوارِ، وما هيَ مصلحةٌ لهُ مِن العالمِ العلويِّ والسُّفليِّ، فهوَ ربُّ كلِّ شيءٍ وخالقُهُ ومدبِّرُهُ.

{لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي: لا معبودَ إلَّا وجهُهُ الأعلى، الَّذي يستحقُّ أنْ يُخَصَّ بالمحبَّةِ والتَّعظيمِ، والإجلالِ والتَّكريمِ، ولهذا قالَ: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} أي: حافظًا ومدبِّرًا لأمورِكَ كلِّها.

فلمَّا أمرَهُ اللهُ بالصَّلاةِ خصوصًا، وبالذِّكرِ عمومًا، وبذلكَ تحصلُ للعبدِ ملكةٌ قويَّةٌ في تحمُّلِ الأثقالِ، وفعلِ الشَّاقِّ مِن الأعمالِ، أمرَهُ بالصَّبرِ على ما يقولُهُ المعاندونَ لهُ ويسبُّونَهُ ويسبُّونَ ما جاءَ بهِ، وأنْ يمضيَ على أمرِ اللهِ، لا يصدُّهُ عنهُ صادٌّ، ولا يردُّهُ رادٌّ، وأنْ يهجرَهم هجرًا جميلًا وهوَ الهجرُ حيثُ اقتضَتِ المصلحةُ الهجرَ الَّذي لا أذيَّةَ فيهِ، بل يُعاملُهم بالهجرِ والإعراضِ عنهم وعن أقوالِهم الَّتي تؤذيهِ، وأمرَهُ بجدالِهم بالَّتي هيَ أحسنُ.

{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} أي: اتركْني وإيَّاهم، فسأنتقمُ منهم، وإنْ أمهلْتُهم فلا أهملُهم، وقولُهُ: {أُولِي النَّعْمَةِ} أي: أصحابُ النِّعمةِ والغِنى، الَّذينَ طغَوا حينَ وسَّعَ اللهُ عليهم مِن رزقِهِ، وأمدَّهم مِن فضلِهِ كما قالَ تعالى: {كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}.

ثمَّ توعَّدَهم بما عندَهُ مِن العقابِ، فقالَ:

{إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا} الآياتِ:

أي: إنَّ عندَنا {أَنْكَالًا} أي: عذابًا شديدًا، جعلْناهُ تنكيلًا للَّذي لا يزالُ مستمرًّا على ما يغضبُ اللهُ. {وَجَحِيمًا} أي: نارًا حاميةً {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} وذلكَ لمرارتِهِ وبشاعتِهِ، وكراهةِ طعمِهِ وريحِهِ الخبيثِ المُنتِنِ، {وَعَذَابًا أَلِيمًا} أي: موجِعًا مُفظِعاً، {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ}

– الشيخ : اللهُ المُستعانُ .