بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الجواب الصَّحيح لِمَن بدّل دين المسيح) لابن تيمية
الدّرس: الخمسون بعد المئة
*** *** *** ***
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلينَ، نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعينَ، أمَّا بعدُ:
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: قَوْلُكُمْ: (وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُرَى شيئًا مِنْ لَطِيفِ الْخَلْقِ إِلَّا فِي غَلِيظِ الْخَلْقِ، وَلَا يُرَى مَا هُوَ لَطِيفٌ مِنَ اللَّطِيفِ إِلَّا مَعَ مَا هُوَ أَغْلَطُ مِنْهُ).
يُقَالُ لَهُمْ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ لَمَّا اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ عِنْدَكُمْ قَدْ رَآهُ النَّاسُ وَعَايَنُوهُ، أَوْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: قَدْ رَآهُ النَّاسُ وَعَايَنُوهُ، فَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ.
أَمَّا الْحِسُّ، فَإِنَّ أَحَدًا مِمَّنْ رَأَى الْمَسِيحَ لَمْ يَرَ شَيْئًا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمَسِيحُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ غَيْرَ الْعَجَائِبِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى غَيْرِهِ، مِنْهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرَ إِلَّا بَدَنَ الْمَسِيحِ الظَّاهِرَ، لَمْ يَرَ بَاطِنَهُ، لَا قَلْبَهُ وَلَا كَبِدَهُ وَلَا طِحَالَهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَرَى رُوحَهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَرَى الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ يُوحُونَ إِلَيْهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَرَى اللَّهَ، إِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ كَانَ مُتَّحِدًا بِهِ أَوْ حَالًّا فِيهِ.
فَدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ مَنْ رَأَى الْمَسِيحَ فَقَدْ رَأَى اللَّهَ عِيَانًا بِبَصَرٍ، فِي غَايَةِ الْمُبَاهَتَةِ وَالْمُكَابَرَةِ وَالْكَذِبِ، لَوْ قُدِّرَ أَنَّ اللَّهَ حَالٌّ فِيهِ، أَوْ مُتَّحِدٌ بِهِ.
فَإِنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ عَلَى الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ وَتَتَّصِلُ بِأَرْوَاحِهِمْ، وَالنَّاسُ لَا يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ، بَلِ الْجِنُّ تَدْخُلُ فِي بَنِي آدَمَ وَالنَّاسُ لَا يَرَوْنَهُمْ، وَإِنَّمَا يَرَوْنَ جَسَدَ الْمَصْرُوعِ.
وَكُلُّ إِنْسَانٍ مَعَهُ قَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَهُوَ نَفْسُهُ لَا يَرَى ذَلِكَ، وَلَا يَرَاهُ مَنْ حَوْلَهُ.
وَتَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ وَقْتَ الْمَوْتِ وَلَا يَرَاهُمْ مَنْ حَوْلَهُ مَعَ أَنَّهُ هُوَ يَرَاهُمْ، قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:83-87]. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ الَّتِي اتَّفَقَ أَهْلُ الْمِلَلِ عَلَى اقْتِرَانِهَا بِالْإِنْسَانِ وَاتِّصَالِهَا بِهِمْ، وَأَنَّ رُؤْيَتَهَا مُمْكِنَةٌ – لَا يَرَاهَا النَّاسُ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ الْمَسِيحَ الَّذِي لَمْ يَرَ النَّاسُ مِنْهُ إِلَّا مَا رَأَوْهُ مِنْ أَمْثَالِهِ مِنَ الرُّسُلِ كَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَطُّ شَيْءٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ جِنْسِ الرُّسُلِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ الَّذِينَ رَأَوْهُ، رَأَوُا اللَّهَ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ؟
– الشيخ : سبحانَكَ هذا بهتانٌ عظيمٌ! ما أسفهَهم حيثُ يدَّعون الكذبَ الظَّاهرَ المناقضَ -كما قالَ الشَّيخ- للحسِّ والعقلِ والشَّرعِ، مكابرةً ومعاندةً!
– القارئ : وَأَمَّا الشَّرْعُ، فَمُوسَى وَالْمَسِيحُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَخْبَرُوا أَنَّ أَحَدًا لَا يَرَى اللَّهَ فِي الدُّنْيَا.
وَأَمَّا الْعَقْلُ، فَإِنَّ رُؤْيَةَ بَعْضِ مَلَائِكَةِ اللَّهِ، أَوْ بَعْضِ الْجِنِّ يَظْهَرُ لِرَائِيهَا مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْأَحْوَالِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ رَأَى اللَّهَ؟
وَالَّذِينَ رَأَوُا الْمَسِيحَ لَمْ يَكُنْ حَالُهُمْ إِلَّا كَحَالِ سَائِرِ مَنْ رَأَى الرُّسُلَ، مِنْهُمُ الْكَافِرُ بِهِ الْمُكَذِّبُ لَهُ، وَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ بِهِ الْمُصَدِّقُ لَهُ، بَلْ هُمْ يَذْكُرُونَ مِنْ إِهَانَةِ نَاسُوتِهِ مَا لَا يُعْرَفُ عَنْ نُظَرَائِهِ مِنَ الرُّسُلِ، مِثْلَ ضَرْبِهِ، وَالْبُصَاقِ فِي وَجْهِهِ، وَوَضْعِ الشَّوْكِ عَلَى رَأْسِهِ، وَصَلْبِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
– الشيخ : أعوذُ بالله، أعوذُ بالله، عقيدةُ الصَّلبِ هذه عندَهم، اليهودُ يدَّعون أنَّهم صلبُوه، والنَّصارى وافقُوهم وأقرُّوا بدعوى اليهودِ، ثمَّ إنَّهم في العصورِ المتأخِّرة في هذا العصرِ يزعمونَ أنَّ النَّصارى برَّؤُوا اليهودَ من صلبِ المسيحِ، والمسيحُ بريءٌ لم يُصلَبْ، لكنَّ اليهودَ متحمِّلون لإثمِ الصَّلبِ لأنَّهم يدَّعون صلبَه، وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]
– القارئ : وَأَيْضًا فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ رَأَى اللَّهَ إِمَّا أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ اللَّهُ، أَوْ لَا يَعْرِفَ.
فَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُ رَأَى اللَّهَ، كَانَ الَّذِينَ رَأَوُا الْمَسِيحَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ اللَّهُ، وَلَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَحَصَلَ لَهُمْ مِنَ الِاضْطِرَابِ مَا يُقَصِّرُ عَنْهُ الْخُطَّابُ.
وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَعْرِفُوهُ، فَهَذَا فِي غَايَةِ الِامْتِنَاعِ، حَيْثُ صَارَ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يُمَيَّزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، بَلْ يَكُونُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَا يُمَيَّزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَلَا يَعْرِفُ الرَّائِي أَنَّ هَذَا هُوَ اللَّهُ.
وَلَوَازِمُ هَذَا الْقَوْلِ الْفَاسِدَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
– الشيخ : الْفَاسِدَةُ، لا هو المناسب الرَّفع، لوازمُ..، الفاسدة صفةٌ لماذا؟ للوازم
– القارئ : تصيرُ "الْفَاسِدَةُ كَثِيرَةٌ جِدًّا"
– الشيخ : إي، لوازم جمع، لوازمٌ فاسدةٌ، لو كانَ "ولَوَازِمُ هَذَا الْقَوْلِ الْفَاسِدِ" صحَّ
– القارئ : أشكلَت عليَّ الآنَ اتَّضحَ
وَلَوَازِمُ هَذَا الْقَوْلِ الْفَاسِدَةُ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَإِنْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرَ لَمَّا اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ، وَإِنَّمَا رُئِيَ جَسَدُ الْمَسِيحِ الَّذِي احْتَجَبَ بِهِ اللَّهُ. فَقَوْلُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ: (وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُرَى شَيْءٌ مِنْ لَطِيفِ الْخَلْقِ إِلَّا فِي غَلِيظِ الْخَلْقِ، وَلَا يُرَى مَا هُوَ لَطِيفٌ مِنَ اللَّطِيفِ إِلَّا مَعَ مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ) كَلَامٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. إِذْ كَانَ هَذَا مَثَلًا ضَرَبُوهُ لِلَّهِ لِيُبَيِّنُوا أَنَّهُ يُرَى.
فَإِذَا سَلَّمُوا أَنَّهُ لَمْ يُرَ، لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْمَثَلِ فَائِدَةٌ، بَلْ كَانَ هَذَا اسْتِدْلَالًا عَلَى شَيْءٍ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَاطِلٌ.
وَأَيْضًا فَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ اللَّطِيفَ لَا يُرَى إِلَّا فِي الْغَلِيظِ بَاطِلٌ، فَإِنَّ اللَّطِيفَ كَرُوحِ الْإِنْسَانِ لَا تُرَى فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ عُلِمَ وُجُودُهَا وَأَحَسَّ الْإِنْسَانُ بِرُوحِهِ وَصِفَاتِهَا، فَرُؤْيَتُهَا بِالْبَصَرِ غَيْرُ هَذَا. يُبَيِّنُ ذَلِكَ:
الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: قَوْلُهُمْ: (وَإِنَّا وَجَدْنَا رُوحَ الْإِنْسَانِ الْعَاقِلَةَ الْكَلِمَانِيَّةَ -يَعْنُونَ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ- أَلْطَفَ مِنْ لَطِيفِ الْخَلْقِ)، فَلِذَلِكَ كَانَتْ أَوْلَى خَلْقِ اللَّهِ بِحِجَابِ اللَّهِ، فَكَانَتْ لَهُ حِجَابًا، وَكَانَتِ النَّفْسُ الدَّمَوِيَّةُ لَهَا حِجَابًا وَالْجَسَدُ الْغَلِيظُ حِجَابًا.
فَعَلَى هَذَا خَالَطَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ الْخَالِقَةُ نَفْسَ الْإِنْسَانِ الْكَامِلَةَ لِجَسَدِهَا وَدَمِهَا وَرُوحِهَا الْعَاقِلَةِ الْكَلِمَانِيَّةِ
– الشيخ : كأنَّها نسبةٌ "للكَلِمِ"
– القارئ : وَصَارَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ بِقِوَامِهَا قِوَامًا لِتَثْلِيثِ النَّاسُوتِ الَّتِي كَمَلَ جَوْهَرُهَا بِتَقْوِيمِ قِوَامِ كَلِمَةِ اللَّهِ إِيَّاهَا; لِأَنَّهَا لَمْ تُخْلَقْ، وَلَمْ تَكُ شَيْئًا إِلَّا بِقَوْلٍ مِنْ كَلِمَةِ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَهَا وَقَوَّمَهَا، لَا مِنْ شَيْءٍ سَبَقَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ، وَلَا مِنْ سَبَبٍ كَانَ لَهَا مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ غَيْرَ قِوَامِ الْكَلِمَةِ الْخَالِقَةِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ التَّثْلِيثِ الْإِلَهِيِّ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنَّ الْخَالِقَ احْتَجَبَ بِالنَّفْسِ النَّاطِقَةِ، وَالنَّفْسَ النَّاطِقَةَ احْتَجَبَتْ بِالْبَدَنِ.
وَأَنْتُمْ تُصَرِّحُونَ بِأَنَّ نَفْسَ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ الْخَالِقُ، وَهِيَ اللَّهُ عِنْدَكُمْ، الَّتِي خَلَقَتْ لِنَفْسِهَا إِنْسَانًا احْتَجَبَتْ بِهِ، وَقُلْتُمْ: هُوَ إِنْسَانٌ تَامٌّ بِجَسَدِهِ وَنَفْسِهِ الدَّمَوِيَّةِ، وَرُوحِهِ الْكَلِمَانِيَّةِ، أَيْ نَفْسِهِ النَّاطِقَةِ الَّتِي هِيَ صُورَةُ اللَّهِ فِي الْإِنْسَانِ وَشِبْهُهُ، فَكَانَتْ مَسْكَنًا لِلَّهِ فِي حُلُولِهِ وَاحْتِجَابِهِ.
فَصَرَّحْتُمْ بِأَنَّ الْبَدَنَ مَعَ الرُّوحِ مَسْكَنٌ لِلَّهِ فِي حُلُولِهِ وَاحْتِجَابِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ ذَلِكَ الْبَدَنَ وَالرُّوحَ، وَقُلْتُمْ: إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْخَالِقَةَ الْمُحْتَجِبَةَ الَّتِي قُلْتُمْ: إِنَّهَا اللَّهُ، الْتَحَمَتْ مِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ.
فَإِذَا كَانَ اللَّهُ الْخَالِقُ قَدِ الْتَحَمَ مِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ نَفْخِ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ الَّتِي سَمَّيْتُمُوهَا الرُّوحَ الْكَلِمَانِيَّةَ فِي الْمَسِيحِ.
وَإِذَا كَانَ الْخَالِقُ تَعَالَى قَدِ الْتَحَمَ بِجَسَدٍ لَا رُوحَ فِيهِ، وَالْتِحَامُهُ بِهِ أَبْلَغُ مِنْ حُلُولِهِ فِيهِ، ثُمَّ اتَّخَذَ الْجَسَدَ حِجَابًا قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ الْكَلِمَانِيَّةِ فِيهِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّمَا حَلَّ فِي الرُّوحِ لَا فِي الْبَدَنِ، وَهُوَ قَدِ الْتَحَمَ بِالْبَدَنِ وَاتَّخَذَ مِنْهُ جُزْءًا مَسْكَنًا لَهُ وَحِجَابًا قَبْلَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ الْكَلِمَانِيَّةَ؟
– الشيخ : سبحانَ اللهِ، سبحانَ اللهِ، سبحانَ الله وبحمدِهِ عمَّا يقولُ الظَّالمون، يا له من سَفَهٍ وافتراءٍ وتخبُّطٍ، سبحانَ الله، والشَّيخُ واللهِ توسَّعَ في ترديدِ كلماتِهم السَّيِّئةِ والعياذُ باللهِ، عندي أنَّ الإيجازَ في هذا أجدى من التَّوسُّعِ؛ لأنَّ مناقشتَه أيضًا ليسَتْ مفهومةً، ما يفهمُ المناقشةَ إلَّا من فهمَ نفسَ مذهبِ هؤلاء الملاعين.
– القارئ : وَهُوَ قَدِ الْتَحَمَ بِالْبَدَنِ وَاتَّخَذَ مِنْهُ جُزْءًا مَسْكَنًا لَهُ وَحِجَابًا قَبْلَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ الْكَلِمَانِيَّةَ؟
وَقُلْتُمْ أَيْضًا: فَعَلَى هَذَا خَالَطَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ الْخَالِقَةُ لِنَفْسِ الْإِنْسَانِ الْكَامِلَةِ بِجَسَدِهَا وَدَمِهَا وَرُوحِهَا الْعَاقِلَةِ الْكَلِمَانِيَّةِ.
وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْخَالِقَ خَالَطَ الْإِنْسَانَ بِجَسَدِهِ وَدَمِهِ وَرُوحِهِ.
فَكَيْفَ تَقُولُونَ: إِنَّمَا احْتَجَبَتْ بِالرُّوحِ اللَّطِيفَةِ، مَعَ تَصْرِيحِكُمْ بِأَنَّ الْخَالِقَ اخْتَلَطَ بِالْجَسَدِ وَالدَّمِ.
وَهَذَا أَيْضًا يُنَاقِضُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ اتَّحَدَ بِهِ اتِّحَادًا بَرِيًّا مِنَ الِاخْتِلَاطِ.
فَقَدْ صَرَّحْتُمْ هُنَا أَنَّهُ اخْتَلَطَ بِهِ، وَسَيَأْتِي نَظَائِرُ هَذَا فِي كَلَامِهِمْ يُصَرِّحُونَ فِيهِ بِاخْتِلَاطِ اللَّاهُوتِ بِالنَّاسُوتِ.
الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: قَوْلُكُمْ: (غَيْرُ قِوَامِ الْكَلِمَةِ الْخَالِقَةِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ التَّثْلِيثِ الْإِلَهِيِّ، فَذَلِكَ الْقِوَامُ مَعْدُودٌ مَعْرُوفٌ مَعَ النَّاسِ، لَمَّا ضُمَّ إِلَيْهِ وَخَلَقَهُ لَهُ الْتَحَمَ بِهِ مِنْ جَوْهَرِ الْإِنْسَانِ، فَهُوَ بِتَوْحِيدِ ذَلِكَ الْقِوَامِ الْوَاحِدِ قِوَامٌ لِكَلِمَةِ اللَّهِ الْخَالِقَةِ وَاحِدٌ فِي التَّثْلِيثِ بِجَوْهَرِ لَاهُوتِهِ، وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ بِجَوْهَرِ نَاسُوتِهِ، وَلَيْسَ بِاثْنَيْنِ، وَلَكِنْ وَاحِدٌ مَعَ الْأَبِ وَالرُّوحِ، وَهُوَ إِيَّاهُ وَاحِدٌ مَعَ النَّاسِ جَمِيعًا بِجَوْهَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، مِنْ جَوْهَرِ اللَّاهُوتِ الْخَالِقِ، وَجَوْهَرِ النَّاسُوتِ الْمَخْلُوقِ، بِتَوْحِيدِ الْقِوَامِ الْوَاحِدِ قِوَامِ الْكَلِمَةِ، الَّتِي هِيَ الِابْنُ الْمَوْلُودُ مِنَ اللَّهِ مِنْ قَبْلِ كُلِّ الدُّهُورِ، وَهُوَ إِيَّاهُ الْمَوْلُودُ مِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ غَيْرِ مُفَارَقَةٍ مِنَ الْأَبِ، وَلَا مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ.
فَيُقَالُ: فِي هَذَا الْكَلَامِ، بَلْ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، مَا يَطُولُ تَعْدَادُهُ وَوَصْفُهُ مِنَ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ، وَالْكَلَامِ الْبَاطِلِ، وَالْكَلَامِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ قَائِلُهُ، وَهُوَ لَا يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ مَعَ سُوءِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ: (وَهُوَ إِيَّاهُ)، فَيَضَعُ الضَّمِيرَ الْمُنْفَصِلَ مَوْضِعَ الْمُتَّصِلِ، وَيَعْطِفُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِلَا
– الشيخ : هذا نقدٌ لغويٌّ، أعدِ الجملةَ
– القارئ : كَقَوْلِهِ: (وَهُوَ إِيَّاهُ)، فَيَضَعُ الضَّمِيرَ الْمُنْفَصِلَ مَوْضِعَ الْمُتَّصِلِ، وَيَعْطِفُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِلَا وَاوِ عَطْفٍ، إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُ مَعَانِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَهُمْ لَمْ يَتَصَوَّرُوا مَعْنًى مَعْقُولًا ثُمَّ عَبَّرُوا عَنْهُ حَتَّى يُقَالَ: قَصَّرُوا فِي التَّعْبِيرِ، بَلْ هُمْ فِي ضَلَالٍ وَجَهْلٍ لَا يَتَصَوَّرُونَ مَعْقُولًا، وَلَا يَعْرِفُونَ مَا يَقُولُونَ، بَلْ وَلَا لَهُمُ اعْتِقَادٌ يَثْبُتُونَ عَلَيْهِ فِي الْمَسِيحِ، بَلْ مَهْمَا قَالُوهُ مِنْ بِدَعِهِمْ كَانَ بَاطِلًا، وَكَانُوا هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مَا يَقُولُونَ.
لِهَذَا يَقُولُونَ: (هَذَا فَوْقَ الْعَقْلِ). وَيَقُولُونَ: (قَدِ اتَّحَدَ بِهِ بَشَرٌ لَا يُدْرَكُ)، فَمَا لَا يُدْرَكُ وَمَا هُوَ فَوْقَ الْعَقْلِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَهُ وَلَا يَقُولَهُ بِرَأْيِهِ.
لَكِنْ إِذَا أَخْبَرَتِ الرُّسُلُ الصَّادِقُونَ بِمَا يَعْجِزُ عَقْلُ الْإِنْسَانِ عَنْهُ، عُلِمَ صِدْقُهُمْ، وَإِنْ نَقَلَ عَنْهُمْ نَاقِلٌ مَا يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ بُطْلَانِهِ
– الشيخ : مَا يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ بُطْلَانُهُ، نائبُ فاعلٍ
– القارئ : لَكِنْ إِذَا أَخْبَرَتِ الرُّسُلُ الصَّادِقُونَ بِمَا يَعْجِزُ عَقْلُ الْإِنْسَانِ عَنْهُ، عُلِمَ صِدْقُهُمْ، وَإِنْ نَقَلَ عَنْهُمْ نَاقِلٌ مَا يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ بُطْلَانُهُ، عُلِمَ أَنَّهُ يَكْذِبُ عَلَيْهِمْ، إِمَّا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَإِمَّا فِي أَحَدِهِمَا.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ هُوَ يَقُولُ الْقَوْلَ الَّذِي يَذْكُرُ أَنَّهُ عَلِمَ صِحَّتَهُ، أَوْ أَنَّهُ فَسَّرَ بِهِ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ لَا يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُهُ، وَلَا يَفْقَهُهُ، فَهَذَا قَائِلٌ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رُسُلِهِ مَا لَا يَعْلَمُ، وَهَذَا قَدِ ارْتَكَبَ أَعْظَمَ الْمُحَرَّمَاتِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الشَّيْطَانِ: إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:169]
وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [النساء:171-173]
وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمِلَلِ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ حَرَامٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ نَهَاهُمْ أَنْ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، فَكَانَ هَذَا نَهْيًا أَنْ يَقُولُوا الْبَاطِلَ، سَوَاءٌ عَلِمُوا أَنَّهُ بَاطِلٌ، أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا.
فَإِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ بَاطِلٌ، فَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ حَقٌّ أَيْضًا، إِذِ الْبَاطِلُ يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ حَقٌّ، وَإِنِ اعْتَقَدَ مُعْتَقِدٌ اعْتِقَادًا فَاسِدًا أَنَّهُ حَقٌّ، فَذَلِكَ لَيْسَ بِعِلْمٍ، فَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّهُ بَاطِلٌ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا يَقُولُوهُ.
وَعَامَّةُ النَّصَارَى ضُلَّالٌ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا يَقُولُونَهُ حَقٌّ، بَلْ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْبَاطِلَ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِمْ: (فَهُوَ بِتَوْحِيدِ ذَلِكَ الْقِوَامِ الْوَاحِدِ قِوَامٌ لِكَلِمَةِ اللَّهِ الْخَالِقَةِ).
وَالْمَسِيحُ عِنْدَهُمُ اسْمٌ لِلَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ جَمِيعًا، اسْمٌ لِلْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، وَأَحَدُهُمَا مُتَّحِدٌ بِالْآخَرِ، فَهُوَ بِتَوْحِيدِ ذَلِكَ الْقِوَامِ، قِوَامٌ لِكَلِمَةِ اللَّهِ الْخَالِقَةِ.
وَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّاسُوتَ وَاللَّاهُوتَ قِوَامٌ لِلَّاهُوتِ، أَوْ أَنَّ النَّاسُوتَ قِوَامٌ لِلَّاهُوتِ، وَهُمْ يُمَثِّلُونَ ذَلِكَ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَالنَّارِ وَالْحَدِيدِ، فَيَكُونُ كَمَا لَوْ قِيلَ: إِنَّ الْجَسَدَ وَالرُّوحَ، أَوِ الْجَسَدَ قِوَامٌ لِلرُّوحِ، أَوِ النَّارَ وَالْحَدِيدَ، أَوِ الْحَدِيدَ قِوَامٌ لِلنَّارِ.
فَيُقَالُ: الْخَالِقُ الْأَزَلِيُّ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، هَلْ يَكُونُ الْمُحْدَثُ الْمَخْلُوقُ قِوَامًا لَهُ؟ فَيَكُونَ الْمَخْلُوقُ الْمَصْنُوعُ الْمُحْدَثُ الْمُفْتَقِرُ إِلَى اللَّهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قِوَامًا لِلْخَالِقِ الْغَنِيِّ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ أَظْهَرِ الدَّوْرِ الْمُمْتَنِعِ؟
فَإِنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا قِوَامَ لَهُ إِلَّا بِالْخَالِقِ، فَإِنْ كَانَ الْخَالِقُ قِوَامُهُ بِالْمَخْلُوقِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ قِوَامُهُ بِالْآخَرِ، فَيَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُحْتَاجًا إِلَى الْآخَرِ، إِذْ مَا كَانَ قِوَامُ الشَّيْءِ بِهِ، فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ.
وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْخَالِقَ يَحْتَاجُ إِلَى مَخْلُوقِهِ وَهُوَ مِنَ الْكُفْرِ الْوَاضِحِ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ امْتِنَاعُهُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ، وَهَذَا لَازِمٌ لِلنَّصَارَى، سَوَاءٌ قَالُوا بِالِاتِّحَادِ، أَوْ بِالْحُلُولِ بِلَا اتِّحَادٍ، وَإِنْ كَانَتْ فِرَقُهُمْ الثَّلَاثُ يَقُولُونَ بِنَوْعٍ مِنَ الِاتِّحَادِ، فَإِنَّهُ مَعَ الِاتِّحَادِ كُلٌّ مِنَ الْمُتَّحِدَيْنِ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْآخَرِ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ كَمَا يُمَثِّلُونَ بِهِ فِي الرُّوحِ مَعَ الْبَدَنِ، وَالنَّارِ مَعَ الْحَدِيدِ.
فَإِنَّ الرُّوحَ الَّتِيَ فِي الْبَدَنِ مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْبَدَنِ، كَمَا أَنَّ النَّارَ فِي الْحَدِيدِ مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْحَدِيدِ.
وَكَذَلِكَ الْحُلُولُ، فَإِنَّ كُلَّ حَالٍّ مُحْتَاجٌ إِلَى مَحْلُولٍ فِيهِ، وَهُوَ مِنَ الْكُفْرِ الْوَاضِحِ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ امْتِنَاعُهُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ.
فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ إِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ، فَلَيْسَ هُوَ مَخْلُوقًا، وَمَعَ هَذَا فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْقَدِيمَيْنِ الْأَزَلِيَّيْنِ مُحْتَاجًا إِلَى الْآخَرِ، سَوَاءٌ قُدِّرَ أَنَّهُ فَاعِلٌ لَهُ، أَوْ تَمَامُ الْفَاعِلِ لَهُ، أَوْ كَانَ مُفْتَقِرًا إِلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُفْتَقِرًا إِلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا إِلَّا بِهِ.
فَإِنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا إِلَّا بِوُجُودِ لَوَازِمِهِ، وَلَا يَتِمُّ وُجُودُهُ إِلَّا بِهِ، فَكُلُّ مَا قُدِّرَ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا إِلَّا بِهِ.
فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْقَدِيمَيْنِ مُحْتَاجًا إِلَى الْآخَرِ، لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا مَوْجُودًا إِلَّا بِخَلْقِ ذَلِكَ مَا بِهِ تَتِمُّ حَاجَةُ الْآخَرِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ هَذَا مَوْجُودًا إِلَّا بِخَلْقِ ذَلِكَ مَا بِهِ تَتِمُّ حَاجَةُ الْآخَرِ.
وَالْخَالِقُ لَا يَكُونُ خَالِقًا حَتَّى يَكُونَ مَوْجُودًا، وَلَا يَكُونُ مَوْجُودًا إِلَّا بِلَوَازِمِ وُجُودِهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا مَوْجُودًا حَتَّى يَجْعَلَهُ الْآخَرُ مَوْجُودًا، وَلَا يَكُونَ ذَاكَ مَوْجُودًا حَتَّى يَجْعَلَهُ الْآخَرُ مَوْجُودًا، إِذْ كَانَ جَعْلُهُ لِمَا لَمْ يَتِمَّ بِهِ وَجُودُهُ يَتَوَقَّفُ وَجُودُهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ مَوْجُودًا إِلَّا بِهِ
– الشيخ : وهذا هو الدَّورُ القبليُّ الَّذي هو ممتنعٌ باتِّفاق العقلاءِ، وهو توقُّفُ كلٍّ من الشَّيئين على الآخرِ، لا يكونُ هذا إلَّا أن يجعلَه هذا موجودًا، وهذا الدَّورُ ممتنعٌ بالضَّرورةِ.
– القارئ : إِذْ كَانَ جَعْلُهُ لِمَا لَمْ يَتِمَّ بِهِ وَجُودُهُ يَتَوَقَّفُ وَجُودُهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ مَوْجُودًا إِلَّا بِهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَحْتَاجَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ فِي وُجُودِهِ، أَوْ فِيمَا لَا يَتِمُّ وُجُودُهُ إِلَّا بِهِ، وَهَذَا هُوَ الدَّوْرُ الْقَبْلِيُّ الْمُمْتَنِعُ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ.
وَأَمَّا الدَّوْرُ الْمَعِيُّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ هَذَا إِلَّا مَعَ هَذَا، وَلَا هَذَا إِلَّا مَعَ هَذَا، كَالْأُبُوَّةِ مَعَ الْبُنُوَّةِ، وَكَصِفَاتِ الرَّبِّ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، وَصِفَاتِهِ مَعَ ذَاتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَالِمًا إِلَّا مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا، وَلَا يَكُونُ عَالِمًا قَادِرًا إِلَّا مَعَ كَوْنِهِ حَيًّا، وَلَا يَكُونُ حَيًّا إِلَّا مَعَ كَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا، وَلَا تَكُونُ صِفَاتُهُ مَوْجُودَةً إِلَّا بِذَاتِهِ، وَلَا ذَاتُهُ مَوْجُودَةً إِلَّا بِصِفَاتِهِ، فَهَذَا جَائِزٌ فِي الْمَخْلُوقَيْنِ اللَّذَيْنِ يَفْتَقِرَانِ إِلَى الْخَالِقِ الَّذِي يُحْدِثُهُمَا جَمِيعًا، كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ
– الشيخ : الْأُبُوَّةُ وَالْبُنُوَّةُ يوجدان جميعًا، فإنَّه إذا ثبتَتْ الأبوَّةُ ثبتَتِ البنوَّةُ، إذا ثبتَتْ الأبوَّةُ لهذا ثبتَت البنوَّةُ للآخرِ، فهما متلازمانِ لا يوجدُ أحدُهما إلَّا بالآخرِ وهذا دَورٌ معيٌّ لا يُوجَدُ هذا إلَّا معَ هذا، لا تكونُ بنوَّة إلَّا بأبوَّةٍ، ولا أبوَّة إلَّا ببنوَّة.
– القارئ : كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ، وَجَائِزٌ فِي الرَّبِّ الْمُلَازِمِ لِصِفَاتِهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا إِذَا قُدِّرَ قَدِيمَانِ أَزَلِيَّانِ رَبَّانِ فَاعِلَانِ، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحْتَاجًا إِلَى الْآخَرِ، إِذْ كَانَ وُجُودُهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَا يَحْتَاجُ وَجُودُهُ إِلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ فَاعِلًا لِشَيْءٍ إِنْ لَمْ يَتِمَّ وُجُودُهُ، فَيَمْتَنِعُ مَعَ نَقْصِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ تَمَامِ وَجُودِهِ، أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِغَيْرِهِ تَمَامَ وُجُودِ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ.
وَلَكِنِ الَّذِي قَالَهُ النَّصَارَى، إِنَّهُمْ جَعَلُوا قِوَامَ الْخَالِقِ تَعَالَى بِالْمَخْلُوقِ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا أَيْضًا مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ أَعْظَمَ مِنِ امْتِنَاعِ قِيَامِ كُلٍّ مِنَ الْخَالِقَيْنِ بِالْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا أَيْضًا مُمْتَنِعًا، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ مُفْتَقِرٌ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ إِلَى الْخَالِقِ، فَيَمْتَنِعُ مَعَ فَقْرِهِ فِي وُجُودِهِ وَتَمَامِ وَجُودِهِ إِلَى الْخَالِقِ أَنْ يَكُونَ قِوَامُ الْخَالِقِ بِهِ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا لَهُ، وَأَنْ يَكُونَ تَمَامُ وَجُودِهِ بِهِ، فَيَكُونَ الْمَخْلُوقُ لَا وُجُودَ لِشَيْءٍ مِنْهُ إِلَّا بِالْخَالِقِ.
فَالْقَدْرُ الَّذِي يُقَالُ: إِنَّهُ يُقِيمُ بِهِ الْخَالِقَ هُوَ مِنَ الْخَالِقِ، وَالْخَالِقُ خَالِقُهُ وَخَالِقُ كُلِّ مَخْلُوقٍ، فَلَا وُجُودَ لَهُ وَلَا قِيَامَ إِلَّا بِالْخَالِقِ، فَكَيْفَ يَكُونُ بِهِ قِيَامُ الْخَالِقِ؟
وَلَيْسَ هَذَا كَالْجَوْهَرِ وَأَعْرَاضِهِ اللَّازِمَةِ، أَوْ كَالْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ عِنْدَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الصُّورَةَ جَوْهَرٌ إِذَا كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الدَّوْرِ الْمَعِيِّ، كَالنُّبُوَّةِ مَعَ الْأُبُوَّةِ، وَهَذَا جَائِزٌ كَمَا تَقَدَّمَ، إِذْ كَانَ الْخَالِقُ لَهُمَا جَمِيعًا هُوَ اللَّهُ.
وَأَمَّا مَعَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا هُوَ الْخَالِقُ، فَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَمَعَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا خَالِقًا وَالْآخِرِ مَخْلُوقًا، فَهُوَ أَشَدُّ امْتِنَاعًا.
وَالرَّبُّ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا مَعْنَى اسْمِهِ "الصَّمَدِ"، فَإِنَّ الصَّمَدَ الَّذِي يَصْمُدُ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ; لِافْتِقَارِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، لَا يَصْمُدُ إِلَى شَيْءٍ، وَلَا يَسْأَلُهُ شَيْئًا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فَكَيْفَ يَكُونُ قِوَامُهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ؟
وَهَذَا الِاتِّحَادُ الْخَاصُّ مِنَ النَّصَارَى يُشْبِهُ -مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ- قَوْلَ أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَالِاتِّحَادِ الْعَامِّ، الَّذِينَ يَقُولُونَ كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ عَرَبِيٍّ صَاحِبُ "الْفُصُوصِ" وَ "الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ": إِنَّ أَعْيَانَ الْمَخْلُوقَاتِ ثَابِتَةٌ فِي الْعَدَمِ، وَوُجُودُ الْحَقِّ فَاضَ عَلَيْهَا، فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ الْمُشْتَرَكُ الْعَامُّ، وَهُوَ وُجُودُهُ، وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْأَعْيَانُ الثَّابِتَةُ فِي الْعَدَمِ، وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلُّ عَيْنٍ عَيْنٌ، فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْآخَرِ.
وَيَقُولُونَ: الْوُجُودُ وَاحِدٌ، ثُمَّ يُثْبِتُونَ تَعَدُّدَ الْأَعْيَانِ، وَيَقُولُونَ: هِيَ مَظَاهِرٌ وَمَجَالٍ.
فَإِنْ كَانَ الْمَظْهَرُ وَالْمَجْلَى غَيْرُ الظَّاهِرِ، فَقَدْ ثَبَتَ التَّعَدُّدُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ إِيَّاهُ، فَلَا تَعَدُّدَ، فَلِهَذَا يُضْطَرُّونَ إِلَى التَّنَاقُضِ كَمَا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ النَّصَارَى، حَيْثُ يُثْبِتُونَ الْوَحْدَةَ مَعَ الْكَثْرَةِ، وَيُنْشِدُونَ: "فَيَعْبُدُنِي وَأَعْبُدُهُ وَيَحْمَدُنِي وَأَحْمَدُهُ". وَهَؤُلَاءِ بَنَوْا قَوْلَهُمْ عَلَى أَصْلَيْنِ فَاسِدَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَعْيَانَ الْمُمْكِنَاتِ ثَابِتَةٌ فِي الْعَدَمِ، كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ: إِنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْعَدَمِ، وَهَذَا الْقَوْلُ فَاسِدٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ.
وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْأَمْرِ، أَنَّ الْمَعْدُومَ يُرَادُ إِيجَادُهُ وَيُتَصَوَّرُ، وَيُخْبَرُ بِهِ، وَيُكْتَبُ قَبْلَ وُجُودِهِ، فَلَهُ وُجُودٌ فِي الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ وَالْخَطِّ، وَأَمَّا فِي الْخَارِجِ فَلَا وُجُودَ لَهُ.
وَالْوُجُودُ هُوَ الثُّبُوتُ، فَلَا ثُبُوتَ لَهُ فِي الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ الْخَارِجِيِّ، وَإِنَّمَا ثُبُوتُهُ فِي الْعِلْمِ أَيْ يَعْلَمُهُ الْعَالِمُ قَبْلَ وُجُودِهِ.
وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ جَعَلُوا نَفْسَ وُجُودِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
– الشيخ : حسبُك يا أخي حسبُك، جزاكَ اللهُ خيرًا، أعوذُ باللهِ، هذا أيُّ مجلدٍ تمشي فيه الحين [الآن]؟
– القارئ : المجلَّدُ الثَّاني، أنا عندي مجلَّدين فقط، وهذا المجلَّدُ الثَّاني، الطَّبعة الي معي
– الشيخ : وأيش أخذت منه؟
– القارئ : أخذْنا تقريبًا ربعَه
– الشيخ : اللهُ يُعينُ
– القارئ : هو ستمائة صفحة وسبعون تقريبًا، والآن مئة وخمسين
– الشيخ : الطَّبعةُ الأولى أربعة القديمة.