الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة المدثر/(1) من قوله تعالى {يا أيها المدثر} الآية 1 إلى قوله تعالى {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} الآية 31
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(1) من قوله تعالى {يا أيها المدثر} الآية 1 إلى قوله تعالى {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} الآية 31

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة المدثر

الدَّرس: الأوَّل

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا.. [المدثر:1-31]

– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله.

سورةُ المدثر، وهي مكيَّة، وافتُتحتْ بهذا الخطاب مِن الله للنَّبي في حالِ تَدَثُّرِهِ، كسورة "المزَّمل" فهِيَ شبيهةٌ بها في الافتتاحيةِ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} يعني: الـمُلْتَحِف، وجاء في السيرة أنه -صلى الله عليه وسلم- لما جاءَه الملَكُ في الغارِ وحصل له فَزَعٌ وخوفٌ جاء إلى أهله وقال: (دَثِّرُونِي، دَثِّرُونِي) فجاءَه الملَك يخاطبُهُ بذلك: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} يخاطبُه في هذه الحال في حال التَّدَثُّر.

{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1) قُمْ فَأَنْذِرْ} الوقتُ ليسَ وقتَ نومٍ وراحةٍ والْتِحَافٍ، لا، {قُمْ فَأَنْذِرْ} أنذرْ الناسَ عذابَ اللهِ وحذَّرْهم مِن الشركِ بالله {قُمْ فَأَنْذِرْ} وقالَ أهلُ العلم: إنَّ سورةَ "اقرأ" حصلتْ له بها -صلى الله عليه وسلم- النبوة، نزولُ الوحي، صار..، ببداية نزولِ الوحي نبيًّا، وبنزول هذه السورة صارَ رسولًا؛ لأنه الآن كُلِّفَ بالدعوة، ولهذا يقولُ الشيخ محمد بن عبد الوهاب في "الأصولِ الثلاثة": نُبِّأَ بـ "اقرأ" وأُرسِلَ بـ "المدَّثر".

{قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} عظِّمْ ربَّك بتوحيدِه وعبادتِه وحدَه لا شريك له {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}.

{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} {وَثِيَابَكَ} فُسِّرت بالأعمال، يعني: طهِّر أعمالك مِن الشرك بالله ومِن مخالفةِ أمر الله، ويتضمَّنُ -أيضًا- طهارةَ الثيابِ مِن الأنجاسِ.

{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرُّجْزَ: الأصنام والأوثان التي تُعبَدُ مِن دون الله، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج:30] فيقال لها: رِجْس، والرِّجْز، وهو كلُّ شيءٍ خبيثٍ رديءٍ، {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} وهنا قال: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}.

{وَلَا تَـمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} لا تَـمْنُنْ بالعطاء تريد الزيادةَ ممَّنْ أعطيتَهُ، مثل هديةُ الثواب مَن يعطي ليُثَابَ أكثر {لَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}، {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} بل أنفقْ رجاءَ ثوابِ الله، ولا تمنُّ بما أعطيتَ {وَلَا تَـمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}.

{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} اصبر على ما يقولُ لكَ أعداؤُكَ الكفرة، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39]، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [القلم:48] {وَلِرَبِّكَ} اصبر لربِّكَ أي: لله، فاللام تدلُّ على الإخلاص، فعلى العبد أن يصبرَ لله مخلصًا في ذلك، وأن يصبر بالله مستعينًا به، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}.

{فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} والنَّاقورُ: هو الصُّوْرُ، فالمعنى: يومَ يُنفخ في الصُّور {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} على الكافرين، لكنَّه على المؤمنين يسيرٌ، وعلى الكافرين عسيرٌ كما قال تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8] إي واللهِ إنه لعَسِر؛ لأنَّهم لم يَستعدُّوا له، بل وردُوا على ذلك اليوم وهم كفارٌ مستحقُّونَ للعذابِ مُهددون بِسَخَطِ اللهِ سبحانه وتعالى.

{فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} فقوله: {غَيْرُ يَسِيرٍ} مؤكدة يعني: ليسَ فيهِ شيءٌ مِن اليُسر عليهم، بل هو عسيرٌ كلُّهُ.

ثم قال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} كما قال في السورة التي قبلَها: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل:11] وهنا قال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} وهذه الآياتُ نزلَتْ في أحدِ المشركين كما جاءَ في السيرة، الوليدُ بن الوليد [لعلَّ الشيخ قصد: الوليد بن المغيرة، وإلا فالوليد بن الوليد صحابي]

واللهُ -تعالى- يُهدِّدُهُ بهذا الوعيد الشديد {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}.

ثم ذكر معانيًا تتضمَّنُ تهديدَهُ وتحقيرَهُ {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} إلى آخرِ الآياتِ.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ رحمَهُ اللهُ تعالى:

تفسيرُ سورةِ الـمُدَّثِّر، وَهِيَ مكيَّةٌ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} الآيات:

تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُزَّمِّلَ وَالْمُدَّثِّرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنَّ اللَّهَ أَمْرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاجْتِهَادِ فِي عِبَادَاتِ اللَّهِ الْقَاصِرَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ، فَتَقَدَّمَ هُنَاكَ الْأَمْرُ لَهُ بِالْعِبَادَاتِ الْفَاضِلَةِ الْقَاصِرَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ، وَأَمَرَهُ هُنَا بِإِعْلَانِ الدَّعْوَةِ، وَالصَّدْعِ بِالْإِنْذَارِ، فَقَالَ: {قُمْ} أَيْ بِجِدٍّ وَنَشَاطٍ {فَأَنْذِرْ} النَّاسَ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ، وَبَيَانِ حَالِ الْمُنْذَرِ عَنْهُ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لِتَرْكِهِ، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أَيْ: عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَاجْعَلْ قَصْدَكَ فِي إِنْذَارِكَ وَجْهِ اللَّهِ، وَأَنْ يُعَظِّمَهُ الْعِبَادُ وَيَقُومُوا بِعِبَادَتِهِ.

{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالثِّيَابِ أَعْمَالُهُ كُلُّهَا، وَبِتَطْهِيرِهَا تَخْلِيصُهَا وَالنُّصْحُ بِهَا وَإِيقَاعُهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَتَنْقِيَتِهَا عَنِ الْمُبْطِلَاتِ وَالْمُفْسِدَاتِ وَالْمُنْقِصَاتِ مِنْ شَرٍّ وَرِيَاءٍ وَنِفَاقٍ وَعَجَبٍ وَتَكَبُّرٍ وَغَفْلَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا يُؤْمَرُ الْعَبْدُ بِاجْتِنَابِهِ فِي عِبَادَاتِهِ.

وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تَطْهِيرُ الثِّيَابِ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّطْهِيرِ لِلْأَعْمَالِ خُصُوصًا فِي الصَّلَاةِ، الَّتِي قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ عَنْهَا شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِهَا.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِثِيَابِهِ الثِّيَابُ الْمَعْرُوفَةُ، وَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَطْهِيرِهَا عَنْ جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، خُصُوصًا عندَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَإِذَا كَانَ مَأْمُورًا بِطَهَارَةِ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ طَهَارَةَ الظَّاهِرِ مِنْ تَمَامِ طَهَارَةِ الْبَاطِنِ.

{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّجْزِ الْأَصْنَامُ وَالْأَوْثَانُ، الَّتِي عُبِدَتْ مَعَ اللَّهِ، فَأَمَرَهُ بِتَرْكِهَا وَالْبَرَاءَةَ مِنْهَا وَمِمَّا نُسِبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّجْزِ أَعْمَالُ الشَّرِّ كُلُّهَا وَأَقْوَالُهُ، فَيَكُونُ أَمْرًا لَهُ بِتَرْكِ الذُّنُوبِ، صَغِارِهَا وَكِبَارِهَا، ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا الشِّرْكُ فَمَا دُونَهُ.

{وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} أَيْ: لَا تَمْنُنْ عَلَى النَّاسِ بِمَا أَسْدَيْتَ إِلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَتَسْتَكْثِرُ بِتِلْكَ الْمِنَّةِ، وَتَرَى لَكَ الْفَضْلَ عَلَيْهِمْ، بَلْ أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ مَهْمَا أَمْكَنَكَ، وَانْسَ عِنْدَهُمْ إِحْسَانَكَ، وَاطْلُبْ أَجْرَكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَاجْعَلْ مَنْ أَحْسَنَتْ إِلَيْهِ وَغَيْرَهُ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ.

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى هَذَا، لَا تُعْطِ أَحَدًا شَيْئًا، وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ يُكَافِئَكَ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، فَيَكُونُ هَذَا خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} أَيِ: احْتَسِبْ بِصَبْرِكَ،

– الشيخ : يعني: هديةُ الثوابِ تكونُ.. يعني النهيُ عنها خاصٌّ بالنبي، وأما غيرُهُ فيجوزُ للإنسان أنه يُهدي الهديةَ يريد أن يُثابَ عليها أكثرَ منها، وتُسمَّى عند الفقهاءِ: "هدية الثواب" ويجعلُونها.. يجعلون لها حكمَ البيعِ في كثيرٍ من الأحكام، هديةُ الثواب، لأنَّ الـمُهْدي.. وإلا الأصل أنَّ الهدية يُرادُ منها توثيقَ الصِّلة واجتلابُ المودة، (تَهَادُوا تَحَابُّوا).

 

– القارئ : فَامْتَثَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَمْرِ رَبِّهِ، وَبَادَرَ فِيهِ، فَأَنْذَرَ النَّاسَ، وَأَوْضَحَ لَهُمْ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ جَمِيعَ الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَعِظَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَدَعَا الْخَلْقَ إِلَى تَعْظِيمِهِ، وَطَهَّرَ أَعْمَالَهُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وهَجَرَ كلَّ ما يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا يُعْبَدُ مَعَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَأَهْلِهَا، وَالشَّرِّ وَأَهْلِهِ، وَلَهُ الْمِنَّةُ عَلَى النَّاسِ -بَعْدَ مِنَّةِ اللَّهِ- مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، وَصَبَرَ لِرَبِّهِ أَكْمَلَ صَبْرٍ، فَصَبَرَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَعَنْ مَعَاصِيهِ، وَصَبَرَ عَلَى أَقْدَارِهِ الْمُؤْلِمَةِ، حَتَّى فَاقَ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

قال الله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} الآيات:

يْ: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ لِلْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ، وَجُمِعَ الْخَلَائِقُ لِلْبَعْثِ وَالنُّشُورِ. {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} لِكَثْرَةِ أَهْوَالِهِ وَشَدَائِدِهِ. {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} لِأَنَّهُمْ قَدْ أَيَسُوا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَأَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ وَالْبَوَارِ. وَمَفْهُومُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَسِيرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8]

قال الله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} الآيات:

هَذِهِ الْآيَاتُ، نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، الْمُعَانِدِ الْحَقِّ، الْمُبَارِزِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ بِالْمُحَارَبَةِ وَالْمُشَاقَّةِ، فَذَمَّهُ اللَّهُ ذَمًّا لَمْ يَذُمَّ بِهِ غَيْرَهُ، وَهَذَا جَزَاءُ كُلِّ مَنْ عَانَدَ الْحَقَّ وَنَابَذَهُ أَنَّ لَهُ الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى، فَقَالَ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} أَيْ: خَلَقْتُهُ مُنْفَرِدًا، بِلَا مَالٍ وَلَا أَهْلٍ، وَلَا غَيْرِهِ، فَلَمْ أَزَلْ أُرَبِّيهِ وأُعْطِيه

– الشيخ : وهذا شأنُ.. وهذا كلّ مولودٍ يُولَدُ هكذا، لكن مَنْ شكرَ نعمةَ الله وإحسانَهُ عليه كان محمودًا ومأجورًا، ومَنْ كفرَ نعمةَ الله -كهذا الكافر العنيدِ- كان حقيقًا بالذمِّ والشَّقاءِ والعذاب، فاللهُ يذكر مِنَّتَهُ عليه وقد خلقَهُ وحيدًا ثم ربَّاهُ بنعمِه حتى صار له مالٌ وولدٌ، {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا وبنين شُهُودًا} بعد أن كان وحيدًا، وَقَابَلَ هذه النِّعَم بالكفرِ والتكذيبِ، قابَلَ هذه النِّعم بتكذيبِ الرسولِ ومعصيةِ الرسول -عليه الصلاة والسلام- فلهذا استحقَّ هذا التَّهديد، {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا}.

 

– القارئ : {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا} أَيْ: كَثِيرًا {وَ} جَعَلَتْ لَهُ {بَنِينَ} أَيْ: ذُكُورًا {شُهُودًا} أَيْ: حَاضِرِينَ عِنْدَهُ، عَلَى الدَّوَامِ يَتَمَتَّعُ بِهِمْ، وَيَقْضِي بِهِمْ حَوَائِجَهُ، وَيَسْتَنْصِرُ بِهِمْ.

{وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} أَيْ: مَكَّنْتُهُ مِنَ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا، حَتَّى انْقَادَتْ لَهُ مَطَالِبُهُ، وَحَصَلَ لَهُ مَا يَشْتَهِي وَيُرِيدُ، {ثُمَّ} مَعَ هَذِهِ النِّعَمِ وَالْإِمْدَادَاتِ {يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} أَيْ: يَطْمَعُ أَنْ يَنَالَ نَعِيمَ الْآخِرَةِ كَمَا نَالَ نَعِيمَ الدُّنْيَا.

{كَلَّاْ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا طَمَعَ، بَلْ هُوَ بِخِلَافِ مَقْصُودِهِ وَمَطْلُوبِهِ، وَذَلِكَ {إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا}: عَرَفَهَا ثُمَّ أَنْكَرَهَا، وَدَعَوْتُهُ إِلَى الْحَقِّ فَلَمْ يَنْقَدْ لَهَا وَلَمْ يَكْفِهِ أَنَّهُ أَعْرَضَ وَتَوَلَّى، بَلْ جَعَلَ يُحَارِبُهَا وَيَسْعَى فِي إِبْطَالِهَا، وَلِهَذَا قَالَ عَنْهُ: {إِنَّهُ فَكَّرَ} أَيْ: فِي نَفْسِهِ {وَقَدَّرَ} مَا فَكَّرَ فِيهِ، لِيَقُولَ قَوْلًا يُبْطِلُ بِهِ الْقُرْآنَ.

{فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}؛ لِأَنَّهُ قَدَّرَ أَمْرًا لَيْسَ فِي طَوْرِهِ، وَتَسَوَّرَ عَلَى مَا لَا يَنَالُهُ هُوَ وَلَا أَمْثَالُهُ، {ثُمَّ نَظَرَ} مَا يَقُولُ، {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} فِي وَجْهِهِ، وَظَاهِرِهِ نَفْرَةً عَنِ الْحَقِّ وَبُغْضًا لَهُ، {ثُمَّ أَدْبَرَ} أَيْ: تَوَلَّى وَاسْتَكْبَرَ نَتِيجَةَ سَعْيِهِ الْفِكْرِيِّ وَالْعَمَلِيِّ وَالْقَوْلِيِّ فقَالَ:

{إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ أَيْ: مَا هَذَا كَلَامُ اللَّهِ، بَلْ كَلَامُ الْبَشَرِ، وَلَيْسَ أَيْضًا كَلَامَ الْبَشَرِ الْأَخْيَارِ، بَلْ كَلَامُ الْأَشْرَارِ مِنْهُمْ وَالْفُجَّارِ، مِنْ كُلِّ كَاذِبٍ سَحَّارٍ.

فَتَبًّا لَهُ، مَا أَبْعَدَهُ مِنَ الصَّوَابِ، وَأَحَرَّاهُ بِالْخَسَارَةِ وَالتَّبَابِ!!

كَيْفَ يَدُورُ فِي الْأَذْهَانِ، أَوْ يَتَصَوَّرُهُ ضَمِيرُ أَيِّ إِنْسَانٍ، أَنْ يَكُونَ أَعْلَى الْكَلَامِ وَأَعْظَمَهُ، كَلَامُ الرَّبِّ الْعَظِيمِ، الْمَاجِدُ الْكَرِيمُ، يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ الْفُقَرَاءِ النَّاقِصِينَ؟! أَمْ كَيْفَ يَتَجَرَّأُ هَذَا الْكَاذِبُ الْعَنِيدُ، عَلَى وَصْفِهِ بِهَذَا الْوَصْفِ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. فَمَا حَقُّهُ إِلَّا الْعَذَابُ الشَّدِيدُ وَالنَّكَالُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:

{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} أَيْ: لَا تُبْقِي مِنَ الشِّدَّةِ، وَلَا عَلَى الْمُعَذَّبِ شَيْئًا إِلَّا وَبَلَغَتُهُ.

{لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} أَيْ: تَلُوحُهُمْ وَتُصْلِيهِمْ فِي عَذَابِهَا، وَتُقْلِقُهُمْ بِشِدَّةِ حَرِّهَا وَقَرِّهَا.

{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ}، خَزَنَةٌ لَهَا، غِلَاظٌ شِدَادٌ، لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.

{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً} وَذَلِكَ

– الشيخ : إلى آخره، طويل، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله