file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

سورة الانفطار

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك

سورة " الانفطار "

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ من الشَّيطانِ الرجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:1-19]

– الشيخ : لا إله إلا الله

هذه سورة الانفطار، اسمُها مِن فاتحتِها: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَت} وهي مكيَّةٌ، وهي شبيهةٌ بسورةِ التكويرِ في مضمونِها: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:1-3] إلى قوله: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير:11] وهنا قال: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَت (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} وهذا كلُّهُ يتضمَّنُ أن هذا العالَمَ يتغيَّرُ عن هيئتِهِ وحالتِهِ القائمةِ المشهودةِ، فالسماءُ تتغيَّرُ وتتبدَّلُ، والأرض كذلك، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم:48] والنجومُ تتغيَّرُ يذهبُ ضوؤُها وتَنْتَثِرُ تتكدَّرُ وتُطمَسُ، والبحارُ تُفجَّرُ، والله أعلم كيف ذلك كلُّهُ يكون.

{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} القبور تُثَارُ بعد أن كانَتْ منطبقةٌ على من فيها، تُثَارُ ويَخرجُ مَنْ فيها، {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} فتتشقَّقُ هذه القبور، تتشقق، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق:43،44] تتشققُ القبورُ وتُثَارُ فيَخرجُ مَنْ فيها ويَنْبتونَ منها، {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا..} [نوح:18،17] {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} [المعارج:43] الأجداثُ: هِي القبورُ.

قال الله {إِذَا.. وإِذَا.. وَإِذَا}، الجواب: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} هذا نظيرُ ما في سورة التكوير {إِذَا.. وإِذَا.. وَإِذَا} {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14] ففي ذلك اليومِ مع هذه الأحداثُ تَعلمُ كلُّ {نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}، ما قدَّمتْ مِن خيرٍ وعَمَلٍ وما أخرَّتْ.

ثم توجَّهَ الخطابُ إلى الإنسان، الإنسانُ الكافرُ والإنسانُ الـمُفرِّطُ {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} هذا إنكارٌ مِن اللهِ على الإنسانِ الكافرِ الجاحدِ للبعثِ والنُّشورِ والقيامةِ يُذَكِّرُهُ الله بخلقِهِ الأول {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}.

ثم قال تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} الدِّين: هو الجزاءُ، والتكذيبُ بالبعثِ يتضمَّنُ التكذيبَ بالجزاءِ، والتكذيبُ بالجزاءِ يستلزمُ التكذيبَ بالبعث، والبعثُ الغايةُ مِن البعثِ هو الجزاء {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية:22]، {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ}.

{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} هؤلاء الـموُكَّلُونَ بالعبدِ يحصونَ عليه أعماله ويكتبونها، مُوكَّلونَ به يحفظون عملَه، {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} فيكتبونَ أعمالَ العبد الظاهرةَ والباطنة، حتى إنَّ ما يكونُ في القلبِ من الإراداتِ والهمِّ تعلمُ به الملائكة، يُطلعُهُم اللهُ عليه ويكتبونَهُ كما جاء في الحديث: (إذا همَّ العبدُ بحسنةٍ فلمْ يعملْها كُتِبَتْ لَهُ حسنةً، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ له عشرُ حسناتٍ) والسيئةُ إنْ عملَها كُتبتْ عليهِ سيئةٌ وإن تركَها لله كُتبتْ له حسنةٌ، سبحان اللهَ! المقصود أنهم يكتبون أعمالَ القلوب، يعلمون ما يقعُ في قلب الإنسان مِن الإراداتِ إرادةُ الخيرِ أو إرادةُ الشرِّ.

ثم ذكر الله: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}.

ثم ذكرَ اللهُ مصيرَ الفريقين مِن الناس، فالناسُ فريقان: سعداءُ وأشقياءُ، أبرارٌ وفجارٌ، فالأبرارُ في نعيمٍ، الأبرارُ هم المؤمنونَ الصالحونَ المتقونَ، هُم في نعيمٍ، في نعيمٍ في الدنيا، وفي البَرزخِ، ويومَ القيامة، في دورهم الثلاث، وكمالُ هذا النعيم يَبْلُغُونَهُ في جناتِ النعيم، والفجارُ في جحيمٍ كذلك، في شقاءٍ دائم، نعوذُ بالله مِن الشِّقوة، {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ}، يصلونها يومَ القيامة، يومَ الجزاء.

قال الله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} أيُّ شيءٍ أعلمَكَ بيومِ الدين، {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}، ثمَّ فسَّره بقوله: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} في ذلك اليوم لا يَجزي أحدٌ عن أحدٍ ولا يُغني أحدٌ عن أحدٍ، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34-36] {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان:33] والأمرُ كلُّه للهِ سبحانه وتعالى، الأمرُ كلُّهُ لله فهو الذي يَحكمُ بين عبادِهِ بعدلِهِ، وهو الحَكَمُ العَدْلُ البَرُّ الرحيمُ ذُو الفضلِ العظيمِ سبحانه وتعالى، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] نعم يا محمد

– القارئ : أحسن الله إليك، نهايةُ سورةِ التكوير ما أكملناها أمس .

– الشيخ : تفضل

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسير قول الله تعالى:

{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} الآيات:

{ذِي قُوَّةٍ} عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ. وَمِنْ قُوَّتِهِ أَنَّهُ قَلَبَ دِيَارَ قَوْمِ لُوطٍ بِهِمْ فَأَهْلَكَهُمْ.

{عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} أَيْ: جِبْرِيلُ مُقَرَّبٌ عِنْدَ اللَّهِ، لَهُ مَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ، وَخِصِّيصَةٌ مِنَ اللَّهِ اخْتَصَّهُ بِهَا، {مَكِينٍ} أَيْ: لَهُ مَكَانَةٌ وَمَنْزِلَةٌ فَوْقَ مَنَازِلِ الْمَلَائِكَةِ كُلِّهِمْ.

{مُطَاعٍ ثَمَّ} أَيْ: جِبْرِيلُ مُطَاعٌ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ جُنُودٌ، نَافِذٌ فِيهِمْ أَمْرُهُ، مُطَاعٌ رَأْيُهُ، {أَمِينٍ} أَيْ: ذُو أَمَانَةٍ وَقِيَامٍ بِمَا أَمَرَ بِهِ، لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَلَا يَتَعَدَّى مَا حَدَّ لَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى شَرَفِ الْقُرْآنِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ بَعَثَ بِهِ هَذَا الْمَلَكَ الْكَرِيمَ الْمَوْصُوفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ. وَالْعَادَةُ أَنَّ الْمُلُوكَ لَا تُرْسِلُ الْكَرِيمَ عَلَيْهَا إِلَّا فِي أَهَمِّ الْمَهَمَّاتِ، وَأَشْرَفِ الرَّسَائِلِ.

وَلَمَّا ذَكَرَ فَضْلَ الرَّسُولَ الْمَلَكِيَّ الَّذِي جَاءَ بِالْقُرْآنِ، ذَكَرَ فَضْلَ الرَّسُولِ الْبِشْرِيِّ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَدَعَا إِلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ: {وَمَا صَاحِبُكُمْ} وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {بِمَجْنُونٍ} كَمَا يَقُولُهُ أَعْدَاؤُهُ الْمُكَذِّبُونَ بِرِسَالَتِهِ، الْمُتَقَوِّلُونَ عَلَيْهِ الْأَقْوَالَ، الَّتِي يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا بِهَا مَا جَاءَ بِهِ، بَلْ هُوَ أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلًا وَأَجْزَلُهُمْ رَأْيًا، وَأَصْدَقُهُمْ لَهْجَةً.

{وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} أَيْ: رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأُفُقِ الْبَيِّنِ، الَّذِي هُوَ أَعْلَى مَا يَلُوحُ لِلْبَصَرِ.

{وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أَيْ: وَمَا هُوَ عَلَى مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بِمُتَّهَمٍ يَزِيدُ فِيهِ أَوْ يَنْقُصُ أَوْ يَكْتُمُ بَعْضَهُ، بَلْ هُوَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمِينُ أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ، الَّذِي بَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ، فَلَمْ يَشُحَّ بِشَيْءٍ مِنْهُ، عَنْ غَنِيٍّ وَلَا فَقِيرٍ، وَلَا رَئِيسٍ وَلَا مَرْؤوسٍ، وَلَا ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَلَا حَضَرِيٍّ وَلَا بَدَوِيٍّ، وَلِذَلِكَ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ، جَاهِلَةٍ جُهَلَاءَ، فَلَمْ يَمُتْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى كَانُوا عُلَمَاءَ رَبَّانِيِّينَ، وَأَحْبَارًا مُتَفَرِّسِينَ، إِلَيْهِمُ الْغَايَةُ فِي الْعُلُومِ، وَإِلَيْهِمُ الْمُنْتَهَى فِي اسْتِخْرَاجِ الدَّقَائِقِ وَالْمَفْهُومِ، وَهُمُ الْأَسَاتِذَةُ وَغَيْرُهُمْ قُصَارَاهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَلَامِيذِهِمْ.

{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} لَمَّا ذَكَرَ جَلَالَةَ كِتَابِهِ وَفَضْلَهُ بِذِكْرِ الرَّسُولَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَلَ إِلَى النَّاسِ عَلَى أَيْدِيهِمَا، وَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمَا بِمَا أَثْنَى، دَفَعَ عَنْهُ كُلَّ آفَةٍ وَنَقْصٍ مِمَّا يَقْدَحُ فِي صِدْقِهِ، فَقَالَ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} أَيْ: فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ قُرْبِهِ، {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} أَيْ: كَيْفَ يَخْطُرُ هَذَا بِبَالِكُمْ، وَأَيْنَ عَزَبَتْ عَنْكُمْ أَذْهَانُكُمْ؟ حَتَّى جَعَلْتُمُ الْحَقَّ الَّذِي هُوَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الصِّدْقِ بِمَنْزِلَةِ الْكَذِبِ الَّذِي هُوَ أَنْزَلُ مَا يَكُونُ وَأَرْذَلُ وَأَسْفَلُ الْبَاطِلِ؟ هَلْ هَذَا إِلَّا مِنِ انْقِلَابِ الْحَقَائِقِ.

{إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} يَتَذَكَّرُونَ بِهِ رَبَّهُمْ، وَمَا لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَمَا يُنَزَّهُ عَنْهُ مِنَ النَّقَائِصِ وَالرَّذَائِلِ وَالْأَمْثَالِ، وَيَتَذَكَّرُونَ بِهِ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ وَحُكْمَهَا، وَيَتَذَكَّرُونَ بِهِ الْأَحْكَامَ الْقَدَرِيَّةَ وَالشَّرْعِيَّةَ وَالْجَزَائِيَّةَ، وَبِالْجُمْلَةِ، يَتَذَكَّرُونَ بِهِ مَصَالِحَ الدَّارَيْنِ، وَيَنَالُونَ بِالْعَمَلِ بِهِ السَّعَادَتَيْنِ.

{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} بَعْدَمَا تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، وَالْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ. {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أَيْ: فَمَشِيئَتُهُ نَافِذَةٌ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تُعَارَضَ أَوْ تُمَانَعَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا رَدٌّ عَلَى فِرْقَتَيِّ الْقَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ، وَالْقَدَرِيَّةِ الْمُجْبَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّه.

قالَ رحمَهُ اللهُ تعالى:

تفسيرُ سورةِ الانفطارِ، وهِيَ مكيةٌ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} الآيات:

أَيْ: إِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ وَانْفَطَرَتْ، وَتَنَاثَرَتْ نُجُومُهَا، وَزَالَ جَمَالُهَا، وَفُجِّرَتِ الْبِحَارُ فَصَارَتْ بَحْرًا وَاحِدًا، وَبُعْثِرَتِ الْقُبُورُ بِأَنْ أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ، وَحُشِرُوا لِلْمَوْقِفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لِلْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. فَحِينَئِذٍ يَنْكَشِفُ الْغِطَاءُ، وَيَزُولُ مَا كَانَ خَافيًا، وَتَعْلَمُ كُلُّ نَفْسٍ مَا مَعَهَا مِنَ الْأَرْبَاحِ وَالْخُسْرَانِ، هُنَالِكَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ إِذَا رَأَى مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، وَأَيْقَنَ بِالشَّقَاءِ الْأَبَدِيِّ وَالْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ، وَهُنَالِكَ يَفُوزُ الْمُتَّقُونَ الْمُقَدِّمُونَ لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ بِالْفَوْزِ الْعَظِيمِ، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ..} الآيات:

يَقُولُ -تَعَالَى- مُعَاتِبًا لِلْإِنْسَانِ الْمُقَصِّرِ فِي حَقِّ رَبِّهِ، الْمُتَجَرِّئِ عَلَى مَعَاصِيهِ: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} أَتَهَاوُنًّا مِنْكَ فِي حُقُوقِهِ؟ أَمِ احْتِقَارًا مِنْكَ لِعَذَابِهِ؟ أَمْ عَدَمُ إِيمَانٍ مِنْكَ بِجَزَائِهِ؟

أَلَيْسَ هُوَ {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ؟ {فَعَدَلَكَ} وَرَكَّبَكَ تَرْكِيبًا قَوِيمًا مُعْتَدِلًا فِي أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ، وَأَجْمَلِ الْهَيْئَاتِ، فَهَلْ يَلِيقُ بِكَ أَنْ تَكْفُرَ نِعْمَةَ الْمُنْعِمِ، أَوْ تَجْحَدَ إِحْسَانَ الْمُحْسِنِ؟

إِنَّ هَذَا إِلَّا مِنْ جَهْلِكَ وَظُلْمِكَ وَعِنَادِكَ وَغُشْمِكَ، فَاحْمَدِ اللَّهَ أَنْ لَمْ يَجْعَلْ صُورَتَكَ صُورَةَ كَلْبٍ أَوْ حِمَارٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}.

وَقَوْلُهُ: {كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} أَيْ: مَعَ هَذَا الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، لَا تَزَالُونَ مُسْتَمِرِّينَ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالْجَزَاءِ.

وَأَنْتُمْ لَا بُدَّ أَنْ تُحَاسَبُوا عَلَى مَا عَمِلْتُمْ، وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَلَائِكَةً كِرَامًا يَكْتُبُونَ أَقْوَالَكُمْ وَأَفْعَالَكُمْ وَيَعْلَمُونَهَا، وَدَخَلَ فِي هَذَا أَفْعَالُ الْقُلُوبِ، وَأَفْعَالُ الْجَوَارِحِ، فَاللَّائِقُ بِكُمْ أَنْ تُكْرِمُوهُمْ وَتُجِلُّوهُمْ وَتَحْتَرِمُوهُمْ.

قال الله تعالى: {إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} الآيات:

الْمُرَادُ بِالْأَبْرَارِ هُمُ الْقَائِمُونَ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، الْمُلَازِمُونَ لِلْبِرِّ، فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، فَهَؤُلَاءِ جَزَاؤُهُمُ النَّعِيمُ فِي الْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَالْبَدَنِ، فِي دَارِ الدُّنْيَا وَفِي دَارِ الْبَرْزَخِ وَفي دَارِ الْقَرَارِ.

{وَإِنَّ الْفُجَّارَ} الَّذِينَ قَصَّرُوا فِي حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، الَّذِينَ فَجَرَتْ قُلُوبُهُمْ فَفَجَرَتْ أعمالُهم

– الشيخ : الَّذِينَ فَجَرَتْ

– القارئ : فَفَجَّرَتْ؟

– الشيخ : فَجَرَتْ

– القارئ : عندي "فاءين" كذا

– طالب: عندنا "فَفَجَرَتْ"

– القارئ : فَفَجَرَتْ أعمالُهُم

– الشيخ : هذا هو الظاهر

– القارئ : {لَفِي جَحِيمٍ} أَيْ: عَذَابٌ أَلِيمٌ، فِي دَارِ الدُّنْيَا وَدَارِ الْبَرْزَخِ وَفِي دَارِ الْقَرَارِ.

{يَصْلَوْنَهَا} وَيُعَذَّبُونَ بِهَا أَشَدَّ الْعَذَابِ

– الشيخ : أعوذ بالله

– القارئ : {يَوْمَ الدِّينِ} أَيْ: يَوْمَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ.

{وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} أَيْ: بَلْ هُمْ مُلَازِمُونَ لَهَا، لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا.

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} فِي هَذَا تَهْوِيلٌ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الَّذِي يُحَيِّرُ الْأَذْهَانَ.

{يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} وَلَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً أَوْ حَبِيبَةً مُصَافِيَةً، فَكُلٌّ مُشْتَغِلٌ بِنَفْسِهِ لَا يَطْلُبُ الْفِكَاكَ لِغَيْرِهَا. {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} فَهُوَ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ حَقَّهُ مِنْ ظَالِمِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انتهى

– الشيخ : بارك الله فيك، الله أكبر، سور متتالية كلها في شأن القيامة.