سورة التين وسورة العلق

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك

سورتي " التين – العلق "

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين:1-8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:1-19]

– الشيخ : اللهم صلِّ وسلم على عبدك.

الحمد لله، سورةُ التين مكيَّةٌ، افتُتحتْ بالقَسَمِ مِن اللهِ، كالسورِ المتقدمة، أقسمَ الله فيها بــ {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ}، قيل: إنَّ المراد التينُ المأكولُ الثمرة، والزيتونُ كذلك الثمرةُ المعروفة، وهما مِن أفضلِ الثِّمَار، وقيل: إنَّ المراد الإقسامُ بمنبتِهِمَا وهي الأرضُ التي خرجَ فيها عيسى -عليه السلام- في الشامِ، كما أقسمَ بالطُّور الذي كلَّمَ الله عليه موسى، وأقسم بــ {الْبَلَدِ الْأَمِينِ} التي أخرجَ منها وبعثَ فيها خاتمَ النبيينَ محمَّدًا –صلى الله عليه وسلم- فيكونُ على هذا أنَّ الله أقسمَ بمواضعِ النُّبوة، بالمواضع التي جرتْ أو خرجتْ فيها النبواتُ الثلاثُ والرسالاتُ والشرائعُ الثلاث: موسى وعيسى ثم محمَّدٌ -صلى الله عليهم وسلم-، ولعلَّ هذا أقربُ لذكِرِ الطورِ والْبَلَدِ الْأَمِينِ.

وجوابُ القَسَم: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} يعني: أقسمَ اللهُ بهذه الأمورِ الثلاثة على قولِهِ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ}، {خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} في صورتِهِ وهيئتِهِ وخلقتِهِ، خلقَ اللهُ الإنسانَ هذه الخِلقةَ المتميزةَ عن سائر الأحياء عن الحيواناتِ فجعلَ هيئتَه قائمًا، شخصًا قائمًا، وبصورةٍ كما شاء سبحانه، {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6-8] جعلَ له هذه القُوَى: السمعُ والبصرُ والفؤادُ، وجعلَ له لسانًا وشفتينِ، وجعلَ له عقلًا وجعلَهُ يتكلَّمُ ويُبِيْنُ عمَّا في نفسه.

قال الله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} قالُ بعض المفسرين: المراد به رَدُّهُ إلى أرذلِ العمر، وقال كثيرٌ من المفسرين: المراد ردُّ الكافر إلى أسفلِ سافلين في النار، ورُجِّحَ هذا لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} فهؤلاء مُسْتَثْنَونَ، أمَّا الكِبَرُ والـهَرَمُ فإنه يحصلُ للبَرِّ والفاجرِ، الـهَرَمُ والرَّدُّ إلى أرذلِ العمرِ يَعرِضُ للإنسانِ سواء كان بَرًّا أو فاجرًا، {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي: غيرُ مقطوعٍ بلْ هو أجرٌ دائمٌ في جناتِ الخلودِ، نسألُ اللهَ مِن فضلِهِ.

{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} هذا توبيخٌ للكافر، ما الذي يكذبُكَ بالدِّين؟ أي: بالجزاءِ، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} هو -سبحانه وتعالى- أحكمُ الحاكمين، وحُكْمُهُ أعدلُ حُكْمٍ، وحكمُهُ -تعالى- أعدلُ حكمٍ، وهو الذي له الحكمُ كلُّهُ، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]

ثم السورةُ التي بعدها: سورةُ العلق:

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} والآياتُ الأولى منها هي أولُ ما نزلَ مِن القرآنِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} هذه الآيات نزلتْ على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في الغارِ عندما جاءَه الملَكُ وألقَى إليه هذه الآياتِ فقرأهَا عليه الصلاة والسلام، فهذه أولُ ما نزلَ مِن هذا الكتابِ العظيمِ، كما جاء في الصحيح. {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} خلقَ كلَّ شيء، فكلُّ شيء في هذا الوجود فاللهُ خالقه، لا خالقَ غيره.

ثم خصَّ الإنسان فقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} والعَلَقُ: هو الدمُ الجامد وهو الطَّوْرُ الثاني مِن أطوار الإنسان في رحمِ أُمِّهِ، {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون:14] فهذا هو الطَّوْرُ الثَّاني {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}.

{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} هو أكرمُ الأكرمينَ سبحانه وتعالى، وهو الأعلمُ وهو الأرحمُ وهو أرحمُ الراحمين وأكرمُ الأكرمين وأجودُ الأجودين سبحانه وتعالى، {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}.

{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} أي: المرادُ تعليمُ الكتابة، والكتابةُ لا شكَّ أنَّها علمٌ عظيمٌ وهو وسيلةٌ إلى منافع عظيمة في هذه الحياة، ولهذا أقسمَ اللهُ بالقلمِ في سورة: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [ن:1] {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}.

{عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} يعني: علَّمَ الإنسانَ ما لم يكنْ عَلِمَهُ قبلَ تعليمِ اللهِ، {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} يعني: ما لمْ يعلمْهُ مِن قبلُ، حتى قالَ اللهُ لنبيه: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113] {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}، فعلَّمَهُ مِن علمِ الوحي وعلمِ الغيب ما لم يكن يعلمُه من قبل.

ثم قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} "كلا" تأتي للدَّلالةِ على الزَّجْرِ والرَّدْع، إذا جاءتْ بعدَ ذكرِ بعض أقوالِ الكفار فإنَّه يأتي "كلَّا" زجرًا وردعًا لهم وردًّا لباطلِهم، وتأتي بمعنى "حقًّا" {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} ولعلَّ هذا أقربُ أو هي محتملَة، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} أي: يتجاوزُ حدَّهُ بالكفر والمعاصي والكِبْرِ والظلمِ للعباد {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} وقد قيلَ: إنَّها نزلتْ -هذه الآيات- بعدُ، هذه الآيات نزلَتْ بعد، وهي في أحدِ طواغيتِ المشركين وشرُّهُم: أبو جهل.

{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى(6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} يعني: إليهِ العودة، يعودُ الناس إليه سبحانه وتعالى، إذا ماتُوا رجعُوا إلى الله، ثم رجعُوا إليه بالبعث، {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28] فيرجعُ الناسُ إلى الله ليُنَبِّئَهُم بأعمالِهم ويجزيهِم عليها سبحانه وتعالى.

{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى} بعضُ شِرارُ المشركين كانوا يَنهون النبي –عليه الصلاة والسلام- ويُهدِّدونه ويؤذونه ويَنهونه عن الصلاةِ التي شرعَها الله له، حتى أنهم في مرةٍ مِن المرات كان يُصلي -عليه الصلاة والسلام- فجاء أحد المشركين الأشقياء فوضعَ سَلَى الجَزورِ على ظهرِه عليه الصلاة والسلام.

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} والرسولُ –صلى الله عليه وسلم- هو كذلك على الهدى ويأمرُ بالحقِّ ويأمرُ بالتقوى، فلا يمنعُه مِن ذلك إلا مَن هو مِن شِرارِ الخلق. {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى}

{أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} هذا الكافرُ والفاجر، كذَّب وتولى {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} الله يراهُ، فيرى ما يحصلُ منه، فيرى عملَه ويرى ما يحصلُ منه مِن ظُلمٍ وعُدوانٍ وطُغيانٍ.

{كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ} يعني: نأخذُهُ، نأخذُ بناصيتِهِ وهو مُقَدَّمُ الرأس، {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} عن كفرِه وطغيانِه وعدوانِه وظلمِه {لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} هذا تعبيرٌ عن صاحبِ هذه الناصيةِ كاذبٌ خاطئٌ، {كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} وفي هذا تهديدٌ، {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ} أمرٌ مِن اللهِ لنبيِّهِ ألا يطيعَ هذا الطَّاغي المشرك كأبي جهل،  {لَا تُطِعْهُ} بلْ صلِّ لربكَ وتقرِّبْ إليه {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} اقتربْ إلى الله، وتقرَّب إليه بما شرعَ لك مِن الصلاة، {لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} والله -تعالى- ينهى نبيَّه في آياتٍ عن طاعة الكفار، {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:48،1] {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:11،10] لأنَّهم يدعونَهُ تارةً إلى ترك الدعوة، وتارةً يدعونَه إلى تَرْكِ الصلاة، تارة يدعونه إلى تَرْكِ مجالسةِ فقراءِ المسلمين.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:

تفسير سورة التين، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} الآيات:

{والتين} هُوَ التِّينُ الْمَعْرُوفُ، وَكَذَلِكَ "الزَّيْتُونَ" أَقْسَمَ بِهَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ، لِكَثْرَةِ مَنَافِعِ شَجَرِهِمَا وَثَمَرِهِمَا، وَلِأَنَّ سُلْطَانَهُمَا فِي أَرْضِ الشَّامِ، مَحَلِّ نُبُوَّةِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ

– الشيخ : "وَلِأَنَّ سُلْطَانَهُمَا"؟

القارئ : نعم

– الشيخ : يعني أكثرُ ما تَنبتُ هناك.

– القارئ : وَلِأَنَّ سُلْطَانَهُمَا فِي أَرْضِ الشَّامِ، مَحَلِّ نُبُوَّةِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

{وَطُورِ سِينِينَ} أَيْ: طُورُ سَيْنَاءَ، مَحَلُّ نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ وَهِيَ: مَكَّةُ الْمُكَرَّمَةُ، مَحَلُّ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَقْسَمَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمُقَدَّسَةِ، الَّتِي اخْتَارَهَا وَابْتَعَثَ مِنْهَا أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَشْرَفَهُمْ.

وَالْمَقْسَمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}

– الشيخ : الـمُقسَمُ عليه هو الذي يُقالُ له: جوابُ القَسم

– القارئ : وَالْمَقْسَمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أَيْ: تَامُّ الْخَلْقِ، مُتَنَاسِبُ الْأَعْضَاءِ، مُنْتَصِبُ الْقَامَةِ، لَمْ يَفْقُدْ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا شَيْئًا، وَمَعَ هَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، الَّتِي يَنْبَغِي مِنْهُ الْقِيَامُ بِشُكْرِهَا، فَأَكْثَرُ الْخَلْقِ مُنْحَرِفُونَ عَنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، مُشْتَغِلُونَ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، قَدْ رَضَوْا لِأَنْفُسِهِمْ بِأَسَافِلَ الْأُمُورِ، وَسَفْسَافِ الْأَخْلَاقِ،

– الشيخ : نسأل الله العافية، هذا خِذلان، خِذلان وضلالٌ مبينٌ، أن يخلقَ الله الإنسانَ لعبادتِه ويحسن خلقَه ويُمدُّهُ بأنواع النِّعَم ثم يستعملُ نِعَمِ الله في المخالفاتِ، ويتبعُ هواهُ، ويُؤثرُ الدنيا على الآخرة، هذه حالُ أكثر الخلق، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [الرعد:1] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [يوسف:38] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [الأعراف:187] نسأل الله العافية، وبهذا يَعلم المسلم أن الله أنعمَ عليه بنعمةٍ عظيمةٍ اختصَّه بها وفضَّله بها على غيره ألا وهي أنْ جعلَهُ مسلمًا، فليشكرِ المسلم نعمةَ الله وليستقمْ على دينِ الله محافظًا على فرائضِ الله مُستكثرًا مِن نوافلِ الطاعات متقرِّبًا إلى الله بمحابِّهِ خائفًا راجيًا متوكلًا على ربِّه، نسأل الله الهدايةَ والاستقامةَ والثباتَ.

 

– القارئ : فَرَدَّهُمُ اللَّهُ {فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ} أَيْ: أَسْفَلِ النَّارِ، مَوْضِعِ الْعُصَاةِ الْمُتَمَرِّدِينَ عَلَى رَبِّهِمْ، إِلَّا مَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الْعَالِيَةِ، {فَلَهُمْ} بِذَلِكَ الْمُنَازِلَ الْعَالِيَةُ، وَ {أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أَيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ، بَلْ لَذَّاتٌ مُتَوَافِرَةٌ، وَأَفْرَاحٌ مُتَوَاتِرَةٌ، وَنِعَمٌ مُتَكَاثِرَةٌ، فِي أَبَدٍ لَا يَزُولُ، وَنَعِيمٍ لَا يُحَوَّلُ، أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا.

{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يُكَذِّبُكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَقَدْ رَأَيْتَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الْكَثِيرَةِ مَا بِهِ يَحْصُلُ لَكَ بِهِ الْيَقِينُ، وَمِنْ نِعَمِهِ مَا يُوجِبُ عَلَيْكَ أَنْ لَا تَكْفُرَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فَهَلْ تَقْتَضِي حِكْمَتُهُ أَنْ يَتْرُكَ الْخَلْقَ سُدًى لَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ، وَلَا يُثَابُونَ وَلَا يُعَاقَبُونَ؟

أَمِ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ أَطْوَارًا بَعْدَ أَطْوَارٍ، وَأَوْصَلَ إِلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ وَالْخَيْرِ وَالْبِرِّ مَا لَا يُحْصُونَهُ، وَرَبَّاهُمُ التَّرْبِيَةَ الْحَسَنَةَ، لَا بُدَّ أَنْ يُعِيدَهُمْ إِلَى دَارٍ هِيَ مُسْتَقَرُّهُمْ وَغَايَتُهُمُ الَّتِي إِلَيْهَا يَقْصِدُونَ، وَنَحْوُهَا يَومُّونَ.

تَمَّ تفسيرُ سورةِ التِّينِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

تَفْسِيرُ سُورَةِ اقْرَأْ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} الآيات:

هَذِهِ السُّورَةُ أَوَّلُ السُّوَرِ الْقُرْآنِيَّةِ نُزُولًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فَإِنَّهَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ فِي مَبَادِئِ النُّبُوَّةِ، إِذْ كَانَ لَا يَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالرِّسَالَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ، فَامْتَنَعَ، وَقَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَرَأَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} عُمُومَ الْخَلْقِ، ثُمَّ خَصَّ الْإِنْسَانَ، وَذَكَرَ ابْتِدَاءَ خَلْقِهِ مِنْ عَلَقٍ فَالَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَاعْتَنَى بِتَدْبِيرِهِ، لَا بُدَّ أَنْ يُدَبِّرَهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَذَلِكَ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَلِهَذَا أَتَى بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ، بِخَلْقِهِ لِلْإِنْسَانِ.

ثُمَّ قَالَ: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} أَيْ: كَثِيرُ الصِّفَاتِ وَاسِعُهَا، كَثِيرُ الْكَرَمِ وَالْإِحْسَانِ، وَاسِعُ الْجُودِ، الَّذِي مِنْ كَرَمِهِ أَنْ عَلَّمَ أَنْوَاعَ الْعُلُومِ.

وَ {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا، وَجَعَلَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ، وَيَسَّرَ لَهُ أَسْبَابَ الْعِلْمِ. فَعَلَّمَهُ الْقُرْآنَ، وَعَلَمَّهُ الْحِكْمَةَ، وَعَلَّمَهُ بِالْقَلَمِ الَّذِي بِهِ تُحْفَظُ الْعُلُومُ، وَتُضْبَطُ الْحُقُوقُ، وَتَكُونُ رُسُلًا لِلنَّاسِ تَنُوبُ مَنَابَ خِطَابِهِمْ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، الَّذِي أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بِهَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي لَا يَقْدِرُونَ لَهَا عَلَى جَزَاءٍ وَلَا شُكُورٍ، ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْغِنَى وَسَعَةِ الرِّزْقِ، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ -لِجَهْلِهِ وَظُلْمِهِ- إِذَا رَأَى نَفْسَهُ غَنِيًّا، طَغَى وَبَغَى وَتَجَبَّرَ عَنِ الْهُدَى، وَنَسِيَ أَنَّ لِرَبِّهِ الرُّجْعَى، وَلَمْ يُخِفِ الْجَزَاءَ، بَلْ رُبَّمَا وَصَلَتْ بِهِ الْحَالُ أَنَّهُ يَتْرُكُ الْهُدَى بِنَفْسِهِ، وَيَدْعُو غَيْرَهُ إِلَى تَرْكِهِ، فَيَنْهَى عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ. يَقُولُ اللَّهُ لِهَذَا الْمُتَمَرِّدِ الْعَاتِي: {أَرَأَيْتَ} أَيُّهَا النَّاهِي لِلْعَبْدِ إِذَا صَلَّى إِنْ كَانَ الْعَبْدُ الْمُصَلِّي عَلَى الْهُدَى الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِهِ، {أَوْ أَمَرَ} غَيْرَهُ {بِالتَّقْوَى}.

فَهَلْ يُحَسَنُ أَنْ يُنْهَى مَنْ هَذَا وَصْفُهُ؟ أَلَيْسَ نَهْيُهُ، مَنْ أَعْظَمِ الْمُحَادَّةِ لِلَّهِ، وَالْمُحَارَبَةِ لِلْحَقِّ؟ فَإِنَّ النَّهْيَ، لَا يَتَوَجَّهُ إِلَّا لِمَنْ هُوَ فِي نَفْسِهِ عَلَى غَيْرِ الْهُدَى، أَوْ كَانَ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِخِلَافِ التَّقْوَى.

{أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ} النَّاهِي بِالْحَقِّ {وَتَوَلَّى} عَنِ الْأَمْرِ، أَمَا يَخَافُ اللَّهَ وَيَخْشَى عِقَابَهُ؟

{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} مَا يَعْمَلُ وَيَفْعَلُ؟

ثُمَّ تَوَعَّدَهُ إِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ، فَقَالَ: كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عَمَّا يَقُولُ وَيَفْعَلُ {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} أَيْ: لِنَأْخُذُنَّ بِنَاصِيَتِهِ، أَخْذًا عَنِيفًا، وَهِيَ حَقِيقَةٌ بِذَلِكَ، فَإِنَّهَا {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} أَيْ: كَاذِبَةٌ فِي قَوْلِهَا، خَاطِئَةٌ فِي فِعْلِهَا.

{فَلْيَدْعُ} هَذَا الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ {نَادِيَهُ} أَيْ: أَهْلَ مَجْلِسِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ حَوْلَهُ، لِيُعِينُوهُ عَلَى مَا نَزَلَ بِهِ، {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} أَيْ: خَزَنَةَ جَهَنَّمَ، لِأَخْذِهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَيَّ الْفَرِيقَيْنِ أَقْوَى وَأَقْدَرَ؟

فَهَذِهِ حَالَةُ النَّاهِي وَمَا تَوَعَّدَ بِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَأَمَّا حَالَةُ الْمَنْهِيِّ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ لَا يَصْغَى إِلَى هَذَا النَّاهِي وَلَا يَنْقَادُ لِنَهْيِهِ فَقَالَ: {كَلا لا تُطِعْهُ} أَيْ: فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا فِيهِ الْخَسَارُ، {وَاسْجُدْ} لِرَبِّكَ {وَاقْتَرِبْ} مِنْهُ فِي السُّجُودِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، فَإِنَّهَا كُلَّهَا تُدْنِي مِنْ رِضَاهُ وَتُقَرِّبُ مِنْهُ.

وَهَذَا عَامٌّ لِكُلِّ نَاهٍ عَنِ الْخَيْرِ وَمَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ نَازِلَةً فِي شَأْنِ أَبِي جَهْلٍ حِينَ نَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ، وَعَبثَ بِهِ وَآذَاهُ.

تَمَّتْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

 تمَّ تفسيرُ سورةِ العَلَقِ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ. انتهى

– الشيخ : أحسنت، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله