بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة النبأ
الدَّرس: الثَّاني
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيمِ
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [المزمل:21-40]
– الشيخ : لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.
يُخبرُ تعالى عمَّا أعدَّ للطَّاغين المجرمين الـمُكذِّبين والكافرين مِن العذابِ الأليم: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا} يعني مُرصدةٌ لهم مُعَدَّةٌ لهم كما قال تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] وجهنُّمُ اسمٌ مِن أسماءِ النار، كما أنَّ مِن أسمائها: السعيرُ والجحيمُ، أعوذ بالله، نعوذ بالله من النار، {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا} مَرجعًا لهم، الطَّاغي: هو الـمُتجاوزُ لحدِّه، والكفارُ طغَوا وبغَوا وتعدَّوا حدودَ الله، فجهنَّمُ هي مرجعُهم ومصيرُهم وبئسُ المصير، نعوذُ بالله مِن النار، نسأل الله العافية.
{لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} مُقيمين فيها {أَحْقَابًا} والأحقاب: جمعُ حُقُبٌ، والحُقُب: زمنٌ طويلٌ مُتطاولٌ، ذكرَ بعضُ أهل اللّغة والتفسير أنه ثمانونَ سنة، والمقصودُ أنَّهم لَابِثُونَ فيها أزمانًا مُتطاولةً، نعوذُ بالله مِن النار، نسأل الله العافية {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} وبئسَ الشرابُ {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29] وهنا يقول: {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} الحميمُ: هو الماءُ الشديدُ الحرارة، والغَسَّاقُ: هو شديدُ البرودة، فهم يُعذَّبون بالحرِّ والبرد، بالنَّار وبالزَّمْهَرِير، نعوذ بالله، أو بعضُهم يُفسِّرُ الغسَّاق بأنَّه صديدُ أهلِ النار.
{جَزَاءً وِفَاقًا} يعني هذا جزاءٌ موافقٌ لحالِهم وأعمالِهم {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا} فهذا جزاءٌ موافقٌ لحال الـمُكذِّبين {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ} لأنَّهم لا يؤمنونَ بالحسابِ ولا بالبعثِ والنشورِ والجزاءِ {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} كذَّبُوا بالآياتِ وكذَّبوا بالمعاد {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا}.
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} فأعمالُهُم مُحْصَاةٌ عليهم ومكتوبةٌ {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا}.
{فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} فيُقالُ لهم توبيخًا لهم وتَيْئِيْسًا لهم، تَيْئِيْسٌ، {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} وهذا فيه تَيْئِيْسٌ لهم فلا يرجونَ تخفيفَ العذابِ عنهم، بل يَزدادون {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر:50،49]
ثم ذكرَ -سبحانه وتعالى- عاقبةَ المتقين على العكس، كما هي سُنَّةُ القرآن، أنه -تعالى- يذكرُ ويَقرنُ بين الوعد والوعيد فيَذكرُ عاقبةَ الكافرين الطاغين ويذكر عاقبةَ المؤمنين المتقين:
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} لهم فوزٌ عندَ الله؛ لأنهم يَنالونَ كلَّ خيرٍ وثوابٍ ومطلوبٍ، وينجونَ من كلِّ شرٍّ ومرهوبٍ، هذا هو الفوزُ، ولهذا قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] إي والله هذا الفوزُ العظيمُ، وسمَّاه اللهُ عظيمًا وكبيرًا ومُبينًا، {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} ثم فسَّرَ هذا المفاز: {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} حدائقُ فيها أنواعُ الأشجار وفيها الثِّمار، وخصَّ مِن بينها الأعناب؛ لأنَّها مِن أفضلِ أنواعِ الفواكهِ، العِنَب، ولهذا يقول الـمُفسِّرون: إنَّ الفردوسَ هو البستانُ الكثيرُ العِنَب.
{حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} زوجاتٌ شابَّاتٌ، {أترابًا} على سِنٍّ واحدةٍ. {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا} كأسٌ ملأىً من أنواع شرابِ الجنةِ مِن الرحيقِ والكافورِ والزنجبيلِ والسَّلسبيل {وَكَأْسًا دِهَاقًا}.
{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} لا يسمعونَ فيها كلامًا لا خيرَ فيهِ ولا فائدةَ فيهِ كما هو في الدنيا، كلامُ الناس في الدنيا فيهِ الإثمُ وفيه اللَّغْوُ الذي لا فائدةَ فيه، هنا قال: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} ولا يسمعونَ كَذِبًا، بلْ إنَّما يسمعونَ سلامًا سلامًا كما قال في الآية: {إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة:26] {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد:24،23]
{جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} هذا هو الجزاءُ الذي أعدَّهُ اللهُ للمتقين، هو عطاءٌ من الربِّ تعالى وهو فضلٌ وتكرُّمٌ، {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} كما في الآية الأخرى [هود:108].
{وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} الروحُ قيل: جبريلُ، وقيل: جِنسُ الأرواح: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} كما قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} {يَوْمَ يَأْتِ} يعني: يومُ القيامة {لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:105] ولا أحدَ يشفعُ مِن الملائكةِ ولا غيرِهم إلا بإذنهِ سبحانه وتعالى، حتى محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يشفع حتَّى يأتيَ ويسجدَ ويستأذن فيُقال له: (ارفعْ رأسَكَ، وقُلْ يُسمَعُ، وسَلْ تُعْطَ، واشفعْ تُشَفَّعْ)، {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}، {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} ذلكَ اليومُ الذي تجري فيهِ هذه الأحداثُ العظيمةُ هو يومُ الحَقّ واقعٌ لا مَحَالَة، هو الحقُّ الذي أخبرَ اللهُ به ووعدَ به {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} هذا هو الطريقُ واضحٌ، مثل: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل:19] فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلى ربِّهِ طريقًا ومرجعًا يُوصلُهُ إلى الله.
ثم يقول تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} يعني: اللهُ -تعالى- قد أعذرَ إلى العبادِ، قَطَعَ مَعذرتَهم، فلا عُذرَ لِمَنْ تنكَّبَ الصِّراط المستقيم، لا عذرَ لِمَنْ أعرضَ عن هدى الله {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا}، ويومُ القيامةُ قريبٌ {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:7،6] لأنه آتٍ، ويُقال في الحكمة: "كلُّ آتٍ قريبٌ"، لأنَّهُ يقتربُ حتى يأتيَ ويصل.
{إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} كلُّ امرئٍ ينظرُ ما قدَّم، ويجدُ ما قدَّم في كتابِهِ {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} يَتمنَّى لو صارَ ترابًا ليَنجوَ مِن العذابِ، يتمنَّى، جاءَ في التفسيرِ أنه عندما يُقالُ للبهائمِ: "كُوْنِي ترابًا" يتمنَّى أن يكونَ مثلَها ترابًا، {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} مِن العمل {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا}، {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42]
(تفسيـرُ السَّعدي)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمن السعدي رحمَه الله تعالى في تفسير قول الله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} الآيات:
{لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} أَيْ: لَا مَا يُبْرِدُ جُلُودَهُمْ، وَلَا مَا يَدْفَعُ ظَمَأَهُمْ.
{إِلا حَمِيمًا} أَيْ: مَاءً حَارًّا، يَشْوِي وُجُوهَهُمْ، وَيُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ،
– الشيخ : نعوذ بالله، كما جاء في الآيتين: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29] وفي الآيةِ الأخرى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15].
– القارئ : {وَغَسَّاقًا} وَهُوَ: صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ النَّتَنِ وَكَرَاهَةِ الْمَذَاقِ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقُّوا هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ الْفَظِيعَةَ {جَزَاءً} لَهُمْ {وِفَاقًا} عَلَى مَا عَمِلُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهَا، لَمْ يَظْلِمْهُمُ اللَّهُ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَلِهَذَا ذَكَرَ أَعْمَالَهُمُ، الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا هَذَا الْجَزَاءَ، فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} أَيْ: لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ، وَلَا أَنَّ اللَّهَ يُجَازِي الْخَلْقَ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلِذَلِكَ أَهْمَلُوا الْعَمَلَ لِلْآخِرَةِ.
{وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} أَيْ: كَذَّبُوا بِهَا تَكْذِيبًا وَاضِحًا صَرِيحًا وَجَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَانَدُوهَا.
{وَكُلَّ شَيْءٍ} مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَخَيْرٍ وَشَرٍّ {أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} أَيْ: أَثْبَتْنَاهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَلَا يَحْسَبُ الْمُجْرِمُونَ أَنَّا عَذَّبْنَاهُمْ بِذُنُوبٍ لَمْ يَعْمَلُوهَا، وَلَا يَحْسَبُوا أَنَّهُ يَضِيعُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ شَيْءٌ، أَوْ يُنْسَى مِنْهَا مِثْقَالُ ذَرَّةٍ
– الشيخ : {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]
– القارئ : كما قالَ تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]
{فَذُوقُوا} أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ هَذَا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ وَالْخِزْيَ الدَّائِمَ {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا} فَكُلُّ وَقْتٍ وَحِينٍ يَزْدَادُ عَذَابُهُمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَشَدُّ الْآيَاتِ فِي شِدَّةِ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْهَا.
– الشيخ : أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْهَا، نعوذ بالله
– القارئ : قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} الآيات.
لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُجْرِمِينَ ذَكَرَ مَآلَ الْمُتَّقِينَ فَقَالَ: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} أَيِ: الَّذِينَ اتَّقَوْا سُخْطَ رَبِّهِمْ، بِالتَّمَسُّكِ بِطَاعَتِهِ، وَالِانْكِفَافِ عَمَّا مَعْصِيَتِهِ فَلَهُمْ مَفَازٌ وَمَنْجًى، وَبُعْدٌ عَنِ النَّارِ. وَفِي ذَلِكَ الْمَفَازِ لَهُمْ {حَدَائِقَ} وَهِيَ الْبَسَاتِينُ الْجَامِعَةُ لِأَصْنَافِ الْأَشْجَارِ الزَّاهِيَةِ فِي الثِّمَارِ، {وَأَعْنَابًا} تَتَفَجَّرُ بَيْنَ خِلَالِهَا الْأَنْهَارُ، وَخَصَّ الْعِنَبَ؛ لِشَرَفِهَا وَكَثْرَتِهَا فِي تِلْكَ الْحَدَائِقِ.
وَلَهُمْ فِيهَا زَوْجَاتٌ عَلَى مَطَالِبِ النُّفُوسِ {وكَوَاعِبَ} وَهِيَ: النَّوَاهِدُ اللَّاتِي لَمْ تَتَكَسَّرْ ثَدْيُهُنَّ مِنْ شَبَابِهِنَّ، وَقُوَّتِهِنَّ وَنَضَارَتِهِنَّ، {أَتْرَابًا} وَالْأَتْرَابُ اللَّاتِي عَلَى سَنٍّ وَاحِدٍ مُتَقَارِبٍ، وَمِنْ عَادَةِ الْأَتْرَابِ أَنْ يَكُنَّ مُتَآلِفَاتٍ مُتَعَاشِرَاتٍ، وَذَلِكَ السَّنُّ الَّذِي هُنَّ فِيهِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، أَعْدَلُ مَا يَكُونُ مِنِ الشَّبَابِ.
{وَكَأْسًا دِهَاقًا} أَيْ: مَمْلُوءَةٌ مِنْ رَحِيقٍ، لَذَّةً لِلشَّارِبِينَ، {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} أَيْ: كَلَامًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلا كِذَّابًا أَيْ: إِثْمًا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة:26،25]
وَإِنَّمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ هَذَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ.
{جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} أَيْ: بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمِ الَّتِي وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لَهَا، وَجَعَلَهَا سَبَبًا لِلْوُصُولِ إِلَى كَرَامَتِهِ.
قال الله تعالى: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} الآيات.
أَيِ: الَّذِي أَعْطَاهُمْ هَذِهِ الْعَطَايَا هُوَ رَبُّهُمْ {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} الَّذِي خَلَقَهَا وَدَبَّرَهَا {الرَّحْمَنِ} الَّذِي رَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَرَبَّاهُمْ وَرَحِمَهُمْ، وَلَطَفَ بِهِمْ، حَتَّى أَدْرَكُوا مَا أَدْرَكُوا.
ثُمَّ ذَكَرَ عَظَمَتَهُ وَمُلْكَهُ الْعَظِيمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ كُلَّهُمْ سَاكِتُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَا يَتَكَلَّمُونَ و{لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} هذه الآية لَاحِقَةٌ للتي تَلِيْهَا.
– طالب: العبارة هذه عندي ساقطة، ما هي بموجودة
– الشيخ : أيش يصير الكلام عندك؟
– طالب: عندي: ثُمَّ ذَكَرَ عَظَمَتَهُ وَمُلْكَهُ الْعَظِيمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ كُلَّهُمْ سَاكِتُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ ساكتونَ لَا يَتَكَلَّمُونَ وَ{لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}، فَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِهَذَيْنَ الشَّرْطَيْنِ:
– الشيخ : صحيح، الجملة ذي ما لها معنًى ظاهر، الجملةُ ذي ما هي، صحيح أنَّ الآية التي بعدَها استثناءٌ منها {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} نعم اقرأ يا محمد
– القارئ : {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}، فَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِهَذَيْنَ الشَّرْطَيْنِ: أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِي الْكَلَامِ، وَأَنْ يَكُونَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ صَوَابًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَرُوجُ فِيهِ الْبَاطِلُ، وَلَا يَنْفَعُ فِيهِ الْكَذِبُ، وَفِي ذَلِكَ {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْمَلَائِكَةِ {وَالْمَلائِكَةُ} أَيْضًا يَقُومُ الْجَمِيعُ {صَفًّا} خَاضِعِينَ لِلَّهِ {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
فِلَمَّا رَغَّبَ وَرَهَّبَ، وَبَشَّرَ وَأَنْذَرَ، قَالَ: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} أَيْ: عَمَلًا وَقَدَمَ صِدْقٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
{إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} لِأَنَّهُ قَدْ أَزِفَ مُقْبِلًا وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ فَهُوَ قَرِيبٌ.
{يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أَيْ: هَذَا الَّذِي يَهُمُّهُ وَيَفْزَعُ إِلَيْهِ، فَلْيَنْظُرْ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَا قَدَّمَ لِدَارِ الْقَرَارِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} الْآيَاتِ [الحشر:18]
– الشيخ : الله المستعان، ما أعظمَ وأكثرَ الغفلةَ عن ذلكَ اليومِ العظيمِ! سبحان الله! ليسَ العجبُ من الكفار الذين لا يؤمنونَ به، العجب ممَّن يؤمنُ باليوم الآخر ومعَ ذلكَ يغفلُ عنه ويُعرِضُ عن الاستعدادِ له! ولهذا وجَّه الله تعالى خطابِهِ إلى المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} وسمَّى يوم القيامةِ "غَد"؛ لقربِهِ لأنه آتٍ لا محالة.
– القارئ : فَإِنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمِدِ اللَّهَ، وَإِنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومُنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْكُفَّارُ يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ شِدَّةِ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَمِ. {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنَا مِنَ الْكُفْرِ وَالشَّرِّ كُلِّهِ، إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ.
تَمَّ تَفْسِيرُ "النبأِ" ولله الحمد.
– الشيخ : رحمه الله وجزاه الله خيرًا .