الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير جزء عم/سورة المطففين (1) من قوله تعالى {ويل للمطففين} الآية 1 إلى قوله تعالى {ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون} الآية 17
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

سورة المطففين (1) من قوله تعالى {ويل للمطففين} الآية 1 إلى قوله تعالى {ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون} الآية 17

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة المطففين

الدَّرس الأوَّل

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين:1-17]

– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله إلا الله.

الحمد لله، هذه سورةُ الْمُطَفِّفِينَ، وهي مكيَّة، تقدَّمَ أنَّ معظمَ سور هذَيْن الجزأين معظمُها من القرآن المكي أي: الذي نزلَ قبلَ الهجرة، وقولُهُ تعالى: {وَيْلٌ} هذا وعيدٌ ودعاءٌ على أولئك الصِّنْفِ مِن الناس الذين يَبخسون المكاييلَ والموازين، يَبخسون الناسَ أشياءَهم، ويلٌ لهم، وبعضُ المفسرين يقول: إنه وادٍ في جهنَّم، وهو على كل حالٍ يدلُّ على الشَّرِّ، دعاءٌ عليهم {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}.

ثم فسَّرَهُ، تفسير المطففين {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} إذا اكتالوا حقوقَهم مِن الناس يستوفونَها كاملة، إذا كان لهم حقٌّ على أحدٍ وكالوه يكيلونه وافيًا {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}

وإذا كالوا للناس حقوقهم بَخْسوها {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} {كَالُوهُمْ} يعني: كَالُوا لهم، {أَوْ وَزَنُوهُمْ} يعني: وزنُوا لهم، يُخسرونهم بنقصِ المكيالِ والميزان، سيرةُ قومِ شُعيب، معصيةُ قومِ شعيبٍ مع الشرك: التطفيفُ، تطفيفُ المكاييل والموازين؛ ولهذا جاءَهم نبيُّ الله شعيب يأمرَهم بأن يُوفوا المكيال والميزان ولا يبخسوا الناس أشياءَهم.

ثم قال تعالى: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} ألا يعلمونَ أنَّهم مبعوثون، {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ} المطففين {أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} بعد الموت، مَبْعُوثُونَ ليوم الجزاء فيأخذُ الله للمظلومين الذين بُخِسَتْ حقوقُهم من أولئك المطففين، {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} يومُ القيامة يومٌ عظيم فيه أمورٌ وأهوالٌ وشدائد.

{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يقومون لربِّ العالمين، يقومون مِن قبورِهم ينظرون، ويجيبُ الدَّاعي ويحضرُ يومَ الحساب، يقومون عندَ ربِّهم، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام:30] {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.

{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} "كلا" يقول المفسِّرون: إنَّ معناها "حقًّا"، وفي بعضِ المواضع معناها: الزَّجرُ والرَّدْعُ، وهي في هذا الموضع محتملةٌ والله أعلم، {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ} ومنهم المطففون، مِن الفجارِ: المطففون، وإلا فالفجَّارُ مطلقًا هم الكفار، {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} يعني: مكتوبٌ كتابُهم أنهم في سِجين، وسِجين هو النَّار هو جهنَّم، يقولُ بعضُ المفسرين: إنه في الأرضِ السَّابعة أسفلَ سافلين، أسفلَ سافلين، فهؤلاء مكتوبٌ كتابُهم في سجين، مكتوبٌ أنهم يكونون في سجين، وإنَّ جهنَّمَ لَهِيَ السّجْنُ الذي هو أعظمُ سجنٍ وأطولُه وأشدُّه، أعوذ بالله {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ}، {كِتَابٌ مَرْقُومٌ}.

{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} وعيد للمكذبين بآياتِ اللهِ وبرسلِ اللهِ {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} الذين يكذِّبون بيومِ الحسابِ ويومِ الجزاءِ {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} كلُّ مُتَعَدٍّ لحدود الله مُرتكبِ للآثام، هؤلاء هم الذين يكذِّبون بيومِ الجزاء، ولهذا يَجْتَرِئُونَ على حرماتِ الله ويُقدمون على ما حرَّمَ الله.

{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} هذا الكافر الـمُكذِّب إذا تُلِيَتْ عليه آياتُ الله يقول: هذه أقاصيصُ الأولين التي هي لا يُوثَقُ بها ولا تُصدَّق، حكاياتٌ، وهذا تعبيرٌ عن التكذيب بها، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل:24] يعني: هي هذه الآياتُ أساطيرُ الأولين.

{كَلَّا} هذه "كلا" التي تفيدُ الزَّجْر والرَّدْع لهذا المكذِّب العنيد المعتدي الأثيم، {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} هؤلاء غَطَّى على قلوبِهم أعمالُهم السيئة وصارَ عليها الرَّان.

{رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} مِن عقوباتِهم أنَّهم محجوبونَ عن ربهم لا يرونَه ولا يتمتعون برؤيتِه وإن رأوه لم يروهُ رؤيةً تسرُّهم بل يرونَه وهو غضبانٌ عليهم، ومن لَقِيَ الله وهو عليه غضبانٌ فماذا ينفعُه لقاؤُه أو رؤيتُه لله؟ {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}

{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} فيُجمَعُ لهم بين عذابِ الروحِ وعذابِ البدنِ، عذابِ الروحِ بالحجابِ عن الله، والبدنِ بعذابِ جهنَّم الـمُحْرقة {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ}.

{ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} وهذا توبيخٌ لهم، هذه النَّار التي كنتم بها تكذبون، وهذا كثير في القرآن، {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ..} تُكَذِّبُونَ. [الآية: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ]

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:

تفسيرُ سورةِ المطففينَ، وهِيَ مدنيَّة

– الشيخ : مدنية؟

– القارئ : نعم

– الشيخ : سبحان الله!

– القارئ : علَّقَ عندي في الحاشية قال: في نسخة "ط" مكيَّةٌ، والسورةُ مكيةٌ في قولِ جماعة، وفي قولٍ آخر مدنية، راجعْ تفسيرَ القرطبي.

– الشيخ : يعني فيها خلاف، الأظهرُ أنها مكيَّة، هذا هو الأظهر.

– القارئ : قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} الآيات:

{وَيْلٌ} كَلِمَةُ عَذَابٍ، وَعِقَابٍ لِلْمُطَفِّفِينَ

وَفَسَّرَ اللَّهُ الْمُطَفِّفِينَ بِأَنَّهُمْ {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} أَيْ: أَخَذُوا مِنْهُمْ وَفَاءً عَمَّا ثَبَتَ لَهُمْ قِبَلَهُمْ يَسْتَوْفُونَهُ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ. {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} أَيْ: إِذَا أَعْطَوُا النَّاسَ حَقَّهُمُ، الَّذِي لَهُمْ عَلَيْهِمْ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ، {يُخْسِرُونَ} أَيْ: يُنْقِصُونَهُمْ ذَلِكَ، إِمَّا بِمِكْيَالٍ وَمِيزَانٍ نَاقِصَيْنِ، أَوْ بِعَدَمِ مَلْءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ

– الشيخ : أحيانًا المحتالون يتخذون مكاييل ناقصة عن الكيل الذي عليه عملُ الناس، يتخذونَ مكيالًا ناقصًا، يعني المكيالُ المعتادُ يسعُ مثلًا ثلاثة كيلو وهم يتخذون مكيالًا ثلاثة إلا ربع مثلًا، فيَكيلونه على أنَّها ثلاثة كيلو، وكذلك الوزنُ يتخذُ ميزانًا صَنْجَتُهُ أقلُّ مِن الصَّنجة التي يستعملُها الآخرون، وهي الحَجرُ أو الحديدة التي تُوضَع في الكِفَّةِ الثانية، الآن هذا الميزان النوع أبو كفَّتين هذا هو الذي يعمل به الناس الآن؟ لأنه طلع الموازين الإلكترونية بالأرقام

– القارئ : لا، هذا يمكن ربما أنه انقطع، الإلكتروني هو الذي حلَّ محله

– طالب: ممكن يُعدَّل الالكتروني يا شيخ من ورا [الوراء] …

– الشيخ : المقصود أن المستعمل الآن الإلكتروني؟

– القارئ : إي، نعم

– الشيخ : حتى الذي يبيع خُضار أو يبيع اللحم؟

– القارئ : كلُّها إلكتروني

– الشيخ : كلها إلكتروني؟ يعني ما فيه كِفة؟

– القارئ : لا، كفة ما في

– الشيخ : سبحان الله

– طالب: أي فيه كفة

– الشيخ : كفتين أعني، كفّة وحدة هو الكتروني

– طالب:

– الشيخ : معروف أعرف الإلكتروني، الإلكتروني تضعُ فيه الحاجة فوقَه بس، ما فيه شيء مُعادلَة، مبرمجٌ على يعني أنَّ الرقم كذا يُعبِّر عَن الكَيلو أو الصَّاع أو الوزن، سبحان الله، الإلكتروني هو الذي يَزِنُ به الناسُ أنفسَهم، سبحان الله!

 

– القارئ : أَوْ بِعَدَمِ مَلْءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، أَوْ بغيرِ ذَلِكَ. فَهَذَا سَرِقَةٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَعَدَمُ إِنْصَافٍ لَهُمْ مِنْهُمْ. وَإِذَا كَانَ هَذَا وَعِيدًا عَلَى الَّذِينَ يَبْخَسُونَ النَّاسَ بِالْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، فَالَّذِي يَأْخُذُ أَمْوَالَهُمْ قَهْرًا أَوْ سَرِقَةً، أَوْلَى بِهَذَا الْوَعِيدِ مِنَ الْمُطَفِّفِينَ.

وَدَلَّتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَأْخُذُ مِنَ النَّاسِ الَّذِي لَهُ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنَّ يُعْطِيَهُمْ كُلَّ مَا لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْمُعَامَلَاتِ،

– الشيخ : العَدل يعني: عاملْ الناسَ بما تحب أن يعاملوك به، كما في الحديثِ: (وَليُؤتِ إلى الناسِ الذي يحبُّ أن يُؤتَى إليهِ) أما أن يكيلَ بمكيالين، إذا كالَ للناس يكيلُ لهم بميزان وإذا كال لنفسِه بمكيالٍ ثانٍ، هذا هو الذي يكيلُ بمكيالَين: ناقصٌ وكاملٌ وافي.

 

– القارئ : بَلْ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ هَذَا الْحُجَجُ وَالْمَقَالَاتُ، فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْمُتَنَاظِرَيْنِ قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْرِصُ عَلَى مَا لَهُ مِنَ الْحُجَجِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يُبَيِّنَ مَا لِخَصْمِهِ مِنَ الْحُجَّةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي أَدِلَّةِ خَصْمِهِ كَمَا يَنْظُرُ فِي أَدِلَّتِهِ هُوَ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُعْرَفُ إِنْصَافُ الْإِنْسَانِ

– الشيخ : هذا جِمَاعُهُ {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] يجبُ العَدلُ في الكلامِ والحكمِ والوزن والكيلُ، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}، في الحكمِ ومع الخَصْمِ.

– القارئ : وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُعْرَفُ إِنْصَافُ الْإِنْسَانِ مِنْ تَعْصُّبِهِ وَاعْتِسَافِهِ، وَتَوَاضُعُهُ مِنْ كِبْرِهِ، وَعَقْلُهُ مِنْ سَفَهِهِ، نَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ لِكُلِّ خَيْرٍ.

ثُمَّ تَوَعَّدَ تَعَالَى الْمُطَفِّفِينَ، وَتَعَجَّبَ مِنْ حَالِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فَالَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى التَّطْفِيفِ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَإِلَّا فَلَوْ آمَنُوا بِهِ، وَعَرَفُوا أَنَّهُمْ يَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، فَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، لَأَقْلَعُوا عَنْ ذَلِكَ وَتَابُوا مِنْهُ.

قال الله تعالى: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} الآيات:

يقولُ تعالى: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ} وَهَذَا شَامِلٌ لِكُلِّ فَاجِرٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَفَرَةِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَالْفَاسِقِينَ لَفِي سِجِّينٍ.

ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} أَيْ: كِتَابٌ مَذْكُورٌ فِيهِ أَعْمَالُهُمُ الْخَبِيثَةُ، وَالسَّجِينُ: الْمَحَلُّ الضَّيِّقُ الضَّنْكُ، وَسِجِّينٍ ضِدُّ عِلِّيِّينَ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ كِتَابِ الْأَبْرَارِ، كَمَا سَيَأْتِي.

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سِجِّينٍ هُوَ أَسْفَلُ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، مَأْوَى الْفُجَّارِ وَمُسْتَقَرُّهُمْ فِي مَعَادِهِمْ.

{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} ثُمَّ بَيَّنَهُمْ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أَيْ: يَوْمَ الْجَزَاءِ، يَوْمَ يَدِينُ اللَّهُ النَّاسَ فِيهِ بِأَعْمَالِهِمْ.

{وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ} عَلَى مَحَارِمِ اللَّهِ، مُتَعَدٍّ مِنَ الْحَلَالِ إِلَى الْحَرَامِ.

{أَثِيمٍ} أَيْ كَثِيرِ الْإِثْمِ، فَهَذَا الَّذِي يَحْمِلُهُ عُدْوَانُهُ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَيُوجِبُ لَهُ كِبْرُهُ رَدَّ الْحَقِّ، وَلِهَذَا {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} الدَّالَّةُ عَلَى الْحَقِّ، وَعَلَى صِدْقِ مَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ، كَذَّبَهَا وَعَانَدَهَا، وَ{قَالَ هَذِهِ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أَيْ: مِنْ تُرَّهَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَخْبَارِ الْأُمَمِ الْغَابِرِينَ، لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَكَبُّرًا وَعِنَادًا.

وَأَمَّا مَنْ أَنْصَفَ، وَكَانَ مَقْصُودُهُ الْحَقَّ الْمُبِينَ، فَإِنَّهُ لَا يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَقَامَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَةِ، مَا يَجْعَلُهُ حَقَّ الْيَقِينِ، وَصَارَ لِبصائرِهم بِمَنْزِلَةِ الشَّمْسِ لِلْأَبْصَارِ، بِخِلَافِ مَنْ رَانَ عَلَى قَلْبِهِ كَسْبُهُ، وَغَطَّتْهُ مَعَاصِيهِ، فَإِنَّهُ مَحْجُوبٌ عَنِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا جُوزِيَ عَلَى ذَلِكَ، بِأَنْ حُجِبَ عَنِ اللَّهِ، كَمَا حَجَبَ قَلْبَهُ فِي الدُّنْيَا عَنْ آيَاتِ اللَّهِ، {ثُمَّ إِنَّهُمْ} مَعَ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ الْبَلِيغَةِ {لَصَالُو الْجَحِيمِ}.

ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا: {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} فَذَكَرَ لَهُمْ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ: عَذَابَ الْجَحِيمِ، وَعَذَابَ التَّوْبِيخِ، وَاللَّوْمَ.

وَعَذَابُ الْحِجَابِ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْمُتَضَمِّنُ لِسُخْطِهِ وَغَضَبِهِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَعْظَمُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَدَلَّ مَفْهُومُ الْآيَةِ، عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي الْجَنَّةِ، وَيَتَلَذَّذُونَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ أَعْظَمَ مِنْ سَائِرِ اللَّذَّاتِ، وَيَبْتَهِجُونَ بِخِطَابِهِ، وَيَفْرَحُونَ بِقُرْبِهِ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَتَوَاتَرَ فِيهِ النَّقْلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ، التَّحْذِيرُ مِنَ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهَا تَرِيْنُ عَلَى الْقَلْبِ وَتُغَطِّيهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى يَنْطَمِسَ نُورُهُ، وَتَمُوتَ بَصِيرَتُهُ، فَتَنْقَلِبُ عَلَيْهِ الْحَقَائِقُ، فَيَرَى الْبَاطِلَ حَقًّا، وَالْحَقَّ بَاطِلًا وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ.

انتهى.

– الشيخ : نعم، العقوبةُ بفسادِ القلبِ والطَّبْعِ عليه أعظمُ مِن العقوبةِ بما يصيبُ البدنَ أو يصيبُ المالَ أو يصيبُ الحظوظَ؛ لأنَّ عاقبةَ فسادِ القلبِ وزَيْغِ القلبِ عاقبتُهُ الشَّقاءُ الدَّائم، ولهذا في الدُّعاءِ: (اللهمَّ لا تجعلْ مُصيبتَنا في دينِنَا) مصيبةُ الإنسانِ في بدنِه أو أهلِه أو مالِه أهونُ مِن المصيبةِ في الدين.