بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الجواب الصَّحيح لِمَن بدّل دين المسيح) لابن تيمية
الدّرس: التَّاسع والثّلاثون بعد المئة
*** *** *** ***
– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللَّهمَّ اغفرْ لشيخِنا وللحاضرينَ والمستمعينَ. قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمَهُ اللهُ تعالى وأسكنَهُ فسيحَ جنانِهِ- في كتابِهِ: "الجوابِ الصَّحيحِ لِمَن بدَّلَ دينَ المسيحِ":
قالَ رحمَهُ اللهُ: قُلْتُ: هَذَا آخِرُ مَا كَتَبْتُهُ مِنْ كَلَامِ الْحَسَنِ بْنِ أَيُّوبَ، وَهُوَ مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَجِلَّاءِ عُلَمَاءِ النَّصَارَى وَأَخْبَرِ النَّاسِ بِأَقْوَالِهِمْ، فَنَقْلُهُ لِقَوْلِهِمْ أَصَحُّ مِنْ نَقْلِ غَيْرِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنَ الرَّدِّ عَلَى مَا يَحْتَجُّونَ بِهِ مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ، وَمَا يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ مِنَ الْحُجَجِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَعَ ذَلِكَ كَلَامَ مَنْ نَقَلَ مَذَاهِبَهِمْ مِنْ أَئِمَّتِهِمُ الْمُنْتَصِرِينَ لِدِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَنَذْكُرُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ حُجَجِهِمْ، مِثْلَ ابْنِ الْبِطْرِيقِ، بَتْرَكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَإِنَّهُ صَنَّفَ كِتَابَهُ الَّذِي سَمَّاهُ "نَظْمُ الْجَوْهَرِ" وَذَكَرَ فِيهِ أَخْبَارَ النَّصَارَى وَمَجَامِعَهُمْ وَاخْتِلَافَهُمْ، وَسَبَبَ إِحْدَاثِهِمْ مَا أَحْدَثُوهُ مَعَ انْتِصَارِهِ لِقَوْلِ الْمَلِكِيَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْبِطْرِيقِ بَطْرِيَرْكُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي تَارِيخِهِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ النَّصَارَى الَّذِي سَمَّاهُ "نَظْمُ الْجَوْهَرِ"، وَذَكَرَ فِيهِ مَبْدَأَ الْخَلْقِ وَتَوَارِيخَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْأُمَمِ وَأَخْبَارَ مُلُوكِ الرُّومِ وَأَصْحَابِ الْكَرَاسِيِّ بِرُومِيَّةَ وَقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَغَيْرِهِمَا، وَوَصَفَ دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ وَفِرَقَ أَهْلِهَا، وَهُوَ مَلِكِيٌّ، رَدَّ عَلَى سَائِرِ طَوَائِفِ النَّصَارَى لَمَّا ذَكَرَ مَوْلِدَ الْمَسِيحِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ- وَأَنَّهُ وُلِدَ فِي عَهْدِ مَلِكِ الرُّومِ قَيْصَرَ الْمُسَمَّى أُغُسْطُسَ لِثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ مُلْكِهِ
– الشيخ : الْمُسَمَّى أُغُسْطُسَ؟
– القارئ : نعم
– الشيخ : على اسمِ الشَّهر الَّذين تعرفون الآن، لأن عرفنا أنَّ هذا اسم الشَّهر، هذا الَّذي يكونُ في عزِّ الصَّيفِ عندَنا.
– القارئ : وَأَنَّهُ وُلِدَ فِي عَهْدِ مَلِكِ الرُّومِ قَيْصَرَ الْمُسَمَّى أُغُسْطُسَ لِثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ مُلْكِهِ، قَالَ: وَمَلَكَ سِتًّا وَخَمْسِينَ سَنَةً.
قَالَ: وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنَهُ "طِيبَارْيُوسُ" قَيْصَرُ بِرُومِيَّةَ، وَلِلْمَسِيحِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَكَانَ لِقَيْصَرَ هَذَا صَدِيقٌ يُقَالُ لَهُ "بِلَاطِسُ" مِنْ قَرْيَةٍ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ الَّذِي تَحْتَ "قُسْطَنْطِينِيَّةَ" وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْبَحْرُ "السُّطْسُ" وَلِذَلِكَ يُسَمَّى "بِلَاطِسُ النَّبَطِيُّ" فَوَلَّاهُ عَلَى أَرْضِ "يَهُوذَا".
قَالَ: وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ مُلْكِ "طِيبَارْيُوسَ" قَيْصَرَ هَذَا ظَهَرَ "يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا الْمَعْمِدَانِيُّ،" فَعَمَّدَ
– الشيخ : تاريخٌ قديمٌ، هذا كلُّه تاريخٌ يتَّصلُ بتاريخِ بني إسرائيل، يَحْيَى الْمَعْمِدَانِيُّ هو ابْنُ زَكَرِيَّا يعنونَ به النَّبيَّ، يقولُ: وفي
– القارئ : قَالَ: وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ مُلْكِ "طِيبَارْيُوسَ" قَيْصَرَ هَذَا ظَهَرَ "يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا الْمَعْمِدَانِيُّ،" فَعَمَدَ الْيَهُودَ فِي الْأُرْدُنِّ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا.
– الشيخ : عندَك فعملَ؟
– القارئ : عندي بدونِ شدَّة "فَعَمَدَ الْيَهُودَ فِي الْأُرْدُنِّ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا"
– الشيخ : عَمَّدَ عَمَّدَ
– القارئ : فَعَمَّدَ الْيَهُودَ فِي الْأُرْدُنِّ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا.
فَجَاءَ الْمَسِيحُ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا فَعَمَّدَهُ يَحْيَى فِي الْأُرْدُنِّ، وَلِسَيِّدِنَا الْمَسِيحِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، وَذَكَرَ قِصَّةَ قَتْلِ يَحْيَى، وَقِصَّةَ الصَّلْبِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ النَّصَارَى.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَكَتَبَ "بِلَاطِسُ" إِلَى "طِيبَارْيُوسَ" الْمَلِكِ بِخَبَرِ سَيِّدِنَا الْمَسِيحِ وَمَا تَفْعَلُ تَلَامِيذُهُ مِنَ الْعَجَائِبِ الْكَثِيرَةِ مِنْ إِبْرَاءِ الْمَرْضَى وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى.
فَأَرَادَ أَنْ يُؤْمِنَ بِسَيِّدِنَا الْمَسِيحِ وَيُظْهِرَ دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ، فَلَمْ يُتَابِعْهُ أَصْحَابُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَلَكَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ.
وَذَكَرَ أَنَّ فِي عَصْرِهِ بُنِيَتْ مَدِينَةُ "طَبَرِيَّةَ" مُشْتَقَّةٌ مِنَ اسْمِهِ.
قَالَ: وَمَلَكَ بَعْدَهُ قَيْصَرُ آخَرُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ. قَتَلَ "بِلَاطِسَ" وَوَلَّى شَخْصًا كَانَ شَدِيدًا عَلَى تَلَامِيذِ الْمَسِيحِ، وَقَتَلَ رَئِيسَ الشُّهَدَاءِ وَالشَّمَامِسَةِ، فَرُجِمَ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى مَاتَ.
وَذَكَرَ أَنَّهُ لَقِيَ التَّلَامِيذُ مِنَ الْيَهُودِ وَمِنَ الرُّومِ شِدَّةً شَدِيدَةً، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرَةٌ، وَأَنَّهُ مَاتَ هَذَا وَوَلِيَ بَعْدَهُ قَيْصَرُ آخَرُ، وَفِي زَمَنِهِ وَقَعَ جُوعٌ وَوَبَاءٌ وَفِي زَمَنِهِ كَتَبَ "مَتَّى" وَبَيَّنَ إِنْجِيلَهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفَسَّرَهُ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ إِلَى الرُّومِيَّةِ "يُوحَنَّا" صَاحِبُ الْإِنْجِيلِ.
قَالَ: وَفِي تِسْعِ سِنِينَ مِنْ مُلْكِهِ كَانَ "مُرْقُسُ" صَاحِبُ الْإِنْجِيلِ بِمَدِينَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ شَخْصٍ جُعِلَ بَطْرِيَرْكًا عَلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَأَنَّهُ صَيَّرَ مَعَهُ اثْنَيْ عَشَرَ قِسِّيسًا وَأَمَرَهُمْ إِذَا مَاتَ الْبَطْرِيَرْكُ أَنْ يَخْتَارُوا وَاحِدًا مِنْ الِاثْنَيْ عَشَرَ قِسِّيسًا، وَيَضَعَ الِاثْنَا عَشَرَ قِسِّيسًا أَيْدِيَهُمْ عَلَى رَأْسِهِ وَيُبَارِكُونَهُ وَيُصْلِحُونَهُ بَطْرِيَرْكًا، ثُمَّ يَخْتَارُونَ رَجُلًا فَاضِلًا قِسِّيسًا وَيُصَيِّرُونَهُ مَعَهُمْ بَدَلَ الْقِسِّيسِ الَّذِي أَصْلَحُوهُ بَتْرَكًا، لِيَكُونَ اثْنَيْ عَشَرَ أَبَدًا.
فَلَمْ يَزَلْ رَسْمُهُمْ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ عَلَى هَذَا إِلَى زَمَنِ الثَّلَاثِمِائَةِ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ.
فَأَمَرَهُمْ بَطْرِيَرْكُ الَّذِي كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الثَّلَاثِمِائَةِ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلَّا يُفْعَلَ هَذَا فِيمَا بَعْدُ، وَمَنَعَ أَنْ يُصْلِحَ الْأَقِسَّاءُ الْبَتْرَكَ، بَلْ يَخْتَارُوا مِنْ أَيِّ بَلَدٍ كَانَ رَجُلًا فَاضِلًا، وَإِذَا مَاتَ الْبَتْرَكُ اجْتَمَعَ الْأَسَاقِفَةُ فَأَصْلَحُوا الْبَتْرَكَ
– الشيخ : "الْبَتْرَكَ" هو الَّذي في المشهورِ البتريك هو البتريك أو البطريق، والقاف والكاف يتعاقبانِ.
– القارئ : مِنْ أَيِّ بَلَدٍ كَانَ مِنْ أُولَئِكَ الْأَقِسَّةِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ.
فَانْقَطَعَ الرَّسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ إِصْلَاحِ الْأَقِسَّاءِ الْبَتْرَكَ، وَجَعَلَ التَّيْسِيرَ لَهُمْ فِي إِصْلَاحِ الْبَتْرَكِ بَابَا، ثُمَّ سَمَّى بَتْرَكَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بَابَا، وَمَعْنَاهُ الْجَدُّ.
وَمِنْ حَنَانْيَا الَّذِي أَصْلَحَهُ "مُرْقُسُ الْبَشِيرُ" إِلَى حَادِي عَشَرَ بَطْرَكًا بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، لَمْ يَكُنْ فِي عَمَلِ مِصْرَ أُسْقُفٌّ وَلَمْ يَكُنِ الْبَطَارِكَةُ قَبْلَهُ أَصْلَحُوا أَسْقُفًّا، وَأَنَّ الْعَامَّةَ لَمَّا سَمِعَتِ الْأَسَاقِفَةَ يُسَمُّونَ الْبَطْرِيَرْكَ أَبًا قَالُوا: إِذَا كُنَّا نَحْنُ نُسَمِّي الْأَسْقُفَّ أَبًا، وَالْأَسْقُفُّ يُسَمِّي الْبَطْرِيكَ أَبًا، فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُسَمِّيَ الْبَطْرِيَرْكَ بَابَا; أَيِ الْجَدُّ، إِذْ كَانَ أَبًا لِأَبِيِنَا، فَسُمِّيَ بَطْرِيَرْكُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مِنْ وَقْتِ "هِرَقْلَ" بَابَا، أَيِ: الْجَدُّ.
قَالَ: وَخَرَجَ "مُرْقُسُ" إِلَى "بَرْقَةَ" يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ بِالسَّيِّدِ الْمَسِيحِ وَمَاتَ "قُلُودْيُوسُ" قَيْصَرُ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ "نَارُونُ" ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قَالَ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَهَاجَ عَلَى النَّصَارَى الشَّرَّ وَالْبَلَاءَ وَالْعَذَابَ.
قَالَ: وَفِي عَصْرِهِ كَتَبَ "بُطْرُسُ" رَئِيسُ الْحَوَارِيِّينَ الْإِنْجِيلَ "إِنْجِيلَ مُرْقُسَ" عَنْ مُرْقُسَ بِمَدِينَةِ رُومِيَّةَ، وَنَسَبَهُ إِلَى مُرْقُسَ.
قَالَ: وَفِي عَصْرِ هَذَا الْمَلِكِ كَتَبَ "لُوقَا" إِنْجِيلَهُ بِالرُّومِيَّةِ إِلَى رَجُلٍ شَرِيفٍ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّومِ يُقَالُ لَهُ: "فُوفِيلَّا" فَكَتَبَ لَهُ أَيْضًا الْأَبْرِكْسِسَ الَّذِي فِيهِ أَخْبَارُ التَّلَامِيذِ.
– الشيخ : التَّلاميذ كأنَّهم الحواريُّون يسمُّونهم تلاميذَ المسيحِ.
– القارئ : وَقَدْ كَانَ "لُوقَا الْبَشِيرُ" صَاحِبُ " بُوُلُسَ الرَّسُولِ" يَقُولُ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ: أَنَّ " لُوقَا " الطَّبِيبَ يَقُولُ: "عَلَيْكُمُ السَّلَامُ".
وَقَالَ: وَأَخَذَ ثَارُونُ قَيْصَرُ لِبُطْرُسَ فَصَلَبَهُ مُنَكَّسًا، ثُمَّ قَتَلَهُ، لِأَنَّ بُطْرُسَ قَالَ لَهُ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَصْلُبَنِي فَاصْلُبْنِي مُنَكَّسًا، لِئَلَّا أَكُونَ مِثْلَ سَيِّدِي الْمَسِيحِ، فَإِنَّهُ صُلِبَ قَائِمًا، وَضُرِبَ عُنُقُ بُوُلُسَ الرَّسُولِ بِالسَّيْفِ.
وَأَقَامَ بُطْرُسُ بَعْدَ صُعُودِ الْمَسِيحِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
قَالَ: وَكَانَ مُرْقُسُ صَاحِبُ الْإِنْجِيلِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَبَرْقَةَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ فَأَقَامَ سَبْعَ سِنِينَ.
وَفِي أَوَّلِ سَنَةٍ مِنْ مُلْكِ نَارُونَ قَيْصَرَ قُتِلَ مُرْقُسُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَأُحْرِقَ جَسَدُهُ بِالنَّارِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ عِدَّةَ قَيَاصِرَةٍ، وَذَكَرَ أَنَّ "طِيطَسَ" خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِسَبْعِينَ سَنَةً، بَعْدَ أَنْ حَاصَرَهَا وَأَصَابَ أَهْلَهَا جُوعٌ عَظِيمٌ، وَقُتِلَ كُلُّ مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى حَتَّى كَانُوا يَشُقُّونَ بُطُونَ الْحَبَالَى وَيَضْرِبُونَ بِأَطْفَالِهِمُ الصُّخُورَ.
وَخَرَّبَ الْمَدِينَةَ وَالْهَيْكَلَ، وَأَضْرَمَ بِهَا النَّارَ، وَأَحْصَى الْقَتْلَى عَلَى يَدَيْهِ فَكَانُوا ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفٍ.
وَذَكَرَ عِدَّةَ قَيَاصِرَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ وَلِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، يُقَالُ لَهُ: "ذُومَا طِيَانُوسُ" وَكَانَ شَدِيدًا جِدًّا عَلَى الْيَهُودِ، وَأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ أَنَّ الْمَسِيحَ مَلِكُهُمْ، وَأَنَّ مُلْكَهُ إِلَى الدَّهْرِ.
فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَأَمَرَ بِقَتْلِ النَّصَارَى، وَأَلَّا يَكُونَ فِي مُلْكِهِ نَصْرَانِيٌّ.
وَكَانَ "يُوحَنَّا" صَاحِبُ الْإِنْجِيلِ هُنَاكَ فَسَمِعَ بِهَذَا، فَخَافَ وَهَرَبَ إِلَى أَفْسِسَ.
ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِإِكْرَامِهِمْ وَتَرْكِ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ تَوَلَّى بَعْدَهُ قَيْصَرُ آخَرُ سَنَةً وَبَعْضَ أُخْرَى، ثُمَّ مَلَكَ آخَرُ بَعْدَهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، يُسَمَّى "طِرَايَانُوسُ".
قَالَ: وَهَذَا الْمَلِكُ أَثَارَ عَلَى النَّصَارَى بَلَاءً عَظِيمًا وَحُزْنًا طَوِيلًا، وَقَتَلَ شُهَدَاءَ كَثِيرَةً، وَقَتَلَ بَطْرِيَرْكَ إِنْطَاكِيَةَ بِرُومِيَّةَ وَقَتَلَ أَسْقُفَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَصَلَبَهُ وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَأَمَرَ أَنْ يُسْتَعْبَدَ النَّصَارَى إِذْ لَيْسَ لَهُمْ دِينٌ وَلَا شَرِيعَةٌ.
فَلِشِدَّةِ مَا اسْتُعْبِدَ النَّصَارَى وَغِلَظِ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ، رَحِمَتْهُمُ الرُّومُ وَشَهِدَ وُزَرَاءُ الْمَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّ النَّصَارَى لَهُمْ شَرِيعَةٌ وَدِينٌ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُسْتَعْبَدُوا، فَكَفَّ عَنْهُمُ الْأَذِيَّةَ.
قَالَ: وَفِي عَصْرِهِ كَتَبَ "يُوحَنَّا" إِنْجِيلَهُ بِالرُّومِيَّةِ فِي جَزِيرَةٍ يُقَالُ لَهَا: "تِيمْرَا" مِنْ أَرْضِ الرُّومِ مِنْ أَرْضِ "أُثِينَةَ" فِي عَصْرِ رَجُلٍ مِنْ عُظَمَاءَ الرُّومِ
– الشيخ : اسمها "أُثِينَةَ"
– القارئ : نعم
– الشيخ : أو أثينة
– القارئ : يقولُ: أتَتْه بدون تنقيطٍ وفيها أُثينية بدلًا من أُثينة، وفي تاريخِ ابن بطريق "آسيا"، سبقَ التَّعريفُ بها.
فِي عَصْرِ رَجُلٍ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّومِ فَيْلَسُوفٍ يُقَالُ لَهُ: "مُومُودِسُ".
قَالَ: وَفِي ذَلِكَ الْعَصْرِ رَجَعَ الْيَهُودُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
فَلَمَّا كَثُرُوا وَامْتَلَأَتْ مِنْهُمُ الْمَدِينَةُ، عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُمَلِّكُوا مِنْهُمْ مَلِكًا، فَبَلَغَ الْخَبَرُ "طِيبَارْيُوسَ قَيْصَرَ" فَوَجَّهَ بِقَائِدٍ مِنْ قُوَّادِهِ بِجَيْشٍ عَظِيمٍ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَتَلَ مِنَ الْيَهُودِ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً.
قَالَ: وَخَرَجَ عَلَى قَيْصَرَ هَذَا خَارِجِيٌّ مُقَاتِلٌ بِبَابِلَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَوَقَعَتْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ عَظِيمٌ، وَقُتِلَ قَيْصَرُ فِي الْحَرْبِ.
وَمَلَكَ بَعْدَهُ "أَنْدِرْيَانُوسُ قَيْصَرَ" عِشْرِينَ سَنَةً، فَخَرَجَ إِلَى ذَلِكَ الْخَارِجِيِّ بِبَابِلَ فَهَزَمَهُ، وَصَارَ إِلَى مِصْرَ فَلَقِيَ مِنْهُ أَهْلُ مِصْرَ شِدَّةً شَدِيدَةً، وَأَخَذَ النَّاسَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَقَتَلَ مِنَ النَّصَارَى خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَصَابَ "إِيلِيَا" ابْنَهُ عِلَّةٌ فِي بَدَنِهِ، فَكَانَ يُنْفِذُ إِلَى الْبُلْدَانِ يَطْلُبُ شِفَاءً لِعِلَّتِهِ، فَوَصَفُوا لَهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ.
فَلَمَّا وَافَاهَا رَآهَا خَرَابًا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ إِلَّا كَنِيسَةً لِلنَّصَارَى، فَأَمَرَ أَنْ تُبْنَى الْمَدِينَةُ وَتُحَصَّنَ بِحِصْنٍ قَوِيٍّ.
فَلَمَّا سَمِعَ الْيَهُودُ أَقْبَلُوا مِنْ كُلِّ بَلَدِ وَكُلِّ مَدِينَةٍ، فَمَا كَانَ إِلَّا زَمَانٌ قَلِيلٌ حَتَّى امْتَلَأَتْ مِنْهُمُ الْمَدِينَةُ، فَلَمَّا كَثُرُوا مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ مَلِكًا.
فَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِإِيلِيَا بْنِ قَيْصَرَ إِنْدِرْيَانُوسَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ بِقَائِدٍ مِنْ قُوَّادِهِ مَعَ خَلْقٍ كَثِيرٍ، فَحَاصَرَ الْمَدِينَةَ، فَمَاتَ كُلُّ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، ثُمَّ فَتَحَهَا فَقَتَلَ مِنَ الْيَهُودِ مَا لَا يُحْصَى، وَهَدَمَ الْحِصْنَ وَخَرَّبَ الْمَدِينَةَ حَتَّى صَيَّرَهَا صَحْرَاءَ.
قَالَ: وَهَذَا آخِرُ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهَرَبَ مِنَ الْيَهُودِ مَنْ هَرَبَ إِلَى مِصْرَ وَإِلَى الشَّامِ وَإِلَى الْجِبَالِ وَإِلَى الْغَوْرِ.
وَأَمَرَ الْمَلِكُ أَلَّا يَسْكُنَ الْمَدِينَةَ يَهُودِيٌّ، وَأَنْ يُقْتَلَ الْيَهُودُ وَيُسْتَأْصَلُوا، وَأَنْ يَسْكُنَ الْمَدِينَةَ الْيُونَانُ وَيَبْنُوا عَلَى بَابِ الْهَيْكَلِ بُرْجًا، وَيُجْعَلَ فَوْقَهُ أَلْوَاحًا وَيَكْتُبُوا عَلَيْهِ اسْمَ "إِيلِيَا الْمَلِكِ" وَذَلِكَ مِنْ ثَمَانِ سِنِينَ مِنْ مُلْكِهِ.
قَالَ: وَالْبُرْجُ الْيَوْمَ عَلَى بَابِ مَدِينَةِ الْقُدْسِ، وَيسُمَّى مِحْرَابُ دَاوُدَ.
قَالَ: فَسُمِّيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ "إِيلِيَا".
فَمِنَ الْخَرَابِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَخْرَبَهُ "طِيطَسُ" إِلَى هَذَا الْخَرَابِ ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً.
وَامْتَلَأَتْ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مِنَ الْيُونَانِيِّينَ، فَنَظَرُوا إِلَى النَّصَارَى يَأْتُونَ إِلَى تِلْكَ الْمَزْبَلَةِ الَّتِي فِيهَا الْقَبْرُ وَالْأَقْرَانِيُّونَ، فَيُصَلُّونَ، فَمَنَعُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
وَبَنَى الْيُونَانِيُّونَ عَلَى تِلْكَ الْمَزْبَلَةِ هَيْكَلًا عَلَى اسْمِ الزُّهْرَةِ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقْرَبَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ.
قَالَ: ثُمَّ مَاتَ "إِيلِيَا الْمَلِكُ"
– الشيخ : إلى آخره
– القارئ : باقٍ شيءٌ بسيطٌ على نهايةِ الفصلِ
– الشيخ : واللهِ الشَّيخُ -رحمَه اللهُ- توسَّعَ في النَّقل، رحمه اللهُ، النقل الأول، وفي هذا النَّقل كذلك .