بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك
سورة " الليل "
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ: بسم الله الرحمن الرحيم
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:1-21]
– الشيخ : الله أكبر، الحمد لله، هذه اسمُها سورةُ الليل، والتي قبلَها سورة الشمس، والتي بعدَها سورةُ الضحى، وهي مكيَّة، هذه السورة مكيَّة، أي: مما نزلَ قبلَ الهجرة.
يُقسِمُ اللهُ بالليل كما تقدَّم في مواضع، لكن هنا يقول: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} فالله يُقسم بالليلِ بأحواله المختلفة: بإقبالِه وغِشيانِه وإدبارِه وسَريَانِه {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر:4] فالله يُقسِمُ به بأحواله المختلفة، وهنا يقول: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ومتى ذلك؟ إذا غربتِ الشمس غَشِيَ الليلُ الكونَ وأظلمَ وذهبَ النهارُ {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}
{وَالنَّهَارِ} يُقسِمُ بالنهار أيضًا {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} إذا بانَ واتضح، {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} وذلك بطلوع الفجرِ ثم بطلوعِ الشمس ثم بارتفاعِ الشمس يتجلَّى شيئًا فشيئًا حتى يرتفعُ النهار، سبحان الله الذي قدَّر الزمان وقدَّر الليل والنهار وسخَّرَ الليل والنهار! لا إله إلا الله، وهما آيتان من آياتِ الله، الليلُ والنهار آيتان من آيات الله {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت:37] وهما نعمتانِ عظيمتان، {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص:73] فهما آيتانِ من آياتِ الله الدالَّة على قدرتِه وحكمتِه ورحمتِه، ومن نعمِه العظيمة على العباد، وكثيرًا ما يُذكِّر الله بهاتين النعمتين يُذكِّر بهما {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:11،10] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}.
{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}، {وَمَا} أي: والذي خلقَ الذكر والأنثى وهو الله، أو: وخَلْقِ الذكر والأنثى، كما تقدَّم في قوله: {وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5] {وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] {وَمَا طَحَاهَا} [الشمس:6] {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}، وقرأُ بعضُهم -بعضُ السلف-: والذكر والأنثى، فيكون أقسمَ بالذكر والأنثى، بهذين الجنسين الحيوان، الإنسانُ وغير الإنسان، {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}.
{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} هذا هو جواب القَسَم، وهو الـمُقسَمُ عليه، فاللهُ أقسمَ بالليل والنهار{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} يعني: عملُكم مختلفٌ متباينٌ، فأين مَنْ سعيُه بالعمل الصالح وما يُقرِّبُ إلى الله وما يُحبُّه الله، مِن سعيه -والعياذ بالله- في مساخطِ الله؟! شتَّان بين هذا وذاك، كلٌّ يسعى ولكن سعيٌ في الخير والحق، وسعيٌ في الشرِّ والباطل، {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}.
ثم ذكر -تعالى- أن الناسَ فريقان: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} للطريقة اليُسرى السهلة السَّمْحة، {أَعْطَى} أي: أعطى ما أُمِرَ بإعطائِه، واتقى ما أُمِرَ باتقائِه، فالعطاء يتضمَّنُ فعلَ المأمورات، والتقوى تتضمن تركَ المنهيَّات، {أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} قيل: الحسنى: "لا إله إلا الله" أحسنُ الكلمات، وقيل: المراد الجنة، {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} فهذا من الجزاء الـمُعجَّل، مَن امتثل أوامرَ الله واجتنبَ نواهيَه، كان مِن آثار ذلك أن يوفِّقَه ويُيَسِّره للطريقة اليسرى ويُهدَى فهو مِن أسبابه..، فذلك مِن أسباب هدايته وتوفيقه.
{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} وهذا هو الصِّنف الشقي والعياذ بالله، {بَخِلَ} فلم يُؤدِّي ما أُمِرَ به، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} جزاءً وفاقًا، {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:6-8] {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} فلا يُوفَّقُ لطريق الحقِّ، بل يُخذَلُ فيسلكُ الطريق -طريقَ الشقاء-، وطريقُ الشقاء هي أعسرُ طريقٍ فيها الشَّقاء والعناء في العاجلِ والآجل، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}.
{وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} لا ينفعُه مالُه إذا نزلَ به الموت، {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}.
{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} فالله -تعالى- يَهدي مَن يشاء ويُضِلُّ مَن يشاء، وقد قيل في معنى {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} يعني علينا بيانُ الطريق الحقّ والهدى، هذا هدى البيانِ والدَّلالةِ والإرشادِ، لأنَّ الهداية مِن الله نوعان: هدايةُ الدَّلالةِ والإرشادِ، وهدايةُ التوفيقِ لقبولِ الحق {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} فاللهُ أوجب على نفسِه أن يُبيِّن طريقَ الحقِّ وطريقَ الباطل ليكونَ الناسُ على بيِّنة، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي: الطريقَيْن، طريقُ الخير وطريقُ الشر.
{وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} الدنيا والآخرة كلُّها لله، مِلكُه، وهو المتصرِّفُ فيها بما شاء عطاءً ومنعًا وهدىً وإضلالًا وجزاءً، {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} الآخرةُ هي الدَّارُ الآخرة، والأولى هي دارُ الدنيا، أما دارُ الدنيا فهي دارُ العمل والاختبار والابتلاء، وأما الدار الآخرة فهي دارُ الجزاء، والله مالكُهما سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ} {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} هذا الخطابُ للكفار تحذيرًا لهم مِن الكفرِ بالله الذي يُفضِي بهم إلى النار{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} وهي نارُ جهنم التي أعدَّها الله للكافرين، نارٌ تتلهبُ وتقذفُ بالشرَر، واللهُ يَذكرُ النارَ في آياتٍ كثيرةٍ ويُعظِّمها، وهي النارُ الكُبرى {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} لا يَدخلُها ويُعذَّب فيها إلا الأشقى، وهو مَن كفرَ بالله وصرفَ حياتَه في معاصي الله، فما أشقاه! مَن كفرَ بالله وكذبَ برسله وكذبَ بآياته ونسيَ الآخرة، فهذا هو الشَّقي بل الأشقى.
{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} الأتقى: هو مَن اتقى الله بالإيمان والعمل الصالح، واستقامَ على ذلك {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} يُنفقُ مالَه يريد تزكيةَ نفسِه لا يريد جزاءً ولا شكورًا.
{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} هو ينفقُه لا على وجهِ المكافأة لِمَن أحسنَ إليه بل ينفقُه في سبيل الله تقربًا إليه -سبحانه وتعالى- وامتثالًا لأمره، وهذا يَشمل الزكاةَ وسائرَ النفقاتِ المستحبة {يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} إنما ينفقُ مالَه {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ} سبحانه وتعالى {الْأَعْلَى} والأعلى صفةٌ لله تعالى، صفةُ للرب، {وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى}.
قال الله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} وهذا وعدٌ لعبدِه التقي، الأتقى، {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} بما يُعطيهُ الله مِن الثواب الجزيل الذي يرضيه، وقد أخبرَ عن أولياءِه بأنهم راضونَ ومَرضيون {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} بما يُعطيهُ الله مِن الثواب الذي يَسُرُّهُ ويُرضيه ويَسعدُ به، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم بمنِّهِ وكرمِهِ.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ رحمَهُ اللهُ تعالى:
تَفْسِيرُ سُورَةِ وَاللَّيْلِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} الآيات:
هَذَا قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ بِالزَّمَانِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ أَفْعَالُ الْعِبَادِ
– الشيخ : "بالزمان" الزمانُ يشملُ الليلَ والنهارَ، الشيخ يقول: "إنَّ اللهَ يُقسِمُ بالزمانِ"، صحيح، يُقسم..، الزمان إنما هو..، مجموعُ الليلِ والنهارِ هو الزمان، نعم "يُقسِمُ بالزمانِ" كما أقسمَ بالعصر كما سيأتي.
– القارئ : الَّذِي تَقَعُ فِيهِ أَفْعَالُ الْعِبَادِ عَلَى تَفَاوُتِ أَحْوَالِهِمْ، فَقَالَ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىْ أَيْ: يَعُمُّ الْخَلْقَ بِظَلَامِهِ، فَيَسْكُنُ كُلٌّ إِلَى مَأْوَاهُ وَمَسْكَنِهِ، وَيَسْتَرِيحُ الْعِبَادُ مِنَ الْكَدِّ وَالتَّعَبِ.
{وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} لِلْخَلْقِ، فَاسْتَضَاءُوا بِنُورِهِ، وَانْتَشَرُوا فِي مَصَالِحِهِمْ.
{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} إِنْ كَانَتْ "مَا" مَوْصُولَةً، كَانَ إِقْسَامًا بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ الْمَوْصُوفَةِ، بِكَوْنِهِ خَالِقَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَإِنْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً، كَانَ قَسَمًا بِخَلْقِهِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ فِي ذَلِكَ أَنْ خَلَقَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُرِيدُ بَقَاءَهَا ذَكَرًا وَأُنْثَى؛ لِيَبْقَى النَّوْعُ وَلَا يَضْمَحِلَّ، وَقَادَ كُلًّا مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ بِسِلْسِلَةِ الشَّهْوَةِ، وَجَعَلَ كُلًّا مِنْهُمَا مُنَاسِبًا لِلْآخَرِ، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ أَيْ: إِنَّ سَعْيَكُمْ أَيُّهَا الْمُكَلَّفُونَ لِمُتَفَاوِتٌ تَفَاوُتًا كَثِيرًا، وَذَلِكَ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ نَفْسِ الْأَعْمَالِ وَمِقْدَارِهَا وَالنَّشَاطِ فِيهَا، وَبِحَسَبِ الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ، هَلْ هُوَ وَجْهُ اللَّهِ الْأَعْلَى الْبَاقِي؟ فَيَبْقَى الْعَمَلُ لَهُ بِبَقَائِهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُهُ، أَمْ هِيَ غَايَةٌ مُضْمَحِلَّةٌ فَانِيَةٌ، فَيَبْطُلُ السَّعْيُ بِبُطْلَانِهَا، وَيَضْمَحِلُّ بِاضْمِحْلَالِهَا؟
– الشيخ : يعني مَن كان عملُه صالحًا لوجه الله كان حقيقًا بالبقاء والدوام وحسنِ الأثرِ؛ لأنه متعلِّق بوجهِ الله الباقي، وإن كان لغرضٍ من أغراض الدنيا فمآلُه إلى الذهابِ والاضمحلالِ كما هو شأنُ الغاية التي قُصِدَ بها، لفتةٌ حسنةٌ!
– القارئ : وَهَذَا كُلُّ عَمَلٍ يُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، بِهَذَا الْوَصْفِ، وَلِهَذَا فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَامِلِينَ، وَوَصَفَ أَعْمَالَهُمْ، فَقَالَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} أَيْ: مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ، كَالزِّكَوَاتِ، وَالنَّفَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَالصَّدَقَاتِ، وَالْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، وَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا. وَالْمُرَكَّبَةِ مِنْ ذَلِكَ، كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَنَحْوِهُمَا، وَاتَّقَى مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَعَاصِي، عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا.
{وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أَيْ: صَدَّقَ بِـ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ" وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، مِنْ جَمِيعِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مِنَ الْجَزَاءِ الْأُخْرَوِيِّ.
{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىْ} أَيْ: نُيَسِّرُ لَهُ أَمْرَهُ، وَنَجْعَلُهُ مُسَهَّلًا لَهُ كُلُّ خَيْرٍ، مُيَسِّرًا لَهُ تَرْكُ كُلِّ شَرٍّ، لِأَنَّهُ أَتَى بِأَسْبَابِ التَّيْسِيرِ، فَيَسَّرَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ.
{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَتَرَكَ الْإِنْفَاقَ الْوَاجِبَ وَالْمُسْتَحَبَّ، وَلَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِأَدَاءِ مَا وَجَبَ لِلَّهِ، {وَاسْتَغْنَى} عَنِ اللَّهِ، فَتَرَكَ عُبُودِيَّتَهُ جَانِبًا، وَلَمْ يَرَ نَفْسَهُ مُفْتَقِرَةً غَايَةَ الِافْتِقَارِ إِلَى رَبِّهَا، الَّذِي لَا نَجَاةَ لَهَا وَلَا فَوْزَ وَلَا فَلَاحَ، إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ هُوَ مَحْبُوبُهَا وَمَعْبُودُهَا، الَّذِي تَقْصِدُهُ وَتَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ.
{وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أَيْ: بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ التَّصْدِيقَ بِهِ مِنَ الْعَقَائِدِ الْحَسَنَةِ.
{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أَيْ: لِلْحَالَةِ الْعَسِرَةِ، وَالْخِصَالِ الذَّمِيمَةِ، بِأَنْ يَكُونَ مُيَسَّرًا لِلشَّرِّ أَيْنَمَا كَانَ، وَمُقَيَّضًا لَهُ أَفْعَالُ الْمَعَاصِي، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
{وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ} الَّذِي أَطْغَاهُ وَاسْتَغْنَى بِهِ، وَبَخِلَ بِهِ إِذَا هَلَكَ وَمَاتَ، فَإِنَّهُ لَا يَصْحَبُ الْإِنْسَانَ إِلَّا عَمَلُهُ الصَّالِحُ، وَأَمَّا مَالُهُ الَّذِي لَمْ يُخْرِجْ مِنْهُ الْوَاجِبَ فَإِنَّهُ يَكُونُ وَبَالًا عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يُقَدِّمْ مِنْهُ لِآخِرَتِهِ شَيْئًا.
{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} أَيْ: إِنَّ الْهُدَى الْمُسْتَقِيمَ طَرِيقُهُ، يُوَصِّلُ إِلَى اللَّهِ، وَيُدْنِي مِنْ رِضَاهُ، وَأَمَّا الضَّلَالُ، فَطُرُقٌ مَسْدُودَةٌ عَنِ اللَّهِ، لَا تُوَصِّلُ صَاحِبَهَا إِلَّا لِلْعَذَابِ الشَّدِيدِ.
{وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} مِلْكًا وَتَصَرُّفًا، لَيْسَ لَهُ فِيهِمَا مُشَارِكٌ، فَلْيَرْغَبِ الرَّاغِبُونَ إِلَيْهِ فِي الطَّلَبِ، وَلْيَنْقَطِعْ رَجَاؤُهُمْ عَنِ الْمَخْلُوقِينَ.
{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} أَيْ: تَسْتَعِرُ وَتَتَوَقَّدُ.
{لا يَصْلاهَا إِلا الْأَشْقَى} الَّذِي كَذَّبَ بِالْخَبَرِ وَتَوَلَّى عَنِ الْأَمْرِ.
{وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} بِأَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ بِهِ تَزْكِيَةُ نَفْسِهِ، وَتَطْهِيرُهَا مِنَ الذُّنُوبِ وَالْأَدْنَاسِ، قَاصِدًا بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَضَمَّنَ الْإِنْفَاقُ الْمُسْتَحَبُّ تَرْكَ وَاجِبٍ، كَدَيْنٍ وَنَفَقَةٍ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، بَلْ تَكُونُ عَطِيَّتُهُ مَرْدُودَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ،
– الشيخ : هذه مسألةٌ معروفةٌ وهي أن مَن عليه دَينٌ يُطالَب به فإنه لا يصحُّ منه أن يتصدق، لا يتصدَّق ولا يتبرع، لأنَّ الدين واجبٌ، والتبرُّعات والصدقات المستحبّة هذه نافلةٌ وتطوعٌ، فهو كمَن يصلي الرواتب ويُفرِّطُ في الفريضة، يصلي الرواتب ولكنه يتهاونُ بالفرائض، فمَن عليه دينٌ يجب عليه أن يؤدِّي الدين ولا يتبرَّع، فهي مسألة مهمةٌ ينبغي التنبُّه لها والتنبيهُ عليها.
– القارئ : لِأَنَّهُ لَا يَتَزَكَّى بِفِعْلٍ مُسْتَحَبٍّ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ الْوَاجِبَ.
{وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} أَيْ: لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى هَذَا الْأَتْقَى نِعْمَةٌ تُجْزَى إِلَّا وَقَدْ كَافَأَهُ عَلَيْهَا، وَرُبَّمَا بَقِيَ لَهُ الْفَضْلُ وَالْمِنَّةُ عَلَى النَّاسِ، فَتَمَحَّضَ عَبْدًا لِلَّهِ؛ لِأَنَّهُ رَقِيقُ إِحْسَانِهِ وَحْدَهُ، وَأَمَّا مَنْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ نِعْمَةُ النَّاسِ فلَمْ يَجْزْهَا وَيُكَافِئْهَا، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتْرُكَ لِلنَّاسِ، وَيَفْعَلَ لَهُمْ مَا يَنْقُصُ إِخْلَاصُهُ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَنَاوِلَةً لِأَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَلْ قَدْ قِيلَ إِنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِهِ، فَإِنَّهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، حَتَّى وَلَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا نِعْمَةَ الرَّسُولِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ جَزَاؤُهَا، وَهِيَ نِعْمَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَتَعْلِيمِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، فَإِنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْمِنَّةَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، مِنَّةٌ لَا يُمْكِنُ لَهَا جَزَاءٌ وَلَا مُقَابَلَةٌ، فَإِنَّهَا مُتَنَاوِلَةٌ لِكُلٍّ مَنِ اتُّصِفَ بِهَذَا الْوَصْفِ الْفَاضِلِ، فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ مِنَ الْخَلْقِ نِعْمَةٌ تُجْزَى، فَبَقِيَتْ أَعْمَالُهُ خَالِصَةً لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلِهَذَا قَالَ: {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} هَذَا الْأَتْقَى بِمَا يُعْطِيهِ اللَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ وَالْمَثُوبَاتِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. انتهى
– الشيخ : رحمه الله .