بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة النازعات
الدَّرس: الأوَّل
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ من الشَّيطانِ الرجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات:1-46]
– الشيخ : لا إله إلا الله.
الحمد لله، هذه سورة النَّازعات وهي مكيَّة، افتُتحت بأقسامٍ كالــمُرسلات، يعني أقسامٌ: أيمان، وأقسام مِن الله يُقسِمُ بما شاء سبحانه وتعالى، وقد أقسمَ بعددٍ: النَّازعات، والنَّاشطات، والسَّابحات، والسَّابقات، والـمُدبّرات، النَّازِعَات والنَّاشِطَات والسَّابحات والسَّابِقَات والـمُدبّرات خمسة.
وهذه الأقسامُ الأولى مختلَفٌ فيها: منهمْ مَن يقول: {النازعاتُ} الملائكةُ تنزعُ أرواحَ الناسِ عند الموتِ يعني: يكون المرادُ مَلَكُ الموتِ وأعوانُه، وكذا قيل في النَّاشطات، والسَّابحات كذلك قيلَ الملائكة، وأمَّا المدبِّرات فهِيَ الملائكة قطعًا قولًا واحدًا، مثل: {الْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:4] في سورة الذَّاريات.
{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} يعني: اذْكُرْ {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} وتَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ إذا وقعَتِ الصَّيحةُ، فتحصلُ الصَّيحةُ وينشأُ عنها الرَّجفةُ، كما قالَ اللهُ في قومِ صالح: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [الحجر:83]، و{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف:78]، فالرجفةُ تحصلُ بعد الصَّعْقَةِ والصَّيْحَةِ.
{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} والرَّاجِفَة..، الصَّيْحةُ الأولى هِي النفخُ في الصور، والثانيةُ هي الرَّادِفة، ولهذا النفخُ في الصورِ مرتين: نفخةُ الصَّعْقِ، ونفخةُ البَعثِ، {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} كما قال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} [الزمر:68] {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} قلوب الكفار تكون فَزِعَةٌ وَاجِفَةٌ مُضطربَة، {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} هذا ينطبقٌ على الكفار {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ}، يقولُ سبحانه وتعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [المعارج:44،43] وقال هنا: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} فالقلوبُ راجفةٌ مُرتجفةٌ، والأبصارُ خاشعةٌ ذليلةٌ مُنكسرةٌ.
{يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ}؟ هذه حكايةُ قولِ الكفار، يقولونَ ويَستفهمونَ استفهامَ استبعادٍ واستنكارٍ: {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} يعني: إذا صِرنا {عِظَامًا نَخِرَةً} أيضًا نعود ونُرَدُّ إلى هذه الدنيا؟ وهذا كثيرٌ في القرآن يخبرُ اللهُ عن الكفار المكذبين بالبعث {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3] {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء:49]، {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:5]
قال الله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} فَإِذَا هُمْ على وجهِ الأرضِ وهذه نفخةُ البعثِ، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} قد خرجوا مِن القبورِ وانتشرُوا على هذه الأرض، {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} يعني: إذا كان الأمرُ كما تقولُ أيُّها الرسولُ فإنَّ هذه العودةُ والحياةُ بعد هذا الموتِ {كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}، وهذا صحيحٌ إنَّهم لَخَاسرون.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ رحمَهُ اللهُ تعالى:
تَفْسِيرُ سُورَةِ النَّازِعَاتِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} الآيات:
هَذِهِ الْإِقْسَامَاتُ بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ، وَأَفْعَالِهِمِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ انْقِيَادِهِمْ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِسْرَاعِهِمْ فِي تَنْفِيذِهِ، يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَالْبَعْثُ، بِدَلِيلِ الْإِتْيَانِ بِأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ وَالْمُقْسَمَ بِهِ مُتَّحِدَانِ، وَأَنَّهُ أَقْسَمَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِمْ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ السِّتَّةِ، وَلِأَنَّ فِي ذِكْرِ أَفْعَالِهِمْ هُنَا مَا يَتَضَمَّنُ الْجَزَاءَ الَّذِي تَتَوَلَّاهُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، فَقَالَ: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّتِي تَنْزِعُ الْأَرْوَاحَ بِقُوَّةٍ، وَتُغْرِقُ فِي نَزْعِهَا حَتَّى تَخْرُجَ الرُّوحُ، فَتُجَازَى بِعَمَلِهَا.
{وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ -أَيْضًا- تَجْتَذِبُ الْأَرْوَاحَ بِقُوَّةٍ وَنَشَاطٍ، أَوْ أَنَّ النَّشْطَ يَكُونُ لِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالنَّزعَ لِأَرْوَاحِ الْكُفَّارِ.
{وَالسَّابِحَاتِ} أَيِ: الْمُتَرَدِّدَاتِ فِي الْهَوَاءِ صُعُودًا وَنُزُولًا {سَبْحًا}.
{فَالسَّابِقَاتِ} لِغَيْرِهَا {سَبْقًا} فَتُبَادِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَتَسْبِقُ الشَّيَاطِينَ فِي إِيصَالِ الْوَحْيِ إِلَى رُسُلِ اللَّهِ لِئَلَّا تَسْتَرِقَهُ.
{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللَّهُ يُدَبِّرُونَ كَثِيرًا مِنْ أُمُورِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، مِنَ الْأَمْطَارِ، وَالنَّبَاتِ، وَالرِّيَاحِ، وَالْبِحَارِ، وَالْأَجِنَّةِ، وَالْحَيَوَانَاتِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} وَهِيَ قِيَامُ السَّاعَةِ {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} أَيِ: الرَّجْفَةُ الْأُخْرَى الَّتِي تُرْدِفُهَا وَتَأْتِي تِلْوَهَا، {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} أَيْ: مُنْزَعِجَةٌ وَمُنْزَعِجَةٌ مِنْ شِدَّةٍ مَا تَرَى وَتَسْمَعُ.
{أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} أَيْ: ذَلِيلَةٌ حَقِيرَةٌ، قَدْ مَلَكَ قُلُوبَهُمُ الْخَوْفُ، وَأَذْهَلَ أَفْئِدَتَهُمُ الْفَزَعُ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمِ التَّأَسُّفُ وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِمُ الْحَسْرَةُ.
{يَقُولُونَ} أَيِ: الْكُفَّارُ فِي الدُّنْيَا، عَلَى وَجْهِ التَّكْذِيبِ: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} أَيْ: بَالِيَةً فُتَاتًا.
{قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} أَيِ: اسْتَبْعَدُوا أَنْ يَبْعَثَهُمُ اللَّهُ وَيُعِيدَهُمْ بَعْدَمَا كَانُوا عِظَامًا نَخِرَةً، جَهْلًا مِنْهُمْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، وَتَجَرُّؤًا عَلَيْهِ.
قَالَ اللَّهُ فِي بَيَانِ سُهُولَةِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَيْهِ: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} يَنْفُخُ فِي الصُّورِ.
{فَإِذَا الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ {هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} أَيْ: عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، فَيَجْمَعُهُمُ اللَّهُ وَيَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ وَيُجَازِيهِمْ.
{هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى}
– الشيخ : أحسنتَ .