الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة القيامة/(1) من قوله تعالى {لا أقسم بيوم القيامة} الآية 1 إلى قوله تعالى {إلى ربها ناظرة} الآية 23
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(1) من قوله تعالى {لا أقسم بيوم القيامة} الآية 1 إلى قوله تعالى {إلى ربها ناظرة} الآية 23

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة القيامة

الدَّرس: الأوَّل

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:1-23]

– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله.

هذه سورةُ القيامةِ، وهي مكِّيَّةٌ، افتُتِحَت بالقسمِ {لَا أُقْسِمُ} و "لا" لها نظائرُ في القرآنِ تقدَّمَتْ {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} [الحاقة:38-39]، {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75]، يقولُ المفسِّرون: {لَا} هذه، بعضُهم يقولُ: زائدةٌ لتأكيدِ الكلامِ، وبعضُهم يقولُ: إنَّها {لَا} ردٌّ لما يقولُ الكفَّارُ، {لَا} أي: ليسَ الأمرُ كما تقولونَ أو تظنُّون {أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فليسَتْ نفيًا للقسمِ، ليسَتْ نفيًا للقسمِ، لا، {لَا}، {أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} ولهذا نقولُ: اللهُ أقسمَ بيومِ القيامةِ، واللهُ تعالى يقسمُ بما شاءَ من خلقِه، وإذا أقسمَ بشيءٍ فللدلالةِ على عظمِ شأنه وما فيه من المعاني العظيمةِ والدَّلالاتِ، ويوم القيامةِ هو يومٌ عظيمٌ يجمعُ اللهُ فيه الأوَّلين والآخرين ويحشرُهم ويجمعُهم ويحاسبُهم ويجزيهم {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} سُمِّيَ ذلك اليومُ بالقيامةِ؛ لأنَّ النَّاسَ يقومون فيه لربِّ العالمين، يقومونَ فيه من قبورِهم ويقومون فيه لربِّ العالمين.

{وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} وهذا قسم ثانٍ يقسمُ اللهُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، والنُّفوسُ ثلاثٌ: النَّفسُ الأمَّارةُ بالسُّوء، الأمَّارة بالسُّوء، والنَّفس المطمئنَّة، والنَّفس اللَّوَّامة، والنَّفس اللَّوَّامة قالَ المفسِّرون: الَّتي لا تستقرُّ على شيءٍ وتلومُ الإنسانَ أو تلومُ صاحبَها على ما فعلَ من خيرٍ أو شرٍّ، ففي يومِ القيامةِ يلومُ المسيءُ نفسَه على ما أساءَ، ويلومُ المحسنُ نفسَ المحسنِ يلومُ نفسَه على تقصيرٍ أنَّه لم يزددْ إحسانًا، {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}.

{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} هذا استفهامُ إنكارٍ على الكافرِ الَّذي ينكرُ البعثَ {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ}؟ أيظنُّ هذا الإنسانُ الكافرُ الجاحدُ أنَّنا لا نجمعُ عظامَه إذا تفرَّقَتْ في التُّرابِ {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} اللهُ قادرٌ على أنْ يجمعَ عظامَ الأمواتِ ويعيدُهم أحياءً، ويسوِّي أعضاءَهم {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}.

ثمَّ قالَ تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} سؤالُ استبعادٍ، "متى متى يومُ القيامةِ؟" وهذا كثيرٌ في القرآنِ {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}.

{فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} وذلكَ في يوم الأهوالِ يوم القيامةِ يكونُ ما يكونُ ويجدُ العاملون أعمالَهم، {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ} أي: لا مفرَّ ولا ملجأَ من ذلك الكربِ العظيمِ والهولِ العظيمِ {كَلَّا لَا وَزَرَ}.

{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} ينتهي أمرُ العبادِ إلى اللهِ فيجزيهم على أعمالِهم إنْ خيرًا فخيرٌ وإنْ شرًّا فشرٌّ، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}

{يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} يُنَبَّأُ النَّاسُ بأعمالِهم وما قدَّمُوا وما أخَّرُوا وما أخذُوا وما أعطَوا وما قالُوا وما فعلُوا، واللهُ محيطٌ بأعمالِ العبادِ فينبِّئُهم بها يومَ القيامةِ ويجزيهم عليها.

قالَ اللهُ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} جاءَ في التَّفسيرِ عن ابنِ عبَّاسٍ -رضيَ اللهُ عنهما- أنَّ الرَّسولَ كانَ من حرصِه على حفظِ الوحي يلقي عليه جبريلُ الوحيَ فيحرِّكُ لسانَه، يتابعُ ليحفظَ فقالَ اللهُ له: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} جمعُه في صدرِك وتلاوتُه عليك حتَّى تتلوَه بعدَ ذلكَ {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} والقارئُ هو جبريلُ، يعني: إذا قرأَه جبريلُ {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فيجمعُه في صدرِه ويجريه على لسانِه كما سمعَه، وفي الآيةِ الأخرى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:

تفسيرُ سورةِ القيامةِ، وهيَ مكِّيَّةٌ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} الآياتِ:

ليسَتْ {لا} هاهنا نافيةً

– الشيخ : ليسَتْ نافيةً، ما هي بنفي القسمِ، {لَا أُقْسِمُ}، لا

– القارئ : ولا زائدةً

الشيخ : "ولا زائدةً" لأنَّ كلمةَ "زائدة" لا تصلحُ.

– القارئ : وإنَّما أُتِيَ بها للاستفتاحِ والاهتمامِ بما بعدَها

– الشيخ : يعني: للتَّأكيد، بعضُهم يقولُ: للتَّأكيدِ، لتأكيدِ الكلامِ، وافتتاحِ الكلامِ، {لَا}.

– القارئ : ولكثرةِ الإتيانِ بها معَ اليمينِ لا يُستغرَبُ الاستفتاحُ بها، وإنْ لم تكنْ في الأصلِ موضوعةً للاستفتاحِ.

فالمُقْسَمُ بهِ في هذا الموضعِ هوَ المُقْسَمُ عليهِ

– الشيخ : يعني: المقْسَمُ بهِ يومُ القيامةِ هو المقْسَمُ عليهِ، فكأنَّ المعنى: أقسمُ بيومِ القيامةِ إنَّها قائمةٌ، إنَّها متحقِّقةٌ وواقعةٌ، فالمقْسَمُ بهِ هو المقْسَمُ عليهِ.

– القارئ : وهوَ البعثُ بعدَ الموتِ، وقيامُ النَّاسِ مِن قبورِهم، ثمَّ وقوفُهم ينتظرونَ ما يحكمُ بهِ الرَّبُّ عليهم.

{وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} وهيَ جميعُ النُّفوسِ الخيِّرةِ والفاجرةِ، سُمِّيَتْ لوَّامةً لكثرةِ تلوُّمِها وتردُّدِها وعدمِ ثبوتِها على حالةٍ مِن أحوالِها، ولأنَّها عندَ الموتِ تلومُ صاحبَها على ما عملَتْ، بل نفسُ المؤمِنِ تلومُ صاحبَها في الدُّنيا على ما حصلَ منهُ، مِن تفريطٍ أو تقصيرٍ في حقٍّ مِن الحقوقِ، أو غفلةٍ، فجمعَ بينَ الإقسامِ بالجزاءِ، وعلى الجزاءِ، وبينَ مستحقِّ الجزاءِ.

ثمَّ أخبرَ معَ هذا أنَّ بعضَ المعاندينَ يكذِّبونَ بيومِ القيامةِ، فقالَ: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أن لَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} بعدَ الموتِ، كما قالَ في الآيةِ الأخرى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]؟ فاستبعدَ مِن جهلِهِ وعدوانِهِ قدرةَ اللهِ على خلقِ عظامِهِ الَّتي هيَ عمادُ البدنِ، فردَّ عليهِ بقولِهِ: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} أي: أطرافَ أصابعِهِ وعظامِهِ، وذلكَ مستلزمٌ ذلكَ لخلقِ جميعِ أجزاءِ البدنِ، لأنَّها إذا وُجِدَتِ الأناملُ والبنانُ، فقد تمَّتْ خلقةُ الجسدِ، وليسَ إنكارُهُ لقدرةِ اللهِ تعالى قصورًا بالدَّليلِ الدَّالِّ على ذلكَ، وإنَّما وقعَ ذلكَ منهُ أنَّ إرادتَهُ وقصدَهُ التَّكذيبُ بما أمامَهُ مِن البعثِ. والفجورِ: الكذبُ معَ التَّعمُّدِ.

ثمَّ ذكرَ أحوالَ القيامةِ فقالَ: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ…} الآياتِ:

أي: إذا كانَتِ القيامةُ برقَتِ الأبصارُ مِن الهولِ العظيمِ، وشخصَتْ فلا تطرفُ كما قالَ تعالى: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:42-43]

{وَخَسَفَ الْقَمَرُ} أي: ذهبَ نورُهُ وسلطانُهُ، {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} وهما لم يجتمعَا منذُ خلقَهما اللهُ تعالى، فيجمعُ اللهُ بينَهما يومَ القيامةِ، ويخسفُ القمرَ، وتُكوَّرُ الشَّمسُ، ثمَّ يُقذفانِ في النَّارِ، ليرى العبادُ أنَّهما عبدانِ مسخَّرانِ، وليرى مَن عبدَهما أنَّهم كانُوا كاذبينَ.

{يَقُولُ الإنْسَانُ} حينَ يرى تلكَ القلاقلَ المزعجاتِ: {أَيْنَ الْمَفَرُّ} أي: أينَ الخلاصُ والفكاكُ ممَّا طرقَنا وألمَّ بنا.

{كَلا لا وَزَرَ} أي: لا ملجأَ لأحدٍ دونَ اللهِ، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} لسائرِ العبادِ فليسَ في إمكانِ أحدٍ أنْ يستترَ أو يهربَ عن ذلكَ الموضعِ، بل لا بدَّ مِن إيقافِهِ ليُجزَى بعملِهِ، ولهذا قالَ: {يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} أي: بجميعِ عملِهِ الحسنِ والسَّيِّئِ، في أوَّلِ وقتِهِ وآخرِهِ، ويُنبَّأُ بخبرٍ لا ينكرُهُ.

{بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} أي: شاهدٌ ومحاسَبٌ، {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فإنَّها معاذيرُ لا تُقبَلُ، بل يقرِّرُ بعملِهِ، فيقرُّ بهِ، كما قالَ تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]

فالعبدُ وإنْ أنكرَ، أو اعتذرَ عمَّا عملَهُ، فإنكارُهُ واعتذارُهُ لا يفيدانِهِ شيئًا، لأنَّهُ يشهدُ عليهِ سمعُهُ وبصرُهُ، وجميعُ جوارحِهِ بما كانَ يعملُ، ولأنَّ استعتابَهُ قد ذهبَ وقتُهُ وزالَ نفعُهُ: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم:57]

قالَ اللهُ تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} الآياتِ:

كانَ النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا جاءَهُ جبريلُ بالوحيِ، وشرعَ في تلاوتِهِ عليهِ، بادرَهُ النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِن الحرصِ قبلَ أنْ يفرغَ، وتلاهُ معَ تلاوةِ جبريلَ إيَّاهُ، فنهاهُ اللهُ عن هذا، وقالَ: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114]

وقالَ هنا: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} ثمَّ ضمَّنَ لهُ تعالى أنَّهُ لا بدَّ أنْ يحفظَهُ ويقرأَهُ، ويجمعَهُ اللهُ في صدرِهِ، فقالَ: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} فالحرصُ الَّذي في خاطرِكَ، إنَّما الدَّاعي لهُ حذرُ الفواتِ والنِّسيانُ، فإذا ضمَّنَهُ اللهُ لكَ فلا موجبَ لذلكَ.

{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي: إذا أكملَ جبريلُ ما يُوحَى إليكَ، فحينئذٍ اتَّبعَ ما قرأَهُ وأقرأَهُ.

{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي: بيانَ معانيهِ، فوعدَهُ بحفظِ لفظِهِ وحفظِ معانيِهِ، وهذا أعلى ما يكونُ، فامتثلَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأدبِ ربِّهِ، فكانَ إذا تلا عليهِ جبريلُ القرآنَ بعدَ هذا، أنصتَ لهُ، فإذا فرغَ قرأَهُ.

وفي هذهِ الآيةِ أدبٌ لأخذِ العلمِ، ألَّا يبادرَ المتعلِّمُ للعلمِ قبلَ أنْ يفرغَ المعلِّمُ مِن المسألةِ الَّتي شرعَ فيها، فإذا فرغَ منها سألَهُ عمَّا أشكلَ عليهِ، وكذلكَ إذا كانَ في أوَّلِ الكلامِ ما يوجبُ الرَّدَّ أو الاستحسانَ، ألَّا يبادرَ بردِّهِ أو قبولِهِ، قبلَ الفراغِ مِن ذلكَ الكلامِ، ليتبيَّنَ ما فيهِ مِن حقٍّ أو باطلٍ، وليفهمَهُ فهمًا يتمكَّنُ بهِ مِن الكلامِ فيهِ، وفيها: أنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما بيَّنَ للأمَّةِ ألفاظَ الوحيِ، فإنَّهُ قد بيَّنَ لهم معانيَهُ.

{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}