بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك
سورتي " القدر – البيّنة "
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ من الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:1-5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:1-8]
– الشيخ : الحمدُ للهِ، سورةُ القدرِ، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} المرادُ إنزالُ القرآنِ، إنَّا أنزلْنا القرآنَ {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وهي ليلةٌ عظيمةٌ نوَّهَ اللهُ بشأنِها في هذه السُّورةِ {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} فذكرَ اللهُ من خصائص هذهِ اللَّيلةِ أنَّها ذاتُ قدرٍ، أنَّها ذاتُ منزلةٍ ورفعةٍ بينَ اللَّيالي وهي ذاتُ قدرٍ، يُقدَّرُ فيها ما يكونُ فيها من السَّنة من التَّقدير، ويشهدُ لذلك قولُه: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:2-5]
ومن شأنها أنَّه تنزلُ فيها الملائكةُ {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} والرُّوحُ المعروفُ أنَّه جبريلُ -عليه السَّلامُ-، كما جاءَ في آياتٍ عديدةٍ: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء:193-194]، {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} في تلك اللَّيلةِ، {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} ينزلون بالأوامرِ الكونيَّةِ والشَّرعيَّةِ، {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}.
{سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، {سَلَامٌ هِيَ} فهي سالمةٌ {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} وهذه غايتُها، ليلةُ القدرِ يدومُ فضلُها إلى طلوعِ الفجرِ، من غروبِ الشَّمسِ إلى طلوعِ الفجرِ {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.
ومن عظيمِ شأنِها أنَّ اللهَ أنزلَ فيها القرآنَ، وهي في رمضان، ليلةُ القدرِ في رمضان في العشرِ الأواخرِ كما دلَّتْ على ذلكَ السُّنَّةُ، وقالَ تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ} [البقرة:185]، فأُنزِلَ في ليلةِ القدرِ، وليلةُ القدرِ في رمضان، فصحَّ أنَّ القرآنَ نزلَ في رمضان، والمقصودُ ابتداءُ نزولِه، وإلَّا فقد نزلَ القرآنُ مفرَّقًا في أوقاتٍ مختلفةٍ.
ثمَّ بعدَ ذلكَ سورةُ البيِّنةِ، يخبرُ اللهُ فيها أنَّ الكفَّارَ لم يكونوا منفكِّين ومفترقين إلَّا بعدَ أن جاءَتهم البيِّنةُ {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} والبيِّنةُ هو الرَّسولُ، كما قالَ سبحانه: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} فسَّرَ البيِّنةَ بالرَّسولِ، {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}.
{رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} وهي الصُّحفُ الَّتي يُكتَبُ فيها القرآنُ، فالقرآنُ مكتوبٌ في صحفٍ في أيدي الملائكةِ، وصحف في أيدي المؤمنين {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} [عبس:11-15]، وقالَ هنا: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} مكتوبٌ في هذه الصُّحفِ أحكامٌ وعلومٌ وأخبارٌ وهداياتٌ منه سبحانَه وتعالى، {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}.
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} ما أُمِرَ النَّاسُ إلَّا ليعبدوا {اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} يعبدوه وحدَه لا شريكَ له، مخلصين في أعمالِهم للهِ تعالى، {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} فتضمَّنَتْ هذهِ الآيةُ ذكرَ ثلاثةٍ من أركانِ الإسلامِ، التَّوحيدُ والصَّلاةُ والزَّكاةُ، {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} دِينُ الـمِلَّةِ الْقَيِّمَةِ، هذا دِينُ الـمِلَّةِ الْقَيِّمَةِ.
ثمَّ ذكرَ حالَ النَّاسِ في هذا القرآنِ وفي دعوةِ الرُّسلِ -عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- فقالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} هذا مصيرُهم ومنتهاهم، {فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} فشرُّ البريَّةِ هم الكفَّارُ، هم شرُّ الخليقةِ؛ لكفرِهم باللهِ وما يصحبُ ذلك من المعاصي وأنواعِ الظُّلم، {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} فهؤلاء أولياءُ اللهِ وأولئك هم أعداءُ اللهِ، وقالَ في المؤمنين: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} خيرُ الخليقةِ المؤمنون الَّذين آمنُوا بالله ورسلِه وعملُوا الصَّالحاتِ، فقابلَ بينَ الفريقين، فهؤلاءِ خيرُ البريَّةِ، وأولئك شرُّ البريَّةِ، والمصيرُ مختلفٌ، فالكفَّارُ في نارِ جهنَّمَ خالدين فيها.
أمَّا المؤمنون فقالَ اللهُ فيهم: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} جَنَّاتُ عَدْنٍ أي: جنَّاتُ خلودٍ ودوامٍ وبقاءٍ {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} فأكرمَهم بكرامتين عظيمتين: رضوانه: وهو أكبرُ ما يكونُ من الثَّواب، {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} فهو راضٍ عنهم وهم راضون عن ربِّهم.
{ذَلِكَ} أي: الوعدُ الكريمُ {لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} وخافَه وراقبَه وخشيَه بالغيبِ، فتضمَّنَتْ هذه السُّورةُ التَّنويه برسالةِ محمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالقرآنِ، وتضمَّنَتْ أصولَ الدِّينِ، التَّوحيدُ والصَّلاةُ والزَّكاةُ، وتضمَّنَتْ ذكرَ فريقَي النَّاسِ: الكافرين والمؤمنين، وجزاءَ كلٍّ من الفريقَينِ.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:
تفسيرُ سورةِ القدرِ وهيَ مكِّيَّةٌ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} الآياتِ:
يقولُ تعالى مبيِّنًا لفضلِ القرآنِ وعلوِّ قدرِهِ: {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وذلكَ أنَّ اللهَ تعالى ابتدأَ بإنزالِ القرآنِ في رمضانَ في ليلةِ القدرِ، ورحمَ اللهُ بها العبادَ رحمةً عامَّةً، لا يقدرُ العبادُ لها شكرًا.
وسُمِّيَتْ ليلةُ القدرِ، لعظمِ قدرِها وفضلِها عندَ اللهِ، ولأنَّهُ يقدرُ فيها ما يكونُ في العامِ مِن الأجلِ والأرزاقِ والمقاديرِ القدريَّةِ.
ثمَّ فخَّمَ شأنَها، وعظَّمَ مقدارَها فقالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} أي: فإنَّ شأنَها جليلٌ، وخطرَها عظيمٌ.
– الشيخ : هذا أسلوبُ تعظيمٍ وتهويلٍ {وَمَا أَدْرَاكَ} كما قالَ في شأنِ القيامةِ {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1-3]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:3]، فهذا أسلوبٌ فيه التَّنبيهُ على عظمِ شأنِ المذكورِ، فلمَّا ذكرَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} ثمَّ جاءَ الجوابُ: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.
– القارئ : {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي: تعادلُ مِن فضلِها ألفَ شهرٍ، فالعملُ الَّذي يقعُ فيها، خيرٌ مِن العملِ في ألفِ شهرٍ خاليةٍ منها، وهذا ممَّا تتحيَّرُ فيهِ الألبابُ، وتندهشُ لهُ العقولُ، حيثُ مَنَّ -تباركَ وتعالى- على هذهِ الأمَّةِ الضَّعيفةِ القوَّةِ والقِوى، بليلةٍ يكونُ العملُ فيها يقابلُ ويزيدُ على ألفِ شهرٍ، عمرَ رجلٍ مُعمِّرٍ عمرًا طويلًا نَيفًا وثمانينَ سنةً.
{تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} أي: يكثرُ نزولُهم فيها {مِنْ كُلِّ أَمْر سَلامٌ هِيَ} أي: سالمةٌ مِن كلِّ آفةٍ وشرٍّ، وذلكَ لكثرةِ خيرِها، {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي: مبتداها مِن غروبِ الشَّمسِ ومنتهاها طلوعُ الفجرِ.
وقد تواترَتِ الأحاديثُ في فضلِها، وأنَّها في رمضانَ، وفي العشرِ الأواخرِ منهُ، خصوصًا في أوتارِهِ، وهيَ باقيةٌ في كلِّ سنةٍ إلى قيامِ السَّاعةِ.
ولهذا كانَ النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يعتكفُ، ويكثرُ مِن التَّعبُّدِ في العشرِ الأواخرِ مِن رمضانَ، رجاءَ ليلةِ القدرِ، واللهُ أعلمُ.
تفسيرُ سورةِ البيِّنةِ، وهيَ مدنيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآياتِ:
يقولُ تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} أي: مِن اليهودِ والنَّصارى {وَالْمُشْرِكِينَ} مِن سائرِ أصنافِ الأممِ.
{مُنْفَكِّينَ} عن كفرِهم وضلالِهم الَّذي هم عليهِ، أي: لا يزالونَ في غيِّهم وضلالِهم، لا يزيدُهم مرورُ الأوقاتِ إلَّا كفرًا.
{حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} الواضحةُ، والبرهانُ السَّاطعُ، ثمَّ فسَّرَ تلكَ البيِّنةَ فقالَ: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} أي: أرسلَهُ اللهُ، يدعو النَّاسَ إلى الحقِّ، وأنزلَ عليهِ كتابًا يتلوهُ، ليعلِّمَ النَّاسَ الحكمةَ ويزكِّيهم، ويخرجَهم مِن الظُّلماتِ إلى النُّورِ، ولهذا قالَ: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} أي: محفوظةً مِن قِربانِ الشَّياطينِ، لا يمسُّها إلَّا المطهَّرونَ، لأنَّها في أعلى ما يكونُ مِن الكلامِ.
ولهذا قالَ عنها: {فِيهَا} أي: في تلكَ الصُّحفِ {كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي: أخبارٌ صادقةٌ، وأوامرُ عادلةٌ تهدي إلى الحقِّ وإلى صراطٍ مستقيمٍ، فإذا جاءَتْهم هذهِ البيِّنةُ، فحينئذٍ يتبيَّنُ طالبُ الحقِّ ممَّن ليسَ لهُ مقصدٌ في طلبِهِ، فيهلكُ مَنْ هلكَ عن بيِّنةٍ، ويحيا مَن حَيَّ عن بيِّنةٍ.
وإذا لم يؤمنْ أهلُ الكتابِ لهذا الرَّسولِ وينقادوا لهُ، فليسَ ذلكَ ببدعٍ مِن ضلالِهم وعنادِهم، فإنَّهم ما تفرَّقُوا واختلفُوا وصارُوا أحزابًا {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} الَّتي توجبُ لأهلِها الاجتماعَ والاتِّفاقَ، ولكنَّهم لرداءتِهم ونذالتِهم، لم يزدْهم الهدى إلَّا ضلالًا ولا البصيرةُ إلَّا عمىً، معَ أنَّ الكتبَ كلَّها جاءَتْ بأصلٍ واحدٍ، ودينٍ واحدٍ فما أُمِرُوا في سائرِ الشَّرائعِ إلَّا أنْ يعبدُوا {اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: قاصدينَ بجميعِ عباداتِهم الظَّاهرةِ والباطنةِ وجهَ اللهِ، وطلبَ الزُّلفى لديهِ، {حُنَفَاءَ} أي: معرضينَ مائلينَ عن سائرِ الأديانِ المخالفةِ لدينِ التَّوحيدِ. وخصَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ بالذِّكرِ معَ أنَّهما داخلانِ في قولِهِ: {لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ}؛ لفضلِهما وشرفِهما، وكونِهما العبادتَيْنِ اللَّتَيْنِ مَن قامَ بهما قامَ بجميعِ شرائعِ الدِّينِ.
{وَذَلِكَ} أي: التَّوحيدُ والإخلاصُ في الدِّينِ، هوَ {دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي: الدِّينُ المستقيمُ، الموصِلُ إلى جنَّاتِ النَّعيمِ، وما سواهُ فطرقٌ موصِلةٌ إلى الجحيمِ.
ثمَّ ذكرَ جزاءَ الكافرينَ بعدَما جاءَتْهم البيِّنةُ، فقالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} قد أحاطَ بهم عذابُها، واشتدَّ عليهم عقابُها، {خَالِدِينَ فِيهَا}، لا يفترُّ عنهم العذابُ وهم فيها مبلسونَ {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} لأنَّهم عرفُوا الحقَّ وتركُوهُ، وخسرُوا الدُّنيا والآخرةَ.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} لأنَّهم عبدُوا اللهَ وعرفُوه، وفازُوا بنعيمِ الدُّنيا والآخرةِ.
{جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي: جنَّاتُ إقامةٍ، لا ظَعْنَ فيها ولا رحيلَ، ولا طلبًا لغايةٍ فوقَها، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} فرضيَ عنهم بما قامُوا بهِ مِن مراضيهِ، ورضَوا عنهُ، بما أعدَّ لهم مِن أنواعِ الكراماتِ وجزيلِ المثوباتِ {ذَلِكَ} الجزاءُ الحسنُ {لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أي: لمَن خافَ اللهَ، فأحجمَ عن معاصيهِ، وقامَ بما أوجبَ عليهِ.
تمَّ تفسيرُ سورةِ البيِّنةِ بفضلِ اللهِ.
– الشيخ : شوف [انظرْ] تفسيرَ سورةِ القدرِ عندَ ابنِ كثيرٍ، يعني مكِّيَّة أو مدنيَّة؟ كأنَّ الَّذي يبدو لي أنَّها مدنيَّةٌ، والشَّيخُ قالَ: إنَّها مدنيَّةٌ
– طالب: مكِّيَّة
– الشيخ : من الَّذي قالَ؟
– طالب: ابنُ كثيرٍ، يقولُ: تَفْسِيرُ سُورَةِ الْقَدْرِ وهِيَ مَكِّيَّةٌ
– الشيخ : ما أدري يمكن فيها خلافٌ، لأنَّ ليلةَ القدرِ لم يكنْ لها ذكرٌ إلَّا في المدينةِ، ليلةُ القدرِ ما لها ذكرٌ إلَّا في المدينةِ من حيثُ قيامها وفضلها والتَّنويه بشأنِها.