(28) النور الهادي الرشيد

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (فَتحُ الرَّحيمِ الملكِ العَلاَّمِ في عِلمِ العقَائِدِ وَالتَّوحيْدِ وَالأخْلاَقِ وَالأحكامِ المُستنَبَطةِ مِن القرآنِ)
للشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصرالسّعدي
الدَّرس الثَّامن والعشرون

***    ***    ***    ***

 

– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين، اللهمَّ اغفرْ لشيخِنا وللحاضرينَ والمستمعين، قالَ الشيخُ عبد الرحمن بن ناصرٍ السَّعدي -رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جنانه- في كتابِه: (فتحُ الرحيمِ الملكِ العلَّامِ في علمِ العقائدِ والتوحيدِ والأخلاقِ والأحكامِ المستنبطةِ مِن القرآنِ) قالَ رحمَه الله تعالى وغفرَ له:

النورُ الهادِي الرَّشيد

– الشيخ : النورُ الهادِي الرَّشيد، يعني: هذه -الشيخ يقول- إنَّها أسماءُ لله، يعني مِن أسمائِه: النور، مِن أسمائه: الهادي، ومِن أسمائه: الرشيد، لا إله إلا الله.

– القارئ : النورُ مِن أوصافِهِ تعالى على نوعَين:

نورٌ حِسِّيٌّ: وهو ما اتَّصَفَ به مـِن النورِ العظيمِ، الذي لـو كشفَ الحجابَ عَن وجهِهِ لأحرقَتْ سُبُحَاتُ وجهِه ونورُ جلالِه ما انتهى إليه بصرُهُ مِن خلقِهِ، وهذا النورُ لا يمكن التعبيرُ عنه إلا بمثلِ هذه العبارةِ النبويّةِ الـمُؤَدِّيّة للمعنى العظيم، وأنَّه لا تطيقُ المخلوقاتُ كلُّها الثبوتَ لنورِ وجهِه لو تَبَدَّى لها، ولولا أنَّ أهلَ دارِ القرارِ يُعطيهِم الرَّبُّ حياةً كاملةً، ويُعينُهم على ذلكَ لَمَا تمكَّنُوا مِن رؤيةِ الرَّبِّ العظيمِ.

وجميعُ الأنوارِ في السمواتِ العلويةِ كلُّها مِن نورِهِ، بل نورُ جَنَّاتِ النعيمِ -التي عرضَها السمواتُ والأرضُ، وسعتُها لا يعلمُها إلا الله- مِن نورِه، فنورُ العرشِ والكرسي والجنَّاتِ مِن نورِه، فضلاً عَن نورِ الشمسِ والقمرِ والكواكبِ.

والنوعُ الثاني: نورُه الـمعنويُّ وهو النورُ الذي نَوَّرَ قلوبَ أنبيائِهِ

– الشيخ : نورُ الشمسِ والقمر نورٌ مخلوقٌ ليسَ هو مِن نورِ الله الذي هو صفةٌ له، بل هو نورٌ مخلوقٌ، وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [فصلت:37] فالنورُ نوعان: نوعٌ هو صفةٌ لله، ونوعٌ هو مخلوقٌ. نعم ..

 

– القارئ : والنوعُ الثاني: نورُه المعنويُّ وهو النورُ الذي نَوَّرَ قلوبَ أنبيائِهِ وأصفيائِهِ وأوليائِهِ وملائكتِهِ، مِن أنوارِ معرفتِهِ وأنوارِ محبتِهِ، فإنَّ لِمعرفتِهِ في قلوبِ أوليائِهِ المؤمنينَ أنواراً بحسبِ ما عرفوهُ مِن نُعُوتِ جلالِه، وما اعتقدوهُ مِن صفاتِ جمالِهِ، فكلُّ وصفٍ مِن أوصافِهِ لَهُ تأثيرٌ في قلوبِهِم، فإنَّ معرفةَ المولى أعظمُ المعارفِ كلِّها، والعلمُ بِه أَجَلُّ العلومِ، والعلمُ النافعُ كلُّه أنوارٌ في القلوبِ، فكيفَ بهذا العلمِ الذي هو أفضلُ العلومِ وأجلُّها وأصلُها وأساسُها؟

فكيفَ إذا انضمَّ إلى هذا نورُ محبتِه والإنابِة إليهِ، فهنالكَ تَمْتَلِئُ أقطارُ القلبِ وجهاتُه من الأنوارِ المتنوعةِ وفنونِ اللَّذاتِ المتشابهةِ في الحُسنِ والنعيمِ.

فمعاني العظمةِ والكبراءِ والجلالِ والمجدِ، تملأُ قلوبَهم مِن أنوارِ الهيبةِ والتعظيمِ والإجلالِ والتكبيرِ.

ومعاني الجمالِ والبِرِّ والإكرامِ: تملأُها مِن أنوارِ المحبةِ والشوقِ.

ومعاني الرحمةِ والرأفةِ والجودِ واللُّطفِ: تملأُ قلوبَهم مِن أنوارِ الحُبِّ النَّامِي على الإحسان، وأنوارُ الشكرِ والحمدِ بأنواعِه والثناءِ.

ومعاني الألوهيةِ: تملأُها مِن أنوارِ التَّعبُّدِ، وضياءِ التقرُّبِ، وسَنَاءِ التَّحبُّبِ، وإسرارِ التودُّدِ، وحريةِ التعلُّقِ التامِّ باللهِ رغبةً ورهبةً، وطلباً وإنابةً، وانصرافِ القلبِ عَن تعلقِهِ بالأغيارِ كلِّها.

ومعاني العلمِ والإحاطةِ والشهادةِ والقربِ الخاصِّ: تملأُ قلوبَهم مِن أنوارِ مراقبتِهِ، وتُوصِلُهم إلى مقامِ الإحسانِ الذي هو أعلى المقاماتِ كلِّها، (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ).

فكلُّ معنىً ونَعْتٍ مِن نُعُوتِ الرَّبِّ يَكفي في امتلاءِ القلبِ مِن نورِهِ، فكيفَ إذا تنوَّعَتْ وتواردَتْ على القلوبِ الطاهرةِ الزكيَّةِ الذكيَّةِ، وهنا يصدقُ على هذه القلوبِ القدسيةِ انطباقُ هذا المثلِ عليها، وهو قولُه تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35]

وهذا النورُ المضروبُ هو نورُ الإيمانِ باللهِ، وبصفاتِه وآياتِهِ مَثَلُهُ في قلوبِ المؤمنينَ مَثَلُ هذا النورِ الذي جمعَ جميعَ الأوصافِ التي فيها زيادةُ النورِ، وهو أعظمُ مَثَلٍ يعرفُهُ العبادُ.

وقد دعَا صلى الله عليه وسلم لحصولِ هذا النورَ فقالَ: (اللهمَّ اجعلْ في قلبي نوراً، وفي سمْعِي نوراً، وفي بصرِي نوراً، وعَن يميني نوراً، وعَن شِمالِي نوراً، ومِن فَوقِي نوراً، ومِن تحتي نوراً، اللهمَّ اجعلنِي نوراً)

ومتى امتلأَ القلبُ مِن هذا النورِ فاضَ على الوجهِ، فاستنارَ الوجهُ، وانقادَتِ الجوارحُ بالطاعةِ راغبةً. وهذا النورُ الذي يكونُ في القلبِ هو الذي يـَمنعُ العبدَ مِن ارتكابِ الفواحشِ، كمَا قالَ صلى الله عليه وسلم: (لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فأخبرَ أنَّ وقوعَ هذه الكبائرِ لا يكونُ ولا يقعُ معَ وجودِ الإيمانِ ونورِه.

والهادي الرشيدُ مِن أسمائِه الحسنى هما بمعنى النُّور بهذا الـمعنى، فاللهُ يهدي ويُرْشِدُ عبادَه إلى مصالحِ دينِهم ودنياهُم، ويُعلِّمُهم ما لا يعلمونَ، ويهديهم هدايةَ التوفيقِ والتَّسديدِ، ويُلهمُهم التقوى، ويجعلُ قلوبَهم مُنِيبةً إليهِ، مُنقادةً لأمرِه.

فاللهُ خَلَقَ المخلوقاتِ فهدَاهَا الهدايةَ العامَّةَ لـمصالحِها، وجعلَها مُهَيَّئَةً لِمَا خُلِقَتْ له، وهَدَى هدايةَ البيانِ، فأنزلَ الكتبَ وأرسلَ الرسلَ، وشرعَ الشرائعَ والأحكامَ، والحلالَ والحرامَ، وبَيَّنَ أصولَ الدِّينِ وفروعَه، وعلومَ الظاهرِ والباطنِ، وعلومَ الأولينَ والآخرينَ، وهَدَى وبَيَّنَ الصراطَ المستقيمَ الـمُوصِلَ إلى رضوانِه وثوابِه، ووضَّحَ الطرقَ الأخرى؛ ليَحذَرَها العبادُ، وهَدَى عبادَه المؤمنينَ هدايةَ التوفيقِ للإيمانِ والطاعةِ، وهداهُم إلى منازلهِم في الجنةِ، كما هداهُم في الدنيا إلى سلوكِ أسبابِها وطرقِها.

ولهذا يقولُ أهلُ الجنةِ حين تتمُّ عليهم نعمةُ الهداية: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43] وقال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:178]

والهدايةُ المطلقةُ التامَّةُ هي الهدايةُ التي يسألُها المؤمنونَ ربَهم في قولِه: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] أي: اهدِنا إليه واهدِنا فيهِ. وفي قولِ الدَّاعي: "اللهمَّ اهدِنا فيمَنْ هديتَ".

وللرشيدِ معنىً آخرُ بمعنى الحكيمِ، فهو الرشيدُ في أقوالِه وأفعالِه، وهو على صراطٍ مستقيمٍ فيما يشرعُه لعبادِه مِن الشرائعِ، التي هي رُشْدٌ وحكمةٌ، وفيما يخلقُه مِن المخلوقاتِ ويقدِّرُه مِن الكائناتِ، الجميعُ رُشْدٌ وحكمةٌ، لا عَبثٌ فيها ولا شيءٌ مخالفٌ للحكمةِ.

ثمَّ قالَ رحمَه اللهُ: الـولـيُّ

– الشيخ : إلى هنا.

 

 

info

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :العقيدة