بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك
سورتي " الضحى – الشَّرح "
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:1-11]
– الشيخ : سورة أخرى، نعم
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:1-8]
– الشيخ : الحمد لله، هاتان سورتانِ، وهما مكيَّتان، وكلاهُما فيها امتنانٌ مِن الله على نبيِّهِ، افتُتحتِ الأولى بالقَسَم بالضُّحى والليل، والضُّحى وهو معروفٌ عندما ترتفع الشمس جدًّا، ويبدأ الضحى مِن ارتفاع الشمس إلى الزَّوال، إلى أن يقومَ قائمُ الظُّهيرة.
{وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الليل:1] يعني: إذا سكنَ، وهذا كما أقسمَ اللهُ في السُّورة التي قبلَها وقبلها بالليل والنهار، يقول -تعالى- لنبيِّه: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ما ترككَ وما أبغضكَ، وهذه السورة نزلت ردًّا على بعض المشركين الذين قال قائلُهم -لأنه توقَّفَ الوحيُ مدةً- فقال ذلك الكافرُ: "ما نرى شيطانك إلا ودَّعكَ، ما نرى شيطانك إلا ودَّعكَ"، يعنون بالشَّيطان الـملَكَ الذي يأتي الرسولَ بالوحي، فأقسمَ الله بالضُّحى والليل على كذبِ هؤلاء المفترين {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}.
{وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} وعدٌ مِن الله لنبيِّه بأن الله يعطيه في الآخرة مِن الخيرِ العظيم والمنازلِ العالية والثوابِ العظيم ما هو خيرٌ مما أعطاه في الدنيا، وقد أعطاه الله في الدنيا خيرًا عظيمًا وهو النُّبوة، وما أعطاه مِن الأخلاق الكريمة الخُلُق العظيم.
ثم يُذكّرُه الله، يُذَكِّرُ الله نبيَّه بنعمِه عليه في الدنيا {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى} ماتَ أبواهُ وهو صغيرٌ، جاء في السيرة أنَّ أباهُ ماتَ وهو حَمْلٌ ببطنِ أُمِّه، وماتتْ أُمُّهُ بعد ذلك، ماتتْ وله ستُّ سنين فيما أذكر، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى}.
{وَوَجَدَكَ ضَالًّا} يعني: ضالًّا لا تعلم شيئًا، كقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشوري:52] {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} وكقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3]
{وَوَجَدَكَ عَائِلًا} يعني: فقيرًا فَأَغْنَاكَ بما هيَّأ له -سبحانه وتعالى- من الأسباب التي جبرَ الله بها يُتْمَهُ، فكفلَهُ جدُّهُ أولًا ثم كفلَهُ عمُّهُ أبو طالب، ثم أمر اللهُ نبيَّه أن مِن شكر هذه النعمة أن ترحمَ اليتيمَ وترفقَ باليتيمِ {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} فلا تقهرْهُ بالاستيلاء على حقوقِه، مالِه أو بظلمِه، وهذه وصيةٌ للنبي ولغيرِه من المؤمنين، {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ}.
{وَأَمَّا السَّائِلَ} سائلُ المال أو سائلُ العلم {فَلَا تَنْهَرْ}.
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وأعظمُ النعمة التي أمرَ الله نبيَّه بالتحديثِ بها نعمة العلم يأمرُه الله بأن يُعَلِّمَ ويُبَيِّنَ ويُبَلِّغَ، {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.
وهكذا السورةُ الأخرى فيها امتنانٌ مِن الله على نبيِّه {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} شَرْحُ الصدرِ: توسعتُه حتى يتَّسِعَ لِمَا يُلْقَى إليه مِن العلم والوحي {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}.
{وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} غفرَ اللهُ له -صلى الله عليه وسلم- ذنبَهُ ما تقدَّمَ وما تأخَّرَ، {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} رفعَ اللهُ ذِكْرَه وأعلى قدرَه حتى كان -عليه الصلاة والسلام- يُذكَر مع ذِكْرِ الله في التشهُّدِ وفي الأذان وفي الإقامة، "أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله"، {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}.
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} وعدٌ مِن الله بتيسيرِ ما عَسُرَ عليه صلى الله عليه وسلم، وهو وعدٌ لأمتِه كذلك، {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} قال العلماء: إنَّ هذا يتضمَّنَ أنَّ العُسْرَ يعقبُهُ يسرانِ؛ لأنه أعاد اليُسرَ مُنَكَّرًا فهو شيءٌ آخر، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.
ثم قال -تعالى- آمرًا نبيَّه أن يقبلَ على عبادة ربِّه {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ}، {فَانْصَبْ} في عبادة ربِّك وتبليغِ رسالتِه {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} يعني: إليه توجَّهْ بطلب ما تريد، توجَّه إلى الله وحدَه، إلى الله فارغبْ، الرغبةُ إليه -تعالى- لا إلى غيره، كما يُفيدُهُ تقديمُ الجار والمجرور، يقولُ أهلُ البلاغة: إنَّ هذا يفيدُ الحصرَ، {إلى ربِّكَ} دون غيره، أو لا إلى غيرِه {فَارْغَبْ} ارغبْ إليه بطلبِ ما تحبُّ مِن خيرِ الدنيا والآخرة.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى-:
قال الله تعالى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} الآيات:
أَقْسَمَ تَعَالَى بِالنَّهَارِ إِذَا انْتَشَرَ ضِيَاؤُهُ بِالضُّحَى، وَبِاللَّيْلِ إِذَا سَجَى وَادْلَهَمَّتْ ظُلْمَتُهُ، عَلَى اعْتِنَاءِ اللَّهِ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقال {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} أَيْ: مَا تَرَكَكَ مُنْذُ اعْتَنَى بِكَ، وَلَا أَهْمَلَكَ مُنْذُ رَبَّاكَ وَرَعَاكَ، بَلْ لَمْ يَزَلْ يُرَبِّيكَ أَكْمَلَ تَرْبِيَةً، وَيُعْلِيكَ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ.
وَمَا قَلاك اللَّهُ أَيْ: مَا أَبْغَضَكَ مُنْذُ أَحَبَّكَ، فَإِنَّ نَفْيَ الضِّدِّ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ ضِدِّهِ، وَالنَّفْيُ الْمَحْضُ لَا يَكُونُ مَدْحًا، إِلَّا إِذَا تَضَمَّنَ ثُبُوتَ كَمَالٍ، فَهَذِهِ حَالُ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَاضِيَةُ وَالْحَاضِرَةُ، أَكْمَلُ حَالٍ وَأَتَمُّهَا، مَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُ وَاسْتِمْرَارُهَا، وَتَرْقِيَتُهُ فِي دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، وَدَوَامِ اعْتِنَاءِ اللَّهِ بِهِ.
وَأَمَّا حَالُهُ الْمُسْتَقْبَلَةُ، فَقَالَ: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} أَيْ: كُلُّ حَالَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ مِنْ أَحْوَالِكَ، فَإِنَّ لَهَا الْفَضْلَ عَلَى الْحَالَةِ السَّابِقَةِ.
فَلَمْ يَزَلْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصْعَدُ فِي دَرَجِ الْمَعَالِي وَيُمَكِّنُ اللَّهُ لَهُ دِينَهُ، وَيَنْصُرُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَيُسَدِّدُهُ أَحْوَالَهُ، حَتَّى مَاتَ وَقَدْ وَصَلَ إِلَى حَالٍ مَا يَصِلُ إِلَيْهَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالنِّعَمِ، وَقُرَّةِ الْعَيْنِ وَسُرُورِ الْقَلْبِ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَسْأَلُ عَنْ حَالِهِ فِي الْآخِرَةِ، مِنْ تَفَاصِيلِ الْإِكْرَامِ، وَأَنْوَاعِ الْإِنْعَامِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِغَيْرِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ الْجَامِعَةِ الشَّامِلَةِ.
ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْهِ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَحْوَالِهِ الْخَاصَّةِ فَقَالَ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} أَيْ: وَجَدَكَ لَا أُمَّ لَكَ، وَلَا أَبَ، بَلْ قَدْ مَاتَ أَبُوهُ وَأَمُّهُ وَهُوَ لَا يُدَبِّرُ نَفْسَهُ، فَآوَاهُ اللَّهُ، وَكَفَّلَهُ جَدُّهُ عَبَدُ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ جَدُّهُ كَفَّلَهُ اللهُ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ، حَتَّى أَيَّدَهُ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ.
{وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى} أَيْ: وَجَدَكَ لَا تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، فَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمْ، وَوَفَّقَكَ لِأَحْسَنِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ.
{وَوَجَدَكَ عَائِلًا} أَيْ: فَقِيرًا فَأَغْنَى بِمَا فَتَحَ عَلَيْكَ مِنَ الْبُلْدَانِ، الَّتِي جُبِيَتْ لَكَ أَمْوَالُهَا وَخِرَاجُهَا.
فَالَّذِي أَزَالَ عَنْكَ هَذِهِ النَّقَائِصَ، سَيُزِيلُ عَنْكَ كُلَّ نَقْصٍ، وَالَّذِي أَوْصَلَكَ إِلَى الْغِنَى، وَآوَاكَ وَنَصَرَكَ وَهَدَاكَ قَابِلْ نِعْمَتَهُ بِالشُّكْرَانِ.
وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} أَيْ: لَا تُسِئْ مُعَامَلَةَ الْيَتِيمِ، وَلَا يَضِقْ صَدْرُكُ عَلَيْهِ، وَلَا تَنْهَرْهُ، بَلْ أَكْرِمْهُ، وَأَعْطِهِ مَا تَيَسَّرَ، وَاصْنَعْ بِهِ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُصْنَعَ بِوَلَدِكَ مِنْ بَعْدِكَ.
{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} أَيْ: لَا يَصْدُرُ مِنْكَ كَلَامٌ لِلسَّائِلِ يَقْتَضِي رَدَّهُ عَنْ مَطْلُوبِهِ، بِنَهَرٍ وَشَرَاسَةِ خُلُقٍ، بَلْ أَعْطِهِ مَا تَيَسَّرَ عِنْدَكَ أَوْ رُدَّهُ بِمَعْرُوفٍ وَإِحْسَانٍ.
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا السَّائِلُ لِلْمَالِ، وَالسَّائِلُ لِلْعِلْمِ، وَلِهَذَا كَانَ الْمُعَلِّمُ مَأْمُورًا بِحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ الْمُتَعَلِّمِ، وَمُبَاشَرَتِهِ بِالْإِكْرَامِ وَالتَّحَنُّنِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَعُونَةً لَهُ عَلَى مَقْصِدِهِ، وَإِكْرَامًا لِمَنْ كَانَ يَسْعَى فِي نَفْعِ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ.
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} وَهَذَا يَشْمَلُ النِّعَمَ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ أَيْ: أَثْنِ عَلَى اللَّهِ بِهَا، وَخُصَّهَا بِالذِّكْرِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ. وَإِلَّا فَحَدِّثَ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّ التَّحَدُّثَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ، دَاعٍ لِشُكْرِهَا، وَمُوجِبٌ لِتَحْبِيبِ الْقُلُوبِ إِلَى مَنْ أَنْعَمَ بِهَا، فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مَحَبَّةِ الْمُحْسِنِ.
انتهت السورة، ثم قال رحمه الله:
تَفْسِيرُ سُورَةِ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} الآيات:
يَقُولُ تَعَالَى -مُمْتَنًّا عَلَى رَسُولِهِ-: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} أَيْ: نُوَسِّعُهُ لِشَرَائِعِ الدِّينِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَالِاتِّصَافِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ، وَتَسْهِيلِ الْخَيِّرَاتِ فَلَمْ يَكُنْ ضَيِّقًا حَرِجًا، حتى لَا يَكَادُ يَنْقَادُ لِخَيْرٍ، وَلَا تَكَادُ تَجِدُهُ مُنْبَسِطًا.
{وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} أَيْ: ذَنْبَكَ، {الَّذِي أَنْقَضَ} أَيْ: أَثْقَلَ {ظَهْرَكَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} أَيْ: أَعْلَيْنَا قَدْرَكَ، وَجَعَلْنَا لَكَ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ الْعَالِيَ، الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ، فَلَا يُذْكَرُ اللَّهُ إِلَّا ذُكِرَ مَعَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ،
– الشيخ : يعني الكافر إذا أراد الدخولَ في الإسلامِ يَستشهدُ الشهادتَيْنِ: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فهذا مِن مواضع اقترانِ ذِكْرِ الرسولِ بذكر الله.
– القارئ : وفي الأذانِ، والإقامةِ، والخُطَبِ، وغيرِ ذلكَ
– الشيخ : وبالتشهُّد كذلك في "التحياتُ لله" إلى آخره
– القارئ : وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَعْلَى اللَّهُ بِهَا ذِكْرَ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَهُ فِي قُلُوبِ أُمَّتِهِ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ، بَعْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِهِ أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ.
وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ، أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ عُسْرٌ وَصُعُوبَةٌ، فَإِنَّ الْيُسْرَ يُقَارِنُهُ وَيُصَاحِبُهُ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ الْعُسْرُ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلَ عَلَيْهِ الْيُسْرُ فَأَخْرَجَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7] وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَإِنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا).
وَتَعْرِيفُ "الْعُسْر" فِي الْآيَتَيْنِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَتَنْكِيرُ "الْيُسْرِ" يَدُلُّ عَلَى تَكْرَارِهِ، فَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ.
وَفِي تَعْرِيفِهِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، الدَّالِّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ وَالْعُمُومِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عُسْرٍ -وَإِنْ بَلَغَ مِنَ الصُّعُوبَةِ مَا بَلَغَ- فَإِنَّهُ فِي آخِرِهِ التَّيْسِيرُ مُلَازِمٌ لَهُ.
ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَصْلًا وَالْمُؤْمِنِينَ تَبَعًا، بِشُكْرِهِ وَالْقِيَامِ بِوَاجِبِ نِعَمِهِ، فَقَالَ: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} أَيْ: إِذَا تَفَرَّغْتَ مِنْ أَشْغَالِكَ، وَلَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِكَ مَا يَعُوقُهُ، فَاجْتَهِدْ فِي الْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ.
{وَإِلَى رَبِّكَ} وَحْدَهُ {فَارْغَبْ} أَيْ: أَعْظِمِ الرَّغْبَةَ فِي إِجَابَةِ دُعَائِكَ وَقَبُولِ دَعَوَاتِكَ، وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ إِذَا فَرَغُوا لَعِبُوا وَأَعْرَضُوا عَنْ رَبِّهِمْ وَعَنْ ذِكْرِهِ، فَتَكُونُ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى هَذَا: {فَإِذَا فَرَغْتَ} مِنَ الصَّلَاةِ وَأَكْمَلْتَهَا {فَانْصَبْ} فِي الدُّعَاءِ {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} فِي سُؤَالِ مُطَالِبِكَ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ، عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. تـَمَّتْ والحمدُ لله. انتهى
– الشيخ : أحسنتَ
– القارئ : أحسن الله إليك.