بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك
سور " القارعة – التَّكاثر – العصر "
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:1-11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:1-8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]
– الشيخ : أحسنت
الحمدُ لله، هذه السُّور الثلاث كلُّها مكيَّة، السورةُ الأولى: القارعة، والقارعةُ اسمٌ من أسماء القيامة؛ لأنها تَقْرَعُ القلوب والأسماعِ بأفزاعِها وأهوالِها الفظيعةِ كالحاقَّة والواقعة والغاشيَة والطامَّة، {مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} وهذا أسلوبٌ فيهِ تهويلٌ يعني: أنَّها أمرٌ عظيمٌ! {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}.
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} يعني: يومَ تجيءُ القيامة وتحلُّ القيامة يكون الناس فيها كالفَراشِ المبثوثِ مثلَ الفَرَاش الذي يكون في الصحراء ويتساقطُ على النار، دُويبَّاتٌ تطيرُ وتسقطُ في النار، كالفراشِ المبثوث المنتشر هنا وهناك، وفي الآية الأخرى {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر:7] سبحان الله! لأنَّهم يَخرجون من القبور وهم كثيرٌ يَخرجون كثيرا؛ لأنَّ الله يبعثُ الأولين والأخرين فيخرجون على سطحِ الأرض وعلى وجهِ الأرض بعد تبديلِها ونَسْفِ الجبالِ حتى تكون قاعًا صفصفًا لا عِوجَ فيه ولا أمتًا {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}.
{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} مثل القطنِ أو الصُّوف المنفوش، لَيِّنٌ بعدَ الصَّلابة بعد تلك القوة والصَّلابة تكونَ مثلَ الصُّوف أو القُطن، وفي آياتٍ أخرى ذكرَ اللهُ أنها تكونُ كالهَبَاء، {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ:20] فتُسَيَّرُ الجبالُ وتُنسَفُ وتتغيرُ تصيرُ كالكثيبِ المنهالِ الرملُ الرقيقُ الذي لا يتماسكُ، سبحان الله العظيم، فتمرُّ الجبالُ بأطوارٍ {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}.
ثم يذكرُ الله -تعالى- الميزانَ ووزنَ الأعمالِ وأنَّ مِن الناسِ مَنْ يخفُّ ميزانُهُ ومنهم من يثقُلُ ميزانُهُ فـ {مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} يعني: يَؤُولُ إلى حياةٍ طيبةٍ ناعمةٍ مرضيةٍ {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} وهؤلاء قال الله عنهم في الآيةِ الأخرى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:8] وهنا قال: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أُمُّهُ التي يأوي إليها هِي الهاويةُ وهي جهنَّم؛ لأنه فسَّرها قال: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ} هذا تفسيرٌ لأُمِّهِ الهاوية، قال بعض المفسرين: أمُّهُ هاوية يعني: أُمُّ رأسِهِ تهوي في نار جهنم، {نَارٌ حَامِيَةٌ} نعوذُ بالله، وفي قوله: {حَامِيَةٌ} تأكيدٌ للدَّلالة على شدةِ حرِّها وإلا فالنارُ حاميةٌ، كلُّ نارٍ حامية، لكن هذا يعني لها خصوصية، وجاء في الحديث أن نارَ جهنَّم فُضِّلت على نار الدنيا بتسعةٍ وستينَ جزءًا أو ضعفًا، سبحان الله العظيم! نعوذ بالله من النار.
ثم سورة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}، سورةُ التكاثر فيها توبيخٌ من الله للذين أثرُوا الدنيا على الآخرة وشغلتُهم الدنيا عن الآخرة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} يعني: التنافسُ في كثرةِ المالِ والحظوظِ الدنيويَّة، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد:20] إذًا فقولُهُ: {لتَّكَاثُرُ} التكاثرُ في الأموال والأولاد وغيرهما مِن حظوظِ الدنيا، يعني كلُّ واحدٍ يقول: أنا أكثر، ويريد أنْ يكونَ أكثرَ مِن غيرِهِ، {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}.
{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} يعني: إلى أن مُتُّم، إلى الموتِ، {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} وشغلتكم حظوظُ الدنيا والتنافسُ فيها إلى أن نزلَ بكم الموتُ وزرتم المقابر، مَنْ ماتَ فهو إلى المقابر يُذهَبُ به، وقوله: {زُرْتُمُ} قالَ بعضُ المفسرين: إنَّ هذا التعبيرَ يُشعِرُ بأنَّ المقابر ليستْ بموضعِ قرارٍ دائمٍ إنما هي مدةٌ محدودةٌ ثم يفارقونها عندما يُنفَخُ في الصور وتتشقَّقُ الأرض فيَخرجونَ منها {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} [ق:44،43] إذًا الزائرُ لا بد أن لا بد له مِن انصرافٍ، الزائرُ ليس مِن شأنِهِ الإقامةُ {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}.
{كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} هذه كلمةُ زَجْرٍ ورَدْعٍ لأولئك الذين ألهاهم التكاثر {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فيهِ تهديدٌ، ستعلمونَ عاقبة هذا اللَّهو والانشغال بالدنيا {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وهذا أسلوبُ تأكيدٍ، تهديدٌ بعد تهديدٌ، تهديدٌ بعد تهديدٌ.
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} المعنى لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَما ألهاكمُ التكاثرُ إنما أُتِيْتُم مِن الغفلة وقلَّة العلم، ثم قال تعالى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} وهذا أسلوبُ قَسَمٍ، أي: والله لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، أي: نارُ جهنَّم، ومِن أسمائِها: الجحيم، والسعير، وجهنم، نعوذ بالله، {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}.
{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} يعني: ترونها عِيانًا، والآياتُ الدالة على هذا كثيرة، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} [الطور:14-15] واليقينُ يقولُ العلماء أنه ثلاث مراتب: علمُ اليقين، ثم وعينُ اليقين، وحقُّ اليقين، فعلمُ اليقين: هو ما يحصلُ بالخبر الصادق، وعينُ اليقين: هو ما يُشاهَد بالعِيان، وحقُّ اليقين: ما يُبعثرُهُ الإنسانُ بحواسِّه، فضربَ العلماءُ لهذا مثلا كمَن قال لكَ وهو صادقٌ: عندي عَسَلٌ، فهذا حصلَ لكَ بهذا الخبرِ الصادقِ علم اليقين فإذا أظهرَهُ ورأيتَه حصلَ لك عينُ اليقين؛ لأنك رأيتَه بعينك، فإذا ذقتَه وباشرتَه فذلك حقُّ اليقين، وهذه المعاني الثلاثة جاءَتْ في القرآن: حقُّ اليقين، وعلمُ اليقين..، ففي هذه السورة ذُكِرت فيها نوعان: علمُ اليقين وعينُ اليقين، وفي سورة الحاقَّة والواقعة: حق اليقين {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:96،95] نعوذ بالله من النار.
{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ} أيضًا هذا قَسَمٌ، أي: والله لُتسألُنَّ {يَوْمَئِذٍ} يعني: في ذلك اليوم {عَنِ النَّعِيمِ} الذي تمتعتُمْ به في الدنيا، هل أديتُمْ شكرَهُ؟ يُسألون، والعباد يُسْألون يومَ القيامة عن أمورٍ كثيرةٍ، يُسْأَلُ الإنسانُ عن مالِه وعن شبابِه وعن عمرِه وعن واجباتِه التي أوجبَها اللهُ عليه، هل أدَّاها؟ هل قام بها؟ فهي أسئلة، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:93،92] {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.
ثمَّ السورةُ الثالثةُ: العصرُ، وهي مكيَّة، وافتُتحتْ بقَسَمٍ من الله بالعصرِ الذي هو الزمان، فأقسمَ -تعالى- بالعصرِ عمومًا بالزمان، كما أقسم ببعضِ الزمان من الليل والنهار، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:2،1] {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:2،1] فتلك أقسامٌ ببعضِ أحوالِ الزمان، وهذا قَسَمٌ بالزمانِ مطلقًا، {وَالْعَصْرِ} [العصر:1]
{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} هذا جواب القَسَمِ، و "الإنسانُ" اسمُ جنسٍ عامّ، أي: كل إنسانٍ في خسارٍ، خاسر، مآلُه إلى الخسار، إلا مَن استُثني، إلا مَن آمن وعمل، {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} فهذه مُقوِّمات الربحِ، فمَن جمعَ هذه الأمورَ الأربعة ربحَ الربحَ الكامل، ومَن نقصَها نقصَ ربحُه بحسب ذلك، ومن فاتتْهُ خسرَ الخسران المبين، فيخسرُ نفسَه وأهلَه ومالَه ودنياهُ وآخرتَه، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} فهذه أربعةُ أمور بعضها..، فأعمها الإيمان {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا} وهذا يشملُ الإيمانَ بكلِّ شُعَبِهِ، يشملُ اعتقادَ القلبِ وعملَ الجوارح، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} عَطْفُ العمل على الإيمان مِن عَطْفِ الخاص على العام، ثم عطفَ عليه التواصي بالحق وهو مِن جملة العمل الصالح، والتواصي بالصبر، فذكرَ الأعمَّ ثم الخاصُّ ثم الأخصُّ.
وهذه السورةُ على قِصَرِها دلَّت على أمٍ عظيمٍ وهو أن الناس فريقان: رابحٌ وخاسرٌ، وتضمَّنت ذكر ما به الربح التام وما يترتَّبُ عليه الخسران المبين، ولهذا جاءَ عن الشافعي أنه قال -رحمه الله-: لو فكَّرَ الناسُ في هذه السورةِ لَكَفَتْهُم، لا إله إلا الله.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:
تفسيرُ سورةِ القارعةِ، وهِيَ مكيَّةٌ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} الآيات:
{الْقَارِعَةُ} مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تُقَرِّعُ النَّاسَ وَتُزْعِجُهُمْ بِأَهْوَالِهَا، وَلِهَذَا عَظَّمَ أَمْرَهَا وَفَخَّمَهُ بِقَوْلِهِ: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ} مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ وَالْهَوْلِ، {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} أَيْ: كَالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ، الَّذِي يَمُوجُ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ، وَالْفَرَاشُ: هِيَ الْحَيَوَانَاتُ الَّتِي تَكُونُ فِي اللَّيْلِ، يَمُوجُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ لَا تَدْرِي أَيْنَ تُوَجَّهُ، فَإِذَا أُوقِدَ لَهَا نَارٌ تَهَافَتَتْ إِلَيْهَا لِضَعْفِ إِدْرَاكِهَا، فَهَذِهِ حَالُ النَّاسِ أَهْلِ الْعُقُولِ، وَأَمَّا الْجِبَالُ الصُّمُّ الصِّلَابُ، فَتَكُونُ {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} أَيْ: كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ، الَّذِي بَقِيَ ضَعِيفًا جِدًّا، تُطَيِّرُ بِهِ أَدْنَى رِيحٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88] ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ، تَكُونُ هَبَاءً مَنْثُورًا، فَتَضْمَحِلُّ وَلَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ يُشَاهَدُ، فَحِينَئِذٍ تُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، وَيَنْقَسِمُ النَّاسُ قِسْمَيْنِ: سُعَدَاءَ وَأَشْقِيَاءَ، {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أَيْ: رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} بِأَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ تُقَاوِمُ سَيِّئَاتِهِ.
{فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أَيْ: مَأْوَاهُ وَمَسْكَنُهُ النَّارُ، الَّتِي مِنْ أَسْمَائِهَا الْهَاوِيَةُ، تَكُونُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ الْمُلَازِمَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65]
وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ، فَأَمُّ دِمَاغِهِ هَاوِيَةٌ فِي النَّارِ، أَيْ: يُلْقَى فِي النَّارِ عَلَى رَأْسِهِ.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} وَهَذَا تَعْظِيمٌ لِأَمْرِهَا، ثُمَّ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: {نَارٌ حَامِيَةٌ} أَيْ: شَدِيدَةُ الْحَرَارَةِ، قَدْ زَادَتْ حَرَارَتُهَا عَلَى حَرَارَةِ نَارِ الدُّنْيَا سَبْعِينَ ضِعْفًا. نَسْتَجِيرُ بِاللَّهِ مِنْهَا.
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْهَاكُمِ التَّكَاثُرُ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} الآيات:
يَقُولُ تَعَالَى مُوَبِّخًا عِبَادَهُ عَنِ اشْتِغَالِهِمْ عَمَّا خُلِقُوا لَهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمَعْرِفَتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَتَقْدِيمِ مَحَبَّتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ: {أَلْهَاكُمُ} عَنْ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ {التَّكَاثُرُ} وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُتَكَاثِرَ بِهِ، لِيَشْمَلَ ذَلِكَ كُلَّ مَا يَتَكَاثَرُ بِهِ الْمُتَكَاثِرُونَ، وَيَفْتَخِرُ بِهِ
– الشيخ : يعني: لم يقلْ ألهاكمُ التكاثر في كذا في الأولاد والمال، وإن كانَ قد ذكرَ ذلك في غيرِ هذا الموضع لكن الإطلاق يفيدُ العموم، {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} في كلِّ حظٍّ مِن حظوظ الدنيا ومنفعةٍ مِن منافع الدنيا؛ لأنَّها هي مُتعلَّقُ الهِمَم عند أهل الدنيا بالأموال، بالأموالِ بأنواعها مِن العُروضِ مِن الأثمانِ مِن المساكنِ مِن مختلَفِ حظوظِ الدنيا.
– القارئ : وَيَفْتَخِرُ بِهِ الْمُفْتَخِرُونَ، مِنَ التَّكَاثُرِ فِي الْأَمْوَالِ، وَالْأَوْلَادِ، وَالْأَنْصَارِ، وَالْجُنُودِ، وَالْخَدَمِ، وَالْجَاهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ مُكَاثَرَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْآخَرِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَجْهَ اللَّهِ.
فَاسْتَمَرَّتْ غَفْلَتُكُمْ وَلَهْوَتُكُمْ وَتَشَاغُلُكُمْ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ فَانْكَشَفَ حِينَئِذٍ لَكُمْ الْغِطَاءُ، وَلَكِنْ بَعْدَ مَا تَعَذَّرَ عَلَيْكُمُ اسْتِئْنَافُهُ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أَنَّ الْبَرْزَخَ دَارٌ مَقْصُودٌ مِنْهَا النُّفُوذُ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُمْ زَائِرِينَ، وَلَمْ يُسَمِّهِمْ مُقِيمِينَ.
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي دَارٍ بَاقِيَةٍ غَيْرِ فَانِيَةٍ
– الشيخ : وبهذا يُعلم غلط مَن يُسمِّي القبرِ "المثوى الأخير"، يجري على ألسنةِ بعض الناس مُعبرًا عن القبر إنه المثوى الأخير، لا، ليسَ هو المثوى الأخير، هذه كما يقال: محطَّة، ولهذا قالَ العلماء أخذًا مِن النصوص: إن الدور ثلاث، الدور التي يمرُّ بها الإنسان ثلاث: دارُ الدنيا وهي دار العمل، ودار البرزخِ، والدَّار الآخرة وهما دار الجزاء، ودارُ البرزخ مقدِّمة للدارِ الآخرة.
– القارئ : وَلِهَذَا تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} أَيْ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَمَامَكُمْ عِلْمًا يَصِلُ إِلَى الْقُلُوبِ، لَمَّا أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، وَلَبَادَرْتُمْ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
وَلَكِنْ عَدَمُ الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ، صَيَّرَكُمْ إِلَى مَا تَرَوْنَ {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} أي: لَتَرِدُنَّ الْقِيَامَةَ، فَلْتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ.
ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ أَيْ: رُؤْيَةً بَصَرِيَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف:52]
{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} الَّذِي تَنَعَّمْتُمْ بِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، هَلْ قُمْتُمْ بِشُكْرِهِ، وَأَدَّيْتُمْ حَقَّ اللَّهِ فِيهِ، وَلَمْ تَسْتَعِينُوا بِهِ، عَلَى مَعَاصِيهِ، فَيَنْعَمُكُمْ نَعِيمًا أَعْلَى مِنْهُ وَأَفْضَلَ.
أَمِ اغْتَرَرْتُمْ بِهِ، وَلَمْ تَقُومُوا بِشُكْرِهِ؟ بَلْ رُبَّمَا اسْتَعَنْتُمْ بِهِ عَلَى الْمَعَاصِي فَيُعَاقِبُكُمْ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} الآية [الأحقاف:20]
تَفْسِيرُ سُورَةِ وَالْعَصْرِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْعَصْرِ} الآيات:
أَقْسَمَ تَعَالَى بِالْعَصْرِ، الَّذِي هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، مَحَلُّ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ خَاسِرٍ،
– الشيخ : الليلُ والنهار هو الزمان، هي الزمان، الزمان كلُّه ليلٌ ونهارٌ.
– القارئ : مَحَلُّ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ خَاسِرٍ، وَالْخَاسِرُ ضِدُّ الرَّابِحِ.
وَالْخَسَارُ مَرَاتِبُ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ:
قَدْ يَكُونُ خَسَارًا مُطْلَقًا، كَحَالِ مَنْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَفَاتَهُ النَّعِيمُ، وَاسْتَحَقَّ الْجَحِيمَ.
وَقَدْ يَكُونُ خَاسِرًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِهَذَا عَمَّمَ اللَّهُ الْخَسَارَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، إِلَّا مَنِ اتُّصَفَ بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ:
الْإِيمَانُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَلَا يَكُونُ الْإِيمَانُ بِدُونِ الْعِلْمِ، فَهُوَ فَرْعٌ عَنْهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ.
– الشيخ : هذا يُنبِّه فيه الشيخ على دَلالةِ الآيةِ على وجوبِ العلم، فإنَّ الإيمانَ لا يتحققُ إلا بعلمٍ، ولهذا الشيخ محمَّد بن عبد الوهاب –رحمه الله- في "الأصولِ الثلاثة" جعلَ هذه السورة دليلا على المسائل الأربعة: العلم والعملُ والدعوةُ والصبرُ، ويدلُّ على المسألةِ الأولى العلم قولُه: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} لأنَّ الإيمان يستلزم علم، سَبْقُ العلم لا بدَّ.
– القارئ : وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهَذَا شَامِلٌ لِأَفْعَالِ الْخَيْرِ كُلِّهَا، الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ.
وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ، الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، أَيْ: يُوصِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ، وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ، وَيُرَغِّبُهُ فِيهِ.
وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَعَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَعَلَى أَقْدَارِ اللَّهِ الْمُؤْلِمَةِ.
فَبِالْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، يُكَمِّلُ الْعَبْدُ نَفْسَهُ، وَبِالْأَمْرَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يُكَمِّلُ غَيْرَهُ، وَبِتَكْمِيلِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ، يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْ سَلِمَ مِنَ الْخَسَارِ، وَفَازَ بِالرِّبْحِ الْعَظِيمِ. انتهى
– الشيخ : رحمه الله، ويشيرُ الشيخ إلى أن الصبرَ ثلاثة، أنواعُ الصبر ثلاثة: صبرٌ على طاعة الله مِن الفرائض والنوافلِ، وصبرٌ عن معاصي الله، والثالثُ: الصبرُ على أقدارِ الله المؤلِمَة، فالصبرُ المأمور به والصبرُ الذي أثنى الله على أهلِه يشملُ هذه الأنواع، وأفضلُها الصبرُ على طاعةِ الله، أحسنت.