سورة الغاشية

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك

سورة "الأعلى"

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:1-26]

– الشيخ : الحمد لله، هذه سورةُ الغاشية، وهي مكيَّة، ولها شأنٌ في هدي النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- إذ كانَ يقرؤُها في الركعة الثانية مِن الجمعة والعيدَيْن والاستسقاء، وفي الركعةِ الأولى سورةُ الأعلى كما هو معروفٌ في العمل.

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} يقول كثيرٌ من المفسرين: مثلُ هذا الأسلوب {هَلْ أَتَاكَ} يعني: قد أتاكَ، وفعلًا قد أتى نبأُ الغاشية ونبأُ القيامة في سورٍ كثيرةٍ، ثم إن هذا الاستفهام، {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ} يُشعِرُ بأنه حديثٌ عظيمٌ! نعم، وقد سماه الله نبأً عظيمًا {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:2،1] وهو القيامة وهو البعثُ، إنه لنبأ عظيم! {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، والغاشية اسمٌ من أسماء القيامة كالحاقَّة والواقعة والطامَّة {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} لأنها تَغْشَى الناسَ بأهوالِها وأفزاعِها العظيمة، لا إله إلا الله، {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}.

ثم يذكرُ الله أن الناس في ذلك اليوم فريقانِ -كما جاءَ فيما قبلها من السور- {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} ذليلةٌ، خاشعةٌ، ناصبةٌ، من النَّصَبِ وهو التعب والمشقَّة؛ لأنها مُعَذَّبة، {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} وهي نارُ جهنَّمَ الـمُعَدَّة للكافرين، نعوذ بالله.

{تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ} يعني: تُسقَى من عينٍ شديدةٍ الحرارة، كما قال تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ} [الرحمن:44] أي: شديد الحرارة، أعوذ بالله منه النار، {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} ليس لهم طعام إلا مِن ضريعٍ ذلك الطعامُ {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} لا خيرَ فيه ولا نفعَ فيه، بل أكلُهم له عذابٌ مِن أنواعِ العذاب كالزَّقَّوم.

ثم ذكرَ الفريقَ الثاني {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} المعنى: ووجوهُ و{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} يظهرُ عليها نضرةَ النعيمِ، {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24] وهنا قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} هي راضيةٌ من أجل سعيها وهو العملُ الصالح الذي قدَّموه، فمِن أجل سعيهِم وعملهم الصالح صاروا في حالةٍ راضيةٍ راضونَ كما قال تعالى: {مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة:7،6]

{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} فالجنةُ في أعلى عُلوٍّ ولهذا سَمَّى اللهُ منازلَهم عِلِّيِّينَ كما تقدَّم في سورة المطففين: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] في منازل عالية.

ثم ذكر مِن صفتِها أنها مشتملةٌ -هذه الجنة مشتملةٌ- على أنواع النعيم مِن المطاعم والمشاربِ والمجالسِ: {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} لا تسمع فيها لغوًا، لا تسمع فيها لغوًا ولا كَذِبًا ولا إثمًا، لا تسمع فيها كلامًا لا خيرَ فيه ولا أصواتًا لا خيرَ فيها بل فيها الإزعاج، {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً}.

{فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}، {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} يعني: عيونٌ ليس عينًا واحدة {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر:45] أنهار، أنواعُ الأنهار بأنواعِ الأشربة، فهو اسمُ جنسٍ عين، عين فيَّاضة بالشرابِ، بأنواعِ الأشربةِ {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ}.

{فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} سُرَرٌ للجلوس عليها والاتِّكاء عليها، ومنها الأرائك {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:35] {سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} وفي الآية الأخرى قال: {مَصْفُوفَةٍ}، {عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} [الطور:20] وفي الآيةِ الأخرى قال: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات:44] {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} مُعَدَّةٌ للشربِ بها وسَقي أولياءِ اللهِ منها {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:18،17]

{وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} النَّمَارِقُ هِيَ الوسائدُ، {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:16] قال المفسِّرون: إنها البُسُطُ، يعني كلُّ هذا تَعْدَادٌ لأنواع النعيم، فذكر أنواعَ النعيم: العيونُ والأرائكُ والسُرر والـمُتَّكَآتُ والوسائد والفُرُش {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} مبسوطة، وفي هذا تصويرٌ لمجالسهم التي يجلسون فيها مع بعضِهم {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة:17]

ثم انتقل السِّياقُ والكلامُ إلى توبيخِ الكافرين المكذِّبين بآياتِ الله حيثُ لم يتفكَّروا في مخلوقاتِ الله {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} فذكرَ أربعةً مِن أنواعِ المخلوقات: الإبلُ التي سخَّرها الله للعباد لركوبِها والحَمْلِ عليها، {أَفَلَا يَنْظُرُونَ} يعني أفلا يتفكَّرون، ينظرون إليها بأبصارِهم ويتفكَّرون؛ لأنَّ المقصودَ مِن النظر، ليس هو مجرَّد النظر العين بل المقصودُ النظر إلى هذه المخلوقات للتفكُّرِ فيها.

{إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} سبحان الله، {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن:7] {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32] فالسماء للأرض كالسَّقْفِ، وفيها آياتٌ عظيمةٌ، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] والجبالُ المنصوبةُ المختلفة في عِظَمِها وفي طولِها وفي ارتفاعِها، وقد بيَّن -سبحانه وتعالى- الحكمةَ من هذه الجبال وهي تثبيتُ الأرضِ، كما قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ:7،6] {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [النحل:15]

وبَسط الأرضَ كذلك {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} جعلَها الله سطحًا صالحًا للاستقرار عليه، وسمَّاها فراشًا ومهادًا وإن كانتْ في جملتِها يقول علماءُ الجغرافيا مثلًا وقالَهُ المسلمون إنها كُريَّةُ الشكل، إن الأرض كُريَّةُ الشكلِ لكن لعظمِها صارَ سطحها بساطًا، {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح:17-19] بساط، وفي الآية الأخرى "فراش"، وهذا كله تنبيهٌ للعباد إلى التفكر في آيات الله، وقد أثنى الله على الذاكرينَ المتفكرينَ بقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:191،190]

ثم أمر الله نبيَّه بالتذكير {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} الرسولُ لا يملكُ لنفسِه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًّا إنما مهمتُه ووظيفته التذكير والنِّذَارة {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هود:12] {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} لست مسلطًا عليهم تُكرهُهم على الإيمان {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] الرسولُ لا قدرةَ له على هدايةِ الخلق، {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272] فهذا معنى قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ} وهذا استثناءٌ منقطعٌ، بمعنى "إلا" بمعنى "لكن"، لكن مَنْ تولَّى وأعرض وكفر وكذَّبَ بآياتِ الله فسيعذبُهُ الله، {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ}.

{فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} مرجعُهُم {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} فالعباد صائرونَ إلى الله راجعونَ إليهِ -سبحانه- ثم يُنَبِّئُهُم بما كانوا يعملون ويحاسبهم على أعمالهم إن خيرًا فخيرٌ وإن شرًّا فشرٌّ، فسبحان الذي جعلت حكمتُه ومشيئتُه بهذه الأمور العظيمة!

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى-:

تَفْسِيرُ سُورَةِ الْغَاشِيَةِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} الآيات:

يَذْكُرُ تَعَالَى أَحْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَهْوَالِ الطَّامَّةِ، وَأَنَّهَا تَغْشَى الْخَلَائِقَ بِشَدَائِدِهَا، فَيُجَازَوْنَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَيَتَمَيَّزُونَ إِلَى فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقًا فِي السَّعِيرِ.

فَأَخْبَرَ عَنْ وَصْفِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ فِي وَصْفِ أَهْلِ النَّارِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {خَاشِعَةٌ} مِنَ الذُّلِّ، وَالْفَضِيحَةِ وَالْخِزْيِ.

{عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أَيْ: تَاعِبَةٌ فِي الْعَذَابِ، تَجُرُّ عَلَى وُجُوهِهَا، وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} فِي الدُّنْيَا؛ لِكَوْنِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَهْلَ عِبَادَاتٍ وَعَمَلٍ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا عَدَمَ شَرْطَهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ، صَارَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ هَبَاءً مَنْثُورًا، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، بَلِ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ هُوَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَهُ بِالظَّرْفِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ ذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ عُمُومًا، وَذَلِكَ الِاحْتِمَالُ جُزْءٌ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ النَّارِ؛ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِي بَيَانِ حَالِ النَّاسِ عِنْدَ غَشَيَانِ الْغَاشِيَةِ، فَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِأَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا.

وقوله:

– الشيخ : وهذا القولُ -أعني تفسيرُهُ {خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ} يعني في الدنيا في العبادةِ الباطلةِ- هذا يُؤْثَرُ عن كثيرٍ أو عن جمعٍ مِن السَّلف المفسرين، ولكن القول الثاني هو الذي رجَّحَهُ الشيخ، وهو ما رجَّحَهُ شيخُ الإسلام ابنُ تيمية أنَّ المراد وصفُ حال الكفار يوم القيامة لا وصفُ حالهم في الدنيا، وخشوعُهم هذا ليسَ خشوعَ عبادة بل خشوعَ ذِلَّة وهوانٌ وجزاءٌ وعذابٌ، {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} ما تعانيه مِن الشقاء في نارِ جهنم {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ}.

 

– القارئ : وقوله: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} أَيْ: شَدِيدًا حَرُّهَا، تُحِيطُ بِهِمْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أَيْ: شَدِيدَةُ الْحَرَارَةِ

– الشيخ : أعوذ بالله، أعوذ بالله

– القارئ : {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} فهذا شَرَابُهُمْ.

وأما طَعَامُهُمْ فـ {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الطَّعَامِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَسُدَّ جُوعَ صَاحِبِهِ وَيُزِيلَ عَنْهُ أَلَمَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَسْمَنَ بَدَنُهُ مِنَ الْهُزَالِ، وَهَذَا الطَّعَامُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، بَلْ هُوَ طَعَامٌ فِي غَايَةِ الْمَرَارَةِ وَالنَّتَنِ وَالْخِسَّةِ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.

– الشيخ : أعوذ بالله

– القارئ : وَأَمَّا أَهْلُ الْخَيْرِ، فَوُجُوهُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاعِمَةٌ أَيْ: قَدْ جَرَتْ عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ، فَنَضَرَتْ أَبْدَانُهُمْ، وَاسْتَنَارَتْ وُجُوهُهُمْ، وَسُرُّوا غَايَةَ السُّرُورِ.

{لِسَعْيِهَا} الَّذِي قَدَّمَتْهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى عِبَادِ اللَّهِ، {رَاضِيَةٌ} إِذْ وَجَدَتْ ثَوَابَهُ مُدَّخَرًا مُضَاعَفًا، فَحَمَدَتْ عُقْبَاهُ، وَحَصَلَ لَهَا كُلُّ مَا تَتَمَنَّاهُ، وَذَلِكَ أَنَّهَا فِي جَنَّةٍ جَامِعَةٍ لِأَنْوَاعِ النَّعِيمِ كُلِّهَا، عَالِيَةٍ فِي مَحَلِّهَا وَمَنَازِلِهَا، فَمَحَلُّهَا فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَمَنَازِلُهَا مَسَاكِنُ عَالِيَةٌ، لَهَا غُرَفٌ وَمِنْ فَوْقِ الْغَرْفِ غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ يُشْرِفُونَ مِنْهَا عَلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ.

{قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} أَيْ: كَثِيرَةُ الْفَوَاكِهِ اللَّذِيذَةِ، الْمُثْمِرَةِ بِالثِّمَارِ الْحَسَنَةِ، السَّهْلَةِ التَّنَاوُلِ، بِحَيْثُ يَنَالُونَهَا عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانُوا، لَا يَحْتَاجُونَ أَنْ يَصْعَدُوا شَجَرَةً، أَوْ يَسْتَعْصِيَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا ثَمَرَةٌ.

{لا تَسْمَعُ فِيهَا} أَيِ: الْجَنَّةُ {لاغِيَةً} أَيْ: كَلِمَةَ لَغْوٍ وَبَاطِلٍ، فَضْلًا عَنِ الْكَلَامِ الْمُحَرَّمِ، بَلْ كَلَامُهُمْ كَلَامٌ حَسَنٌ نَافِعٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَذَكَرَ نِعَمَهُ الْمُتَوَاتِرَةَ

– الشيخ : "إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا" {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة:26،25] كلامُهم كلُّه سلامٌ وسالمٌ، والملائكةُ تُسلِّم عليهم {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب:44].

 

– القارئ : وَذَكَرَ نِعَمَهُ الْمُتَوَاتِرَةَ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى الْآدَابِ الْحَسَنَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاشِرِينَ، الَّذِي يَسُرُّ الْقُلُوبَ، وَيَشْرَحُ الصُّدُورَ.

{فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} وَهَذَا اسْمُ جِنْسٍ أَيْ: فِيهَا الْعُيُونُ الْجَارِيَةُ الَّتِي يُفَجِّرُونَهَا وَيَصْرِفُونَهَا كَيْفَ شَاءُوا، وَأَنَّى أَرَادُوا.

{فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} و"السُّرُرُ جَمْعُ سَرِيرٍ وَهِيَ الْمَجَالِسُ الْمُرْتَفِعَةُ فِي ذَاتِهَا، وَبِمَا عَلَيْهَا مِنَ الْفُرُشِ اللَّيِّنَةِ الْوَطِيئَةِ.

{وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} أَيْ: أَوَانٍ مُمْتَلِئَةٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ اللَّذِيذَةِ، قَدْ وُضِعَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأُعِدَّتْ لَهُمْ، وَصَارَتْ تَحْتَ طَلَبِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ، يَطُوفُ بِهَا عَلَيْهِمِ الْوِلْدَانُ الْمُخَلَّدُونَ.

{وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} أَيْ: وَسَائِدُ مِنَ الْحَرِيرِ وَالِاسْتَبْرَقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، قَدْ صُفَّتْ لِلْجُلُوسِ وَالِاتِّكَاءِ عَلَيْهَا، وَقَدْ أُرِيحُوا عَنْ أَنْ يَضَعُوهَا، وَيَصِفُّوهَا بِأَنْفُسِهِمْ.

{وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} وَالزَّرَابِيُّ هِيَ: الْبَسْطُ الْحِسَانُ، {مَبْثُوثَةٌ} أَيْ: مَمْلُوءَةٌ بِهَا مَجَالِسُهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.

قال الله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} الآيات:

يَقُولُ تَعَالَى حَثًّا لِلَّذِينِ لَا يُصَدِّقُونَ الرَّسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} أَيْ: أَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى خَلْقِهَا الْبَدِيعِ، وَكَيْفَ سَخَّرَهَا اللَّهُ لِلْعِبَادِ، وَذَلَّلَهَا لِمَنَافِعِهِمِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي يَضْطَرُّونَ إِلَيْهَا. {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} بِهَيْئَةٍ بَاهِرَةٍ، حَصَلَ بِهَا الِاسْتِقْرَارُ لِلْأَرْضِ وَثَبَاتُهَا عَنِ الِاضْطِرَابِ، وَأَوْدَعَ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ الْجَلِيلَةِ مَا أَوْدَعَ.

{وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} أَيْ: مُدَّتْ مَدًّا وَاسِعًا، وَسُهِّلَتْ غَايَةَ التَّسْهِيلِ، لِيَسْتَقِرَّ الْعِبَادُ عَلَى ظَهْرِهَا، وَيَتَمَكَّنُوا مِنْ حَرْثِهَا وَغِرَاسِهَا، وَالْبُنْيَانِ فِيهَا، وَسُلُوكِ طُرُقِهَا.

وَاعْلَمْ أَنَّ تَسْطِيحَهَا لَا يُنَافِي أَنَّهَا كُرَةٌ مُسْتَدِيرَةٌ، قَدْ أَحَاطَتِ الْأَفْلَاكَ فِيهَا مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهَا، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ وَالْحِسُّ وَالْمُشَاهَدَةُ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، خُصُوصًا فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ، الَّتِي وَقَفَ النَّاسُ عَلَى أَكْثَرِ أَرْجَائِهَا بِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُقَرِّبَةِ لِلْبَعِيدِ، فَإِنَّ التَّسْطِيحَ إِنَّمَا يُنَافِي كُرَوِيَّةَ الْجِسْمِ الصَّغِيرِ جَدًا، الَّذِي لَوْ سُطِّحَ لَمْ يَبْقَ لَهُ اسْتِدَارَةٌ تُذْكَرُ.

وَأَمَّا جِسْمُ الْأَرْضِ الَّذِي هُوَ كَبِيرٌ جِدًّا وَاسِعٌ، فَيَكُونُ كُرَوِيًّا مُسَطَّحًا، وَلَا يَتَنَافَى الْأَمْرَانِ، كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَرْبَابُ الْخِبْرَةِ.

{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} أَيْ: ذَكِّرِ النَّاسَ وَعِظْهُمْ أَنْذِرْهُمْ وَبَشِّرْهُمْ،

– الشيخ : الجسمُ الكُريّ إذا كان ضخمًا صار ظهرُه سطحًا وواسعًا، وهذا هو الواقعُ مِن حالِ الأرض، فهي سطحٌ من وجهٍ وكريَّةٌ مِن وجه، فلسعةِ سطحِها وظهرِها صارت مسطحةً، وباعتبار مجموعِها شكلُها كريَّةٌ.

 

– القارئ : {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} أَيْ: ذَكِّرِ النَّاسَ وَعِظْهُمْ، وَأَنْذِرْهُمْ وَبَشِّرْهُمْ، فَإِنَّكَ مَبْعُوثٌ لِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ وَتَذْكِيرِهِمْ، وَلَمْ تُبْعَثْ عَلَيْهِمْ مُسَلَّطًا مُوَكَّلًا بِأَعْمَالِهِمْ، فَإِذَا قُمْتَ بِمَا عَلَيْكَ، فَلَا عَلَيْكَ بَعْدَ ذَلِكَ لَوْمٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]

وَقَوْلُهُ: {إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} أَيْ: لَكِنْ مَنْ تَوَلَّى عَنِ الطَّاعَةِ وَكَفَرَ بِاللَّهِ {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} أَيِ: الشَّدِيدَ الدَّائِمَ، {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} أَيْ: رُجُوعَ الْخَلَائِقِ وَجَمْعَهُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} عَلَى مَا عَمِلُوا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

– الشيخ : رحمه الله .