الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الإنسان/(1) من قوله تعالى {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} الآية 1 إلى قوله تعالى {ودانية عليهم ظلالها} الآية 14
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(1) من قوله تعالى {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} الآية 1 إلى قوله تعالى {ودانية عليهم ظلالها} الآية 14

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الإنسان

الدَّرس: الأوَّل

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا [الإنسان:1-14]

– الشيخ : إلى هنا، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّمْ، الحمدُ للهِ، هذهِ سورةُ الإنسانِ وهيَ مكِّيَّةٌ، افتُتِحَتْ بالإخبارِ عن الإنسانِ وبدايةِ خلقِه {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} يعني: قالَ المفسِّرون: قد أتى على الإنسانِ وقتٌ وليس بشيءٍ، ليسَ بشيءٍ مذكورٍ، آدمُ -عليهِ السَّلامُ- هو الإنسانُ الأوَّلُ وقبلَ أن يخلقَه اللهُ لم يكنْ شيئًا، قد أتى على الإنسانِ حينٌ من الزَّمان حينٌ من الدَّهر لم يكنْ شيئًا مذكورًا، ليسَ له وجودٌ وليسَ له ذِكرٌ حتَّى أوجدَه اللهُ وصارَ له شأنٌ، وأمرَ اللهُ الملائكةَ بالسُّجودِ لهُ {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}.

{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} هذا الإنسانُ هو جنسُ الذُّرِّيَّةِ الَّذي خلقَ اللهُ من نطفةٍ هم النَّسلُ من ذرِّيَّةِ آدم، أمَّا آدمُ فقد خُلِقَ من ترابٍ كما بيَّنَ اللهُ ذلكَ مُفصَّلًا في آياتٍ {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} يعني: خلقَه اللهُ للابتلاءِ مُقدِّراً ابتلاءَه في هذهِ الحياةِ {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} اللهُ تعالى خلقَ الإنسانَ وخلقَ كلَّ ما فيه من القوى والأعضاءِ والجوارحِ، من نطفةٍ…، خلقَه أطوارًا نطفةً فعلقةً فمضغةً فعظامًا {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، وجعلَ له سمعًا وبصرًا وعقلًا {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]

{فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} هديْناهُ الطَّريقَ، طريقَ الخيرِ أو طريقَ الشَّرِّ {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} بيَّنَ له الطَّريقَينِ، إنَّا {هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}.

ثمَّ ذكرَ اللهُ وعيدَ الكافرينَ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} أعوذُ باللهِ {سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} كما قالَ سبحانَه وتعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30-32]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:69-72]

ثمَّ تعالى ذكرَ جزاءَ المؤمنين الأبرارَ والمُقرَّبين {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} كانَ مزاجُها كافورًا يعني: من عينٍ اسمُها الكافورُ من عينِ الكافورِ، ولهذا قالَ تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} قالَ المفسِّرون: معنى هذا أنَّه يُمزَجُ للأبرارِ من الكافورِ ويشربُ المُقرَّبون منها صِرفاً يعني خالصةً {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}

متوفِّرةٌ عندهم وكثيرةٌ ويتصرَّفون فيها {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} ثمَّ ذكرَ من أعمالهم، من أعمالِ عبادِ اللهِ المُقرَّبين، من أعمالِهم: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا} فأثنى عليهم بالوفاءِ بالنَّذر وبالخوفِ من اليومِ العظيمِ يوم القيامة وبإطعامِ الطَّعام على حبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً معَ الإخلاصِ لوجهِ اللهِ {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} لا يريدونَ منهم أن يُكافِئُوهم بل يُطعمونهم للهِ لوجهِ اللهِ، إنَّما يريدون ثوابَ اللهِ، لا يريدونَ ممَّن يُطعموهم من المساكين، ولهذا نقولُ: إذا تصدَّقْتَ على المسكينِ لا تقلْ: ادعُ لي. فأنتَ تطلبُ منه مُجازاةً، لا، أعطِهِ لوجهِ اللهِ وخلاص، إنْ دعا لك فهذا إليهِ.

{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} يعني: لا مدحاً ولا دعاءً ولا مُكافأةً على شيءٍ {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} نخافُ من ذلك اليومِ العظيمِ الشَّديدِ، العظيمِ الأهوالِ.

قالَ اللهُ: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} اللهُ يُؤمِّنُهم {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89]، قالَ تعالى: {أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت:40]، فهؤلاءِ يأتونَ يومَ القيامةِ آمنين لا يخافونَ بأمنٍ وطُمأنينةٍ والنَّاسُ في هولٍ وفي فزعٍ عظيمٍ وقلقٍ شديدٍ.

{وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} لقَّاهم وكساهم حسناً وجمالاً في وجوهِهم، كما قالَ في السُّورة الَّتي قبلَها: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23]، {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} فهم في ذلك اليومِ العظيمِ الهائلِ الأهوال في سرورٍ وفي حسنٍ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38-39]

{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} جزَاهُم جنَّةً ونعيمًا وبساتينَ فيها أنواعُ الثِّمار والأشجار والسُّرور {جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} فذكرَ لباسَهم ومجالسَهم {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} لا يرونَ فيها شمساً يعني تُصيِّرُهم في حرٍّ شديدٍ ولا زمهريرٍ يعني لا حرٌّ يأتيهم يحصلُ لهم ولا بردٌ، فالزَّمهريرُ هو البردُ الشَّديدُ {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا}.

{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} قطوفُ الأشجارِ دانيةٌ عليهم يتناولون منها كيفما شاؤُوا بأيسرِ ما..، نسألُ اللهَ من فضلِه، نسألُ اللهَ من فضله، نسألُ اللهَ، شتَّانَ بينَ الحالين بينَ الَّذين أعدَّ لهم سلاسلَ وأغلالًا وسعيرًا وبينَ هؤلاءِ الَّذين أعدَّ اللهُ لهم أنواعَ النَّعيم والسَّعادة، نسألُ اللهَ أن يسلك بنا وبكم سبيلَ السُّعداءِ، اللهُ يسعدُنا وإيَّاكم.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:

تفسيرُ سورةِ الإنسانِ وهيَ مكِّيَّةٌ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ} الآياتِ:

ذكرَ اللهُ في هذهِ السُّورةِ أوَّلَ حالةِ الإنسانِ ومنتهاها ومتوسِّطَها

فذكرَ أنَّهُ مرَّ عليهِ دهرٌ طويلٌ وهوَ الَّذي قبلَ وجودِهِ، وهوَ معدومٌ بل ليسَ مذكورًا.

ثمَّ لمَّا أرادَ اللهُ تعالى خلقَهُ، خلقَ أباهُ آدمَ مِن طينٍ، ثمَّ جعلَ نسلَهُ مُتسلسلًا {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} أي: ماءٍ مهينٍ مُستقذَرٍ {نَبْتَلِيهِ} بذلكَ لنعلمَ هل يرى حالَهُ الأولى ويتفطَّنَ لها أم ينساها وتغرُّهُ نفسُهُ؟

فأنشأَهُ اللهُ، وخلقَ لهُ القوى الباطنةَ والظَّاهرةَ، كالسَّمعِ والبصرِ، وسائرِ الأعضاءِ، فأتمَّها لهُ وجعلَها سالمةً يتمكَّنُ بها مِن تحصيلِ مقاصدِهِ.

ثمَّ أرسلَ إليهِ الرُّسلَ، وأنزلَ عليهِ الكتبَ، وهداهُ الطَّريقَ الموصِلةَ إليهِ وبيَّنَها ورغَّبَهُ فيها، وأخبرَهُ بما لهُ عندَ الوصولِ إلى اللهِ.

ثمَّ أخبرَهُ بالطَّريقِ الموصِلةِ إلى الهلاكِ، ورهَّبَهُ منها، وأخبرَهُ بما لهُ إذا سلكَها، وابتلاهُ بذلكَ، فانقسمَ النَّاسُ إلى شاكرٍ لنعمةِ اللهِ عليهِ، قائمٌ بما حمَلَهُ اللهُ مِن حقوقِهِ

– الشيخ : حمَّلَهُ

– القارئ : بما حمَّلَهُ اللهُ مِن حقوقِهِ، وإلى كفورٍ لنعمةِ اللهِ عليهِ، أنعمَ اللهُ عليهِ بالنِّعمِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ، فردَّها، وكفرَ بربِّهِ، وسلكَ الطَّريقَ الموصِلةَ إلى الهلاكِ.

ثمَّ ذكرَ تعالى حالَ الفريقَينِ عندَ الجزاءِ فقالَ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} الآياتِ:

إلى آخرِ الثَّوابِ أي: إنَّا هيَّأْنا وأرصدْنا لِمَن كفرَ باللهِ، وكذَّبَ رسلَهُ، وتجرَّأَ على المعاصي {سَلاسِلَ} في نارِ جهنَّمَ، كما قالَ تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32]

{وَأَغْلالًا} تُغَلُّ بها أيديهم إلى أعناقِهم ويُوثقونَ بها.

{وَسَعِيرًا} أي: نارًا تستعرُ بها أجسامُهم وتُحرَقُ بها أبدانُهم، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، وهذا العذابُ دائمٌ لهم أبدًا، مخلَّدونَ فيهِ سرمدًا.

وأمَّا {الأبْرَارِ} وهم الَّذينَ برَّتْ قلوبُهم بما فيها مِن معرفةِ اللهِ ومحبَّتِهِ، والأخلاقِ الجميلةِ، فبرَّتْ أعمالُهم، واستعملُوها بأعمالِ البرِّ أخبرَ أنَّهم {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} أي: شرابٍ لذيذٍ مِن خمرٍ قد مُزِجَ بكافورٍ أي: خُلِطَ بهِ ليبرِّدَهُ ويكسرَ حدَّتَهُ، وهذا الكافورُ في غايةِ اللَّذَّةِ قد سلمَ مِن كلِّ مُكدِّرٍ وُمنغِّصٍ، موجودٍ في كافورِ الدُّنيا، فإنَّ الآفةَ الموجودةَ في الأسماءِ الَّتي ذكرَها اللهُ في الجنَّةِ وهيَ في الدُّنيا تعدمُ في الآخرةِ.

كما قالَ تعالى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:28-29]

{وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [آل عمران:15]

– الشيخ : يعني المؤذياتُ في شرابِ وأشجارِ الدُّنيا تُزالُ يومَ القيامةِ، فالأشجارُ تكونُ مخضودةً لا شوكَ فيها وإن كانَتْ في الدُّنيا فيها شوكٌ فإنَّها في الآخرةِ لا يكونُ فيها {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:28-29] وكذلكَ شرابُ الآخرةِ مُطهَّرٌ من عيوبِ شرابِ الدُّنيا {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا…} [الصافات:47]، لا يصيبُهم {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} [الواقعة:19]، بل هي نقيَّةٌ خالصةٌ ولذَّةٌ كما قالَ تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15]، لذَّةٌ لا تنغيصَ فيها ولا شوبَ فيها من عيوبِ خمرِ الدُّنيا.

 

– القارئ : {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام:127]، {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ} [الزخرف:71]

{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} أي: ذلكَ الكأسُ اللَّذيذُ الَّذي يشربونَهُ، لا يخافونَ نفادَهُ، بل لهُ مادَّةٌ لا تنقطعُ، وهيَ عينٌ دائمةُ الفيضانِ والجريانِ، يفجِّرُها عبادُ اللهِ تفجيرًا، أنَّى شاؤُوا، وكيفَ أرادُوا، فإنْ شاؤُوا صرفُوها إلى البساتينِ الزَّاهراتِ، أو إلى الرِّياضِ النَّضراتِ، أو بينَ جوانبِ القصورِ والمساكنِ المزخرفاتِ، أو إلى أيِّ جهةٍ يرونَها مِن الجهاتِ المونِقاتِ.

ثمَّ ذكرَ جملةً مِن أعمالِهم فقالَ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} أي: بما ألزمُوا بهِ أنفسَهم للهِ مِن النُّذورِ والمعاهداتِ، وإذا كانُوا يوفونَ بالنَّذرِ، الَّذي هوَ غيرُ واجبٍ بالأصلِ عليهم، إلَّا بإيجابِهم على أنفسِهم، كانَ فعلُهم وقيامُهم بالفروضِ الأصليَّةِ، مِن بابِ أولى وأحرى، {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} أي: منتشرًا فاشيًا

– طالب: عندي "قاسيًا"

– الشيخ : قريب

 – القارئ : فخافُوا أنْ ينالَهم شرُّهُ، فتركُوا كلَّ سببٍ موجِبٍ لذلكَ، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} أي: وهم في حالٍ يحبُّونَ فيها المالَ والطَّعامَ، لكنَّهم قدَّمُوا محبَّةَ اللهِ على محبَّةِ نفوسِهم، ويتحرَّونَ في إطعامِهم أولى النَّاسِ وأحوجِهم {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}.

ويقصدونَ بإنفاقِهم وإطعامِهم وجهَ اللهِ تعالى، ويقولونَ بلسانِ الحالِ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا}

– الشيخ : بلسانِ الحالِ يعني: هذا ظاهرُهم، لا يقولون للمسكينِ: لا نريدُ منكم جزاءً ولا شكورًا، إنَّما هذا لسانُ حالِهم؛ لأنَّهم لا يتطلَّعونَ إلى الجزاءِ والشُّكرانِ من المسكينِ ممَّن أعطوه وأطعمُوه.

 

القارئ : أي: لا جزاءً ماليًّا ولا ثناءً قوليًّا.

{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا} أي: شديدَ الجهمةِ والشَّرِّ {قَمْطَرِيرًا} أي: ضنكًا ضيِّقًا، {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} فلا يحزنُهم الفزعُ الأكبرُ، وتتلقَّاهم الملائكةُ هذا يومُكم الَّذي كنْتُم تُوعَدونَ.

{وَلَقَّاهُمْ} أي: أكرمَهم وأعطاهم {نَضْرَةً} في وجوهِهم {وَسُرُورًا} في قلوبِهم، فجمعَ لهم بينَ النَّعيمِ الظَّاهرِ والباطنِ {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} على طاعةِ اللهِ، فعملُوا ما أمكنَهم منها، وعن معاصي اللهِ، فتركُوها، وعلى أقدارِهِ المؤلمةِ، فلم يتسخطُوها، {جَنَّةً} جامعةً لكلِّ نعيمٍ، سالمةً مِن كلِّ مكدِّرٍ ومنغِّصٍ، {وَحَرِيرًا} كما قالَ تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} ولعلَّ اللهَ إنَّما خصَّ الحريرَ، لأنَّهُ لباسُهم الظَّاهرُ، الدَّالُّ على حالِ صاحبِهِ.

{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ} الاتِّكاءُ: التَّمكُّنُ مِن الجلوسِ، في حالِ الرَّفاهيةِ والطُّمأنينةِ والرَّاحةِ، والأرائكُ هيَ السُّررُ الَّتي عليها اللِّباسُ المزيَّنُ، {لا يَرَوْنَ فِيهَا} أي: في الجنَّةِ {شَمْسًا} يضرُّهم حرُّها {وَلا زَمْهَرِيرًا} أي: بردًا شديدًا، بل جميعُ أوقاتِهم في ظلٍّ ظليلٍ، لا حرٍّ ولا بردٍ، بحيثُ تلتذُّ بهِ الأجسادُ، ولا تتألَّمُ مِن حرٍّ ولا بردٍ.

{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا} أي: قربَتْ ثمراتُها

– الشيخ : قربَتْ أو قُرِّبَتْ

– القارئ : قرُبَتْ مِن مريدِها تقريبًا ينالُها، وهوَ قائمٌ، أو قاعدٌ، أو مضطجعٌ.

انتهى.

– الشيخ : رحمَه الله .