بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الجواب الصَّحيح لِمَن بدّل دين المسيح) لابن تيمية
الدّرس: الأربعون بعد المئة
*** *** *** ***
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمِينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلينَ، نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعينَ، أمَّا بعدُ:
فيقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في كتابِهِ: "الجوابِ الصَّحيحِ لِمَن بدَّلَ دينَ المسيحِ":
يقولُ -رحمَهُ اللهُ تعالى-: قَالَ: ثُمَّ مَاتَ "إِيلِيَا الْمَلِكُ" وَمَلَكَ بَعْدَهُ "أَنْطُونْيُوسُ قَيْصَرُ" بِرُومِيَّةَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
قَالَ: وَفِي إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ مُلْكِهِ صَيَّرَ "يَهُودَا" أُسْقُفًّا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَقَامَ سَنَتَيْنِ وَمَاتَ.
قَالَ: فَمِنْ يَعْقُوبَ أُسْقُفِّ الْمَقْدِسِ الْأَوَّلِ إِلَى يَهُودَا أُسْقُفِّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ هَذَا، كَانَتِ الْأَسَاقِفَةُ الَّذِينَ صُيِّرُوا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَخْتُونِينَ.
وَذَكَرَ أَنَّهُ وَلِيَ بَعْدَ هَذَا قَيْصَرُ آخَرُ اسْمُهُ "مُرْقُسُ" تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَنَّهُ أَثَارَ عَلَى النَّصَارَى بَلَاءً عَظِيمًا وَحُزْنًا شَدِيدًا، وَاسْتُشْهِدَ فِي زَمَانِهِ شُهَدَاءُ كَثِيرُونَ.
قَالَ: وَكَانَ فِي أَيَّامِهِ جُوعٌ شَدِيدٌ وَوَبَاءٌ عَظِيمٌ لَمْ تُمْطِرِ السَّمَاءُ سِنِينَ، وَكَادَ الْمَلِكُ وَجَمِيعُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ أَنْ يَهْلِكُوا مِنَ الْجُوعِ.
فَسَأَلُوا النَّصَارَى أَنْ يَبْتَهِلُوا إِلَى إِلَهِهِمْ، فَدَعَوْا فَأَمْطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَطَرًا عَظِيمًا وَارْتَفَعَ الْوَبَاءُ وَالْقَحْطُ.
قَالَ: وَكَانَ بِأَيَّامِهِ بِأَرْضِ الْيُونَانِيِّينَ "مَغْنُوسُ" الْحَكِيمُ.
قَالَ: وَفِي خَمْسِ سِنِينَ مِنْ مُلْكِهِ، صَيَّرَ "لُولْيَاثُوسَ" بَطْرِيَرْكًا، وَهُوَ أَوَّلُ بَطْرِيَرْكٍ أَصْلَحَ الْأَسَاقِفَةَ فِي عَمَلِ مِصْرَ، أَقَامَ ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَمَاتَ.
قالَ رحمَهُ اللهُ: فصلٌ:
قَالَ: وَفِي ذَلِكَ الْعَصْرِ كَتَبَ بَطْرِيَرْكُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ إِلَى أُسْقُفِّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبَطَرَكِ إِنْطَاكِيَةَ وَبَطْرَكِ رُومِيَّةَ فِي كِتَابَ فِصْحِ النَّصَارَى وَصَوْمِهِمْ، وَكَيْفَ يُسْتَخْرَجُ مِنْ فِصْحِ الْيَهُودِ، فَوَضَعُوا فِي ذَلِكَ كُتُبًا كَثِيرَةً عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ.
قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا بَعْدَ صُعُودِ سَيِّدِنَا الْمَسِيحِ إِلَى السَّمَاءِ إِذَا عَيَّدُوا عِيدَ الْغِطَاسِ مِنَ الْغَدِ يَصُومُونَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَيُفْطِرُونَ كَمَا فَعَلَ سَيِّدُنَا يَسُوعُ الْمَسِيحُ، لِأَنَّ سَيِّدَنَا الْمَسِيحَ لَمَّا اعْتَمَدَ بِالْأُرْدُنِّ خَرَجَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ فَأَقَامَ بِهَا صَائِمًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَكَانَ النَّصَارَى إِذَا أَفْصَحَ الْيَهُودُ عَيَّدُوا هُمُ الْفِصْحَ.
فَوَضَعَ هَؤُلَاءِ الْبَطَارِكَةُ حِسَابًا لِلْفِصْحِ لِيَصُومَ النَّصَارَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَيَكُونَ فِطْرُهُمْ يَوْمَ الْفِصْحِ لِيَتِمَّ فَرَحُهُمْ بِذَلِكَ.
قُلْتُ: فَقَدْ أَخْبَرَ عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ لَمَّا صَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَقِبَ الْمَعْمُودِيَّةِ، وَكَانَ يُعَيِّدُ مَعَ الْيَهُودِ فِي عِيدِهِمْ لَا يُعَيِّدُ عَقِبَ صَوْمِهِ، شَارَكَهُ النَّصَارَى فِي ذَلِكَ مُدَّةً، فَصَارُوا يَصُومُونَ أَرْبَعِينَ عَقِبَ الْغَطَاسِ الَّذِي هُوَ نَظِيرُ الْمَعْمُودِيَّةِ، وَيُعَيِّدُونَ مَعَ الْيَهُودِ الْعِيدَ.
ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ هَذَا ابْتَدَعُوا تَغْيِيرَ الصَّوْمِ، فَلَمْ يَصُومُوا عَقِبَ الْغَطَاسِ، بَلْ نَقَلُوا الصَّوْمَ إِلَى وَقْتٍ يَكُونُ عِيدُهُمْ مَعَ عِيدِ الْيَهُودِ، فَيَكُونُ عِيدُهُمْ مَعَ عِيدِ الْيَهُودِ، وَهُوَ فِصْحُ الْمَسِيحِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ وَقْتَ قِيَامَتِهِ مِنْ قَبْرِهِ.
قَالَ: وَمَاتَ "مُرْقُصُ الْمَلِكُ" وَمَلَكَ بَعْدَهُ "قُمُودُوسُ قَيْصَرُ" بِرُومِيَّةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِي أَيَّامِهِ كَانَ فِي أَرْضِ الْيُونَانِيِّينَ فِي مَدِينَةِ "أَفْرِغَامِسَ"، "جَالِينُوسُ" الْحَكِيمُ صَاحِبُ صِنَاعَةِ الطِّبِّ.
وَذَكَرَ "جَالِينُوسُ" فِي فِهْرِسْتِ كُتُبِهِ أَنَّهُ رَبَّى "قَمُودُوسَ الْمَلِكَ". وَذَكَرَ "جَالِينُوسُ" فِي الْمَقَالَةِ الْأُولَى مِنَ الْكِتَابِ الْمَعْرُوفِ بِـ "كِتَابِ أَخْلَاقِ النَّفْسِ": أَنَّهُ كَانَ فِي عَصْرِ "قُمُودُوسَ الْمَلِكِ" رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ "بُولُسُ" طَلَبَهُ "قُمُوُدُوسُ الْمَلِكُ" لِيَقْتُلَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ، وَكَانَ لَهُ غُلَامَانِ، فَقَبَضَهُمَا الْمَلِكُ، فَضَرَبَهُمَا الْمَلِكُ، وَطَلَبَ مِنْهُمَا أَنْ يَدُلَّاهُ عَلَى مَوْلَاهُمَا، فَلَمْ يَفْعَلَا لِكَرَمِ أَنْفُسِهِمَا وَنَخْوَتِهِمَا وَشَدَّةِ مُحَامَاتِهِمَا عَلَى مَوْلَاهُمَا، فَقَتَلَهُمَا. وَأَنَّ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِ إِلَى بُولُسَ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مُلْكِ "قُمُودُوسَ قَيْصَرَ" فَهَذَا مَا ذَكَرَ جَالِينُوسُ.
قَالَ: وَكَانَ أَيْضًا فِي أَيَّامِ "دِيمُقْرَاطِيسَ" الْحَكِيمِ.
قُلْتُ: هَذِهِ الْمُدَّةُ أَكْثَرُ مِمَّا ذَكَرَهُ "سَعِيدٌ" هَذَا، فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ مِنَ الْمَسِيحِ
– الشيخ : كـأنَّه "لَمْ يَذْكُرْ"
– القارئ : فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مِنَ الْمَسِيحِ إِلَى هُنَا مِائَتَا سَنَةٍ، بس [لكن] عندي مِائَتَا أحسن َاللهُ إليكَ
– الشيخ : نعم اقرأْ لَمْ يَذْكُرْ
– القارئ : فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مِنَ الْمَسِيحِ إِلَى هُنَا مِائَتَا سَنَةٍ، بَلْ ذَكَرَ إِلَى الْخَرَابِ مِائَةً وَثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ "لِدِيمُقْرَاطِيسَ" قَبْلَ هَذَا.
قَالَ: وَفِي عَشْرِ سِنِينَ مِنْ مُلْكِهِ ظَهَرَتِ الْفُرْسُ فَغَلَبَتْ عَلَى "بَابِلَ"، وَأَمَدُّوا فَارِسَ، وَتَمَلَّكَ "أَزْدَشِيرُ بْنُ سَاسَانَ" بَابِلَ مِنْ أَهْلِ أَصْطَخَرَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَلِكٍ مُلِّكَ عَلَى فَارِسَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ.
قَالَ: وَمَاتَ "قُمُودُوسُ قَيْصَرُ" مِلْكُ الرُّومِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ قَيْصَرُ آخَرُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ آخَرَ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ بِرُومِيَّةَ "سَوِيرِسُ قَيْصَرُ" سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَذَلِكَ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ مُلْكِ "أَزْدَشِيرَ".
وَكَانَ هَذَا الْمَلِكُ شَدِيدًا، قَدْ أَثَارَ عَلَى النَّصَارَى بَلَاءً عَظِيمًا وَعَذَابًا كَبِيرًا، وَقَتَلَ كُلَّ عَالِمٍ مِنْهُمْ وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَاسْتُشْهِدَ فِي أَيَّامِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّصَارَى فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، ثُمَّ قَتَلَ كُلَّ مَنْ كَانَ بِمِصْرَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مِنَ النَّصَارَى، وَهَدَمَ الْكَنَائِسَ وَبَنَى بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ هَيْكَلًا، وَسَمَّاهُ هَيْكَلَ الْآلِهَةِ.
وَمَلَكَ بَعْدَهُ قَيْصَرُ، وَهُوَ "أَنْطُونْيُوسُ" الْأَصْلَعُ سِتَّ سِنِينَ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ قَيْصَرُ آخَرُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، كَانَتِ النَّصَارَى فِي أَيَّامِهِ فِي هُدُوءٍ وَسَلَامَةٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ تُحِبُّ النَّصَارَى، وَفِي أَيَّامِهِ سُمِّيَ بَطْرَكُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ "بَابَا" أَيِ: الْجَدُّ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ قَيْصَرُ آخَرُ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَهَذَا أَثَارَ عَلَى النَّصَارَى بَلَاءً طَوِيلًا وَحُزْنًا عَظِيمًا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَأَخَذَ النَّاسَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَقَتَلَ مِنَ الْأَسَاقِفَةِ خَلْقًا كَثِيرًا وَقَتَلَ بَتْرَكَ أَنْطَاكِيَةَ، فَلَمَّا سَمِعَ أُسْقُفُّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِقَتْلِهِ هَرَبَ وَتَرَكَ الْكُرْسِيَّ.
قَالَ: وَمَاتَ قَيْصَرُ هَذَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مُلْكِ "بَهْرَامَ بْنِ هُرْمُزَ" وَمَلَكَ بَعْدَهُ قَيْصَرُ آخَرُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ بَعْدَهُ آخَرُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَاسْمُهُ "غِرْدِيَانُوسُ" وَفِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ مُلْكِهِ مَاتَ "بَهْرَامُ بْنُ هُرْمُزَ" وَمُلِّكَ بَعْدَهُ "بَهْرَامُ بْنُ بَهْرَامَ" عَلَى الْفُرْسِ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَفِي أَيَّامِهِ ظَهَرَ رَجُلٌ فَارِسِيٌّ يُقَالُ لَهُ: "مَانِي" فَأَظْهَرَ دِينَ الْمَانِيَّةِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَخَذَهُ "بَهْرَامُ بْنُ بَهْرَامَ" مَلِكُ الْفُرْسِ فَشَقَّهُ نِصْفَيْنِ، وَأَخَذَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَمِمَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِ مِائَتَيْ رَجُلٍ، فَغَرَسَ رُؤُوسَهُمْ فِي الطِّينِ مُنَكَّسِينَ حَتَّى مَاتُوا مُنَكَّسِينَ.
وَمَلَكَ بَعْدَ قَيْصَرَ هَذَا "فِيلِبْسُ" قَيْصَرُ بِرُومِيَّةَ سَبْعَ سِنِينَ، وَآمَنَ بِالسَّيِّدِ الْمَسِيحِ، وَوَثَبَ عَلَيْهِ قَائِدٌ مِنْ قُوَّادِهِ فَقَتَلَهُ.
ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ قَيْصَرُ آخَرُ اسْمَهُ "دَاقْنُوسُ" وَهُوَ "دِقْيَانُوسُ" وَذَلِكَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ مِنْ مُلْكِ "بَهْرَامَ بْنِ بَهْرَامَ" فَلَقِيَ النَّصَارَى مِنْهُ حُزْنًا طَوِيلًا وَعَذَابًا شَدِيدًا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُحْصَى وَاسْتُشْهِدَ فِي أَيَّامِهِ مِنَ الشُّهَدَاءِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَتَلَ بَطْرَقَ رُومِيَّةَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَدِينَةِ "أَفْسِسَ" فَبَنَى فِي وَسَطِهَا هَيْكَلًا عَظِيمًا وَصَيَّرَ فِيهِ الْأَصْنَامَ، وَأَمَرَ أَنْ يُسْجَدَ لِلْأَصْنَامِ وَيُذْبَحَ لَهَا، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ قُتِلَ، فَقَتَلَ مِنَ النَّصَارَى بِأَفْسِسَ خَلْقًا عَظِيمًا، وَصَلَبَهُمْ عَلَى الْحِصْنِ وَاتَّخَذَ مِنْ أَوْلَادِ عُظَمَاءِ "أَفْسِسَ" سَبْعَةَ غِلْمَانٍ مِنْ خَوَاصِّهِ وَعَلَى كِسْوَتِهِ، وَقَدَّمَهُمْ عَلَى جَمِيعِ مَنْ عِنْدِهِ، وَذَكَرَ أَسْمَاءَهُمْ، أَسْمَاءَ أَصْحَابِ أَهْلِ الْكَهْفِ.
قَالَ: وَهَؤُلَاءِ السَّبْعَةُ الْغِلْمَانُ لَمْ يَسْجُدُوا لِلْأَصْنَامِ، فَأَعْلَمُوا الْمَلِكَ بِخَبَرِهِمْ فَأَمَرَ بِحَبْسِهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَأَطْلَقَ سَبِيلَهُمْ إِلَى حِينِ رُجُوعِهِ.
فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَخَذَ الْغِلْمَانُ كُلَّ مَا لَهُمْ فَتَصَدَّقُوا بِهِ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى جَبَلٍ عَظِيمٍ يُقَالُ لَهُ: "جَاوِسُ" شَرْقِيَّ "أَفْسِسَ" فِيهِ كَهْفٌ كَبِيرٌ فَاخْتَفَوْا فِي الْكَهْفِ، فَكَانَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَتَنَكَّرُ وَيَدْخُلُ الْمَدِينَةَ، فَيَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي شَأْنِهِمْ وَيَشْتَرِي لَهُمْ طَعَامًا وَيَرْجِعُ فَيُعْلِمُهُمْ.
فَقَدِمَ "دِقْيَانُوسُ" الْمَلِكُ فَسَأَلَ عَنْهُمْ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ فِي جَبَلِ "جَاوِسَ" فِي الْكَهْفِ مُخْتَفِينَ.
فَأَمَرَ الْمَلِكُ أَنْ يُبْنَى بَابُ الْكَهْفِ عَلَيْهِمْ لِيَمُوتُوا، وَصَبَّ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النُّعَاسَ، فَنَامُوا كَالْأَمْوَاتِ.
وَأَخَذَ قَائِدٌ مِنْ قُوَّادِهِ صَفِيحَةً مِنْ نُحَاسٍ، وَكَتَبَ فِيهَا خَبَرَهُمْ وَقِصَّتَهُمْ مَعَ "دِقْيَانُوسَ" الْمَلِكِ، وَصَيَّرَ الصَّفِيحَةَ فِي صُنْدُوقِ نُحَاسٍ وَدَفَنَهُ دَاخِلَ الْكَهْفِ، وَبَنَى الْكَهْفَ.
وَمَاتَ الْمَلِكُ "دِقْيَانُوسُ قَيْصَرُ" وَمَلَكَ بَعْدَهُ قَيْصَرَانِ بِرُومِيَّةَ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ قَيْصَرُ آخَرُ اسْمُهُ "غِنْيُونُوسُ" خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَلَكَ بَعْدَهُ قَيْصَرُ آخَرُ سَنَةً وَاحِدَةً وَمَاتَ، وَذَلِكَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ مُلْكِ "هُرْمُزَ".
وَفِي أَوَّلِ سَنَةٍ مِنْ مُلْكِ هَذَا، صَيَّرَ "بُولُسَ" بَطْرَكًا عَلَى أَنْطَاكِيَّةَ وَيُسَمَّى: "بُولُوسُ الشِّمْشَاطِيُّ" قَالَ: وَهُوَ الَّذِي ابْتَدَعَ دِينَ "الْبُولْيَانِيَّةِ"، فَسُمِّيَ التَّابِعُونَ لِدِينِهِ وَالْقَائِلُونَ بِمَقَالَتِهِ بُولْيَانِيِّينَ.
قَالَ: وَكَانَتْ مَقَالَتُهُ: أَنَّ سَيِّدَنَا الْمَسِيحَ خُلِقَ مِنَ اللَّاهُوتِ إِنْسَانًا كَوَاحِدٍ مِنَّا فِي جَوْهَرِهِ، فَإِنَّ ابْتِدَاءَ الِابْنِ مِنْ مَرْيَمَ وَأَنَّهُ اصْطُفِيَ لِيَكُونَ مُخَلِّصًا لِلْجَوْهَرِ الْإِنْسِيِّ، صَحِبَتْهُ النِّعْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ، فَحَلَّتْ فِيهِ بِالْمَحَبَّةِ وَالْمَشِيئَةِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ: "ابْنُ اللَّهِ".
وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ، وَأُقْنُومٌ وَاحِدٌ وَلَا نُؤْمِنُ بِالْكَلِمَةِ، وَلَا بِرُوحِ الْقُدُسِ.
قَالَ: وَبَعْدَ مَوْتِهِ اجْتَمَعَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أُسْقُفًّا فِي مَدِينَةِ "أَنْطَاكِيَةَ" وَنَظَرُوا فِي مَقَالَةِ "بُولُسَ"، فَأَوْجَبُوا عَلَى هَذَا الشِّمْشَاطِيِّ اللَّعْنَ فَلَعَنُوهُ، وَلَعَنُوا مَنْ يَقُولُ مَقَالَتَهُ وَانْصَرَفُوا.
قَالَ: وَبَعْدَهُ مَلَكَ قَيْصَرُ آخَرُ سِتَّ سِنِينَ، اسْمُهُ "أُورَاغُوسُ قَيْصَرَ".
قَالَ: وَكَانَ النَّصَارَى بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي أَيَّامِهِ يُصلُّونَ فِي الْمَطَامِيرِ وَالْبُيُوتِ فَزَعًا مِنَ الرُّومِ، وَلَمْ يَكُنْ يَظْهَرُ بَتْرَكٌ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ; لِئَلَّا يَقْتُلُوهُمْ.
فَلَمَّا صَارَ "نَارُونَ" بَطْرَكًا، ظَهَرَ وَلَمْ يَزَلْ يُدَارِي الرُّومَ حَتَّى بَنَى بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ كَنِيسَةَ "حَنَّا" وَ "مَارِ مَرْيَمَ" وَمَلَكَ بَعْدَهُ قَيْصَرَانِ، ثُمَّ قَيْصَرُ اسْمُهُ "فَارُوسُ" وَذَلِكَ فِي تِسْعِ سِنِينَ مِنْ مُلْكِ "سَابُورَ بْنِ هُرْمُزَ". وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى النَّصَارَى، قَتَلَ الْأَخَوَيْنِ "قَزْمَانَ" وَ "دِمْيَانَ" الشَّهِيدَيْنِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ "دِقْيِطْيَانُوسُ".
قَالَ: فَمِنْ خَرَابِ "طِيطَسَ" لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى مُلْكِ "دِقْيِطْيَانُوسَ" مِائَتَانِ وَسِتِّ سِنِينَ، وَمِنْ مَوْلِدِ سَيِّدِنَا الْمَسِيحِ إِلَى "دِقْيِطْيَانُوسَ" مِائَتَانِ وَسِتٌّ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَمِنَ الْإِسْكَنْدَرِ إِلَى "دِقْيِطْيَانُوسَ" خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَمِنْ سَبْيِ بَابِلَ إِلَى "دِقْيِطْيَانُوسَ" أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَمِنْ دَاوُدَ إِلَى "دِقْيِطْيَانُوسَ" أَلْفٌ وَتِسْعُمِائَةٍ وَإِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سَنَةً.
قَالَ: وَمَلَكَ "دِقْيِطْيَانُوسْ" فِي إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ مُلْكِ "سَابُورَ بْنِ هُرْمُزَ" مَلِكِ الْفُرْسِ، وَمَلَكَ مَعَهُ اثْنَانِ تَمَلَّكَا عَلَى الرُّومِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَهَؤُلَاءِ أَثَارُوا عَلَى النَّصَارَى بَلَاءً عَظِيمًا وَحُزْنًا طَوِيلًا وَعَذَابًا أَلِيمًا وَشِدَّةً شَدِيدَةً تَجِلُّ عَنِ الْوَصْفِ مِنَ الْقَتْلِ وَالْعَذَابِ وَاسْتِبَاحَةِ الْأَمْوَالِ، وَاسْتَشْهَدُوا أُلُوفًا مِنَ الشُّهَدَاءِ وَعَذَّبُوا "مَارِي جِرْجِسَ" أَصْنَافَ الْعَذَابِ وَقَتَلُوهُ بِفِلَسْطِينَ، وَقَتَلُوا "مَارِي مِينَا" وَ "مَارِي بَقْطَرَ" وَغَيْرَهُمَا.
قَالَ: وَفِي عَشْرِ سِنِينَ مِنْ مُلْكِهِمَا صُيِّرَ "بُطْرُسُ" بَطْرَكًا عَلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَأَقَامَ عَشْرَ سِنِينَ وَقُتِلَ.
وَفِي عِشْرِينَ سَنَةً مِنْ مُلْكِهِمَا، ضُرِبَ عُنُقُ بُطْرُسَ هَذَا الْبَطْرَكِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ.
قَالَ: وَكَانَ لِبُطْرُسَ تِلْمِيذَانِ، اسْمُ أَحَدِهِمَا "أَشْلَا" وَالْآخُرِ "الْأَكْصَنْدَرُوسُ" وَكَانَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: "أُورْيُوسُ" يَقُولُ: إِنَّ الْأَبَ وَحْدَهُ اللَّهُ الْفَرْدُ، وَالِابْنُ مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ، وَقَدْ كَانَ "الْأَبُ" إِذْ لَمْ يَكُنِ الِابْنُ.
فَقَالَ "بُطْرُسُ" الْبَطْرَكُ لِتِلْمِيذَيْهِ: إِنَّ الْمَسِيحَ لَعَنَ "أَرِيُوسَ" فَاحْذَرَا أَنْ تَقْبَلَا قَوْلَهُ، فَإِنِّي رَأَيْتُ الْمَسِيحَ فِي النَّوْمِ مَشْقُوقَ الثَّوْبِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي مَنْ شَقِّ ثَوْبَكَ؟ فَقَالَ لِي: "أَرِيُوسُ"، فَاحْذَرُوا أَنْ تَقْبَلُوهُ وَيَدْخُلَ مَعَكُمُ الْكَنِيسَةَ، كَنِيسَةَ اللَّهِ.
قَالَ: وَبَعْدَ قَتْلِ "بُطْرُسَ" بِخَمْسِ سِنِينَ صُيِّرَ "أَشِيلَا" بَطْرَكًا عَلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَأَقَامَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَمَاتَ.
وَكَانَ "أَرِيُوسُ" قَدِ اسْتَعَانَ عَلَى "أَشْلَا" بِأَصْدِقَائِهِ، فَأَوْرَى أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ عَنْ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، فَقَبِلَهُ "أَشْلَا" وَأَدْخَلَهُ الْكَنِيسَةَ وَجَعَلَهُ قِسِّيسًا.
قَالَ: وَأَمَّا "دِقِيطْيَانُوسُ" الْمَلِكُ فَكَانَ يَطْلُبُ النَّصَارَى فَيَقْتُلُهُمْ.
فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ فِي طَلَبِهِمْ إِذْ بَلَغَ إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: "مَلْطِيَّةَ" فَصَبَّ اللَّهُ عَلَيْهِ نِقْمَتَهُ، فَوَقَعَ فِي عِلَلٍ عَظِيمَةٍ وَأَمْرَاضٍ عَظِيمَةٍ حَتَّى ذَابَ جِسْمُهُ، وَكَانَ الدُّودُ يَتَسَاقَطُ مِنْ بَدَنِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَسَقَطَ لِسَانُهُ مِنْ حَنَكِهِ وَمَاتَ.
وَمَلَكَ بَعْدَهُ قَيْصَرَانِ، أَحَدُهُمَا الْمَشْرِقَ وَالشَّامَ وَأَرْضَ الرُّومِ، وَالْآخَرُ رُومِيَّةَ وَنَحْوَهَا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا اسْمُهُ "عَلَانْيُوسُ" وَالْآخَرُ "مَقْصُطْيُوسُ" فَكَانَا كَالسِّبَاعِ الضَّارِيَةِ عَلَى النَّصَارَى
– الشيخ : ما في فصل ولا شيء؟
– القارئ : والله مطول يا شيخ
– الشيخ : عفا اللهُ عنه، الشَّيخ عجيب في نقل هذه النُّقول الطَّويلة المملَّة! بالنِّسبة لنا مملَّةٌ، وكأنَّه يريد أن يذكرَ ما جرى على النَّصارى من المحنِ وتسليط أعدائِهم عليهم، وهؤلاءِ القياصرةُ واضحٌ أنَّهم منسوبونَ للرُّوم وكأنَّهم كانوا وثنيِّين ولهذا يدعون لبناء الهياكلِ ويقتلون النَّصارى؛ لأنَّ النَّصارى يدينون بدينِ أصلِهِ…، دينٌ صحيحٌ ليسَ وثنيًّا، فهؤلاءِ القياصرةُ ملوكٌ استهدفُوا النَّصارى تسلَّطوا عليهم وعذَّبوهم بالقتلِ والتَّشريد وتتبُّعِ أعيانهم، وبنو إسرائيلَ مرَّ عليهم محنٌ قالَ اللهُ: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء:4-5]، والمفسِّرون يقولون: إنَّ الَّذين سُلِّطُوا على بني إسرائيلَ هو بختنصَّر من ملوكِ الفرسِ وأنَّهم…، وكأن ما في الآية قبل الأحداثِ الَّتي نقلَ الشَّيخُ عن هذا الأسقفِّ أو النَّصرانيِّ الَّذي سمَّاه "سعيد"، ولكن في الحقيقة فائدتُنا من هذا السَّردِ قليلةٌ، حسبُك، أقولُ: قفْ على هذا
– طالب: هؤلاء الملوكُ يدينون بدينِ اليهوديَّة أو النَّصارى
– الشيخ : لا لا، الملوكُ هذول [هؤلاء] هم يقتلون النَّصارى
– طالب: هم يقتلون النَّصارى؟
– الشيخ : نعم
– طالب: لهم ديانةٌ؟
– الشيخ : حسبَ العرضِ الَّذي ذكرَه وثنيُّون، كـأنَّهم رومٌ، يقول: من الرُّوم، من اليونانِ وأشباهِهم
– القارئ : على دينِ الفلاسفةِ وإلَّا…؟
– الشيخ : لا، القياصرةُ ملوكٌ ملوكٌ، لعلَّه سيأتي تعقيبٌ للشَّيخ وإلَّا شيء نستفيدُ منه.