الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير جزء عم/سورة الانشقاق (2) من قوله تعالى {فلا أقسم بالشفق} الآية 16 إلى قوله تعالى {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} الآية 25

سورة الانشقاق (2) من قوله تعالى {فلا أقسم بالشفق} الآية 16 إلى قوله تعالى {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} الآية 25

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الانشقاق

الدَّرس الثَّاني

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) [الانشقاق:16-25]

– الشيخ : لا إله إلَّا الله.

{فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} المعنى: أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، لأنَّه "لا" هذهِ يقولُ أهلُ اللُّغةِ: إنَّها زائدةٌ للتَّأكيدِ، ويقولُ بعضُ المفسِّرين إنَّه ردٌّ على المكذِّبين، "لا" ليسَ الأمرُ كما تقولونَ وتظنُّون، ونظائرُ هذا في القرآنِ متعدِّدةٌ، {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1]، {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1]، {لَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75]، وما أشبهَ ذلكَ.

والشَّفقُ هو الحُمرةُ الَّتي تكونُ بعدَ غروبِ الشَّمسِ، وهو بقيَّةُ ضوءِ النَّهارِ، كما يكونُ الغلسُ في الفجرِ بينَ الضِّياءِ والظَّلامِ، كذلكَ وقت الشَّفقِ هو كذلكَ. {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ}

{وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} قسمٌ باللَّيلِ، وقد أقسمَ اللهُ باللَّيلِ في مواضعَ كما تقدَّمَ وكما سيأتي: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1]

{وَالْقَمَرِ} كذلكَ أقسمَ اللهُ بالشَّمسِ والقمرِ في مواضعَ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} [الشمس:1-2]، {كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر:32-33]، واللهُ تعالى يُقسِمُ بما شاءَ مِنْ خلقِه، أمَّا العبادُ فليسَ لهم أنْ يُقسِمُوا إلَّا باللهِ، {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ}. قالَ اللهُ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا} هذا يُقالُ فيهِ: إنَّه جوابُ القَسَمِ، يعني يُقسِمُ اللهُ بما ذُكِرَ على هذا الأمرِ: {لَتَرْكَبُنَّ} والخطابُ إمَّا أن يكونَ عامًّا أو لخطابِ المكذِّبين، وفي هذا تهديدٌ لهم، وقُرِئَ: {لَتَرْكَبَنَّ} أيُّها الإنسانُ أو {لَتَرْكَبَنَّ} أيُّها النَّبيُّ، قولان في التَّفسيرِ، {لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا} أو {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} يعني: حالًا بعدَ حالٍ، والإنسانُ وكلُّ أحدٍ في من وجوده إلى منتهاه ينتقلُ من حالٍ إلى حالٍ فهي أطباقٌ.

ثمَّ قالَ تعالى: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ما لهؤلاءِ لا يؤمنونَ؟! لا يؤمنونَ باللهِ ولا باليومِ الآخرِ، ولا يؤمنون بالرَّسولِ، {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} وهذا موضعُ سجودٍ، وقد ثبتَ أنَّ النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سجدَ عندما قرأَ هذه السُّورةَ في صلاةِ العشاءِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} هذا شبيهٌ لقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان:60]

{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ}، {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} بشِّرْ هؤلاء الكفَّار بعذابٍ أليمٍ، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وهذا استثناءٌ منقطعٌ عندَ أهلِ اللُّغةِ؛ لأنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليسوا من الكفَّار، فهذا استثناءٌ منقطعٌ، يفسِّرونه بـ "لكن"، {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} لكن {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} يعني: غيرُ مقطوعٍ بل هو دائمٌ لا ينقطعُ.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} الآياتِ:

أقسمَ في هذا الموضعِ بآياتِ اللَّيلِ، فأقسمَ بالشَّفقِ الَّذي هوَ بقيَّةُ نورِ الشَّمسِ، الَّذي هوَ مُفتتَحُ اللَّيلِ.

{وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أي: احتوى عليهِ مِن حيواناتٍ وغيرِها، {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} أي: امتلأَ نورًا بإبدارِهِ، وذلكَ أحسنُ ما يكونُ وأكثرُ منافعَ، والمقسَمُ عليهِ قولُهُ: {لَتَرْكَبُنَّ} أيُّها النَّاسُ {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} أي: أطوارًا متعدِّدةً وأحوالًا متباينةً، مِن النُّطفةِ إلى العلقةِ، إلى المضغةِ، إلى نفخِ الرُّوحِ، ثمَّ يكونُ وليدًا وطفلًا ثمَّ مميِّزًا، ثمَّ يجري عليهِ قلمُ التَّكليفِ، والأمرِ والنَّهيِ، ثمَّ يموتُ بعدَ ذلكَ، ثمَّ يُبعَثُ ويُجازَى بأعمالِهِ، فهذهِ الطَّبقاتُ المختلفةُ الجاريةُ على العبدِ، دالَّةٌ على أنَّ اللهَ وحدَهُ هوَ المعبودُ، المُوحَّدُ، المُدبِّرُ لعبادِهِ بحكمتِهِ ورحمتِهِ، وأنَّ العبدَ فقيرٌ عاجزٌ، تحتَ تدبيرِ العزيزِ الرَّحيمِ، ومعَ هذا، فكثيرٌ مِن النَّاسِ لا يؤمنونَ.

{وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} أي: لا يخضعونَ للقرآنِ، ولا ينقادونَ لأوامرِهِ ونواهيهِ، {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} أي: يُعاندونَ الحقَّ بعدَما تبيَّنَ، فلا يُستغرَبُ عدمُ إيمانِهم وعدمُ انقيادِهم للقرآنِ، فإنَّ المكذِّبَ بالحقِّ عنادًا، لا حيلةَ فيهِ.

{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} أي: بما يعملونَهُ وينوونَهُ سرًّا، فاللهُ يعلمُ سرَّهم وجهرَهم، وسيجازيهم بأعمالِهم، ولهذا قالَ: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وسُمِّيَتِ البشارةُ بشارةً، لأنَّها تؤثِّرُ في البشرةِ سرورًا أو غمًّا.

فهذهِ حالُ أكثرِ النَّاسِ، التَّكذيبُ بالقرآنِ، أمَّا

– الشيخ : يقولُ أهلُ اللُّغةِ وأهلُ البلاغةِ: إنَّ هذا نوعٌ مِن التَّهكُّمِ بالكفَّار أن عبَّرَ عن الإخبارِ بالعذابِ عبَّرَ عنه بلفظِ البشارةِ؛ لأنَّ الأصلَ أنَّ البشارةَ إنَّما تكونُ في الخبرِ السَّارِّ، {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25]، هذا حقيقةٌ {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [البقرة:25]، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}، {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أيُّ بشارةٍ؟ هذا خبرٌ يسوءُ، لكن الشَّيخَ يذكرُ معنىً لغويٌّ يدخلُ في فقهِ اللُّغةِ، لماذا سُمِّيَ الخبرُ بما يسرُّ أو بما يسوءُ بشارةً؟ يقولُ الشَّيخُ: لأنَّ الخبرَ السَّارَّ أو الخبرَ بالمكروهِ يؤثِّرُ في البشرةِ فسُمِّيَ الخبرُ بمثل ذلكَ سُمِّيَ بشارةً، فهذا ربطٌ لغويٌّ يدخلُ في فقهِ اللُّغةِ.

 

– القارئ : وعدمُ الإيمانِ بهِ.

ومِن النَّاسِ فريقٌ هداهم اللهُ، فآمنُوا باللهِ، وقَبِلُوا ما جاءَتْهم بهِ الرُّسلُ، فآمنُوا وعملُوا الصَّالحاتِ.

فهؤلاءِ {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي: غيرُ مقطوعٍ بل هوَ أجرٌ دائمٌ ممَّا لا عينٌ رأَتْ، ولا أذنٌ سمعَتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ.

والحمدُ للهِ، انتهى.