بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (فَتحُ الرَّحيمِ الملكِ العَلاَّمِ في عِلمِ العقَائِدِ وَالتَّوحيْدِ وَالأخْلاَقِ وَالأحكامِ المُستنَبَطةِ مِن القرآنِ)
للشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصرالسّعدي
الدَّرس الثَّالث والثَّلاثون
*** *** *** ***
– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللَّهمَّ اغفرْ لشيخِنا وللحاضرينَ والمستمعينَ. قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ بنُ ناصرٍ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى وغفرَ لهُ- في كتابِهِ: "فَتحُ الرَّحيمِ الملكِ العَلَّامِ في عِلمِ العقَائِدِ وَالتَّوحيْدِ وَالأخْلاَقِ وَالأحكامِ المُستنَبَطةِ مِن القرآنِ" قالَ -رحمَهُ اللهُ-:
ومِن الإيمانِ بالرُّسلِ -صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم-: الإيمانُ بأنَّ اللهَ اختصَّهم بوحيهِ ورسالتِهِ، وجعلَهم وسائطَ بينَهُ وبينَ عبادِهِ في تبليغِ رسالاتِهِ وأمرِهِ وشرعِهِ، وجمعَ فيهم مِن صفاتِ الكمالِ ما فاقُوا فيهِ الأوَّلِينَ والآخرينَ مِن الصِّدقِ العظيمِ، والأمانةِ التَّامَّةِ، والقوَّةِ العظيمةِ، والشَّجاعةِ، والعلمِ العظيمِ، والدَّعوةِ والتَّعليمِ، والإرشادِ والهدايةِ، والنُّصحِ التَّامِّ، والشَّفقةِ والرَّحمةِ بالعبادِ، والحِلمِ والصَّبرِ الواسعِ، واليقينِ الكاملِ.
– الشيخ : يعني كلُّهم هكذا، لكنَّ بعضَهم أفضلُ من بعضٍ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَات [البقرة:253] فهم وإنْ اشتركوا في هذه الصِّفات فبعضُهم أفضلُ من بعضٍ، ولكن يجبُ أن يُعلَمَ أنَّ نبيَّنا محمَّدًا -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- هو أكملُ الرُّسلِ في جميعِ خصالِ الفضلِ، صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعليهم أجمعين.
– القارئ : فهم أعلى الخلقِ علومًا وأخلاقًا، وأكملُهم أعمالاً وآدابًا، وأرفعُهم عقولاً، وأصوبُهم آراءً، وأسماهم نفوسًا.
اختارَهم اللهُ واصطفاهم وفضَّلَهم واجتباهم، بهم عُرِفَ اللهُ، وبهم وُحِّدَ، وبهم عُرِفَ الصِّراطُ المستقيمُ
– الشيخ : لأنَّهم مُعرَّفون به، الرُّسلُ جاؤُوا بثلاثةِ أمورٍ من العلم: العلمُ باللهِ فهم هذا غايةُ إرسالِ الرُّسل: تعريفُ العبادِ بربِّهم بأسمائه وصفاته وما يجبُ له وما يجوزُ عليه وما يمتنعُ عليه، وتعريفُهم بحقِّه عليهم وهو الطَّريقُ الموصِلُ إليه وهو الشَّرائعُ والأوامرُ والنَّواهي، والتَّعريف –أيضًا- الثَّالث: تعريفُهم بجزائِهم، بالجزاءِ وما يصيرُ إليه العاملون من السَّعادةِ والشَّقاوةِ.
– القارئ : وعلى آثارِهم وصلَ أهلُ الجنَّةِ إلى كلِّ نعيمٍ، فلهم على العبادِ الإيمانُ بهم، والاعترافُ بكلِّ ما جاؤُوا بهِ، ومحبَّتُهم وتعزيرُهم وتوقيرُهم واحترامُهم
– الشيخ : صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم، الرُّسلُ هم أفضلُ النَّاسِ، وهم أنفعُ النَّاسِ للنَّاس، الرُّسلُ هم أنفعُ النَّاسِ للنَّاس؛ لأنَّهم يدعونهم إلى ما به سعادتُهم ونجاتُهم وفلاحُهم، فهم الأدلَّاءُ، أدلَّةٌ يدلَّون النَّاسَ على الطَّريق –طريق الخيرِ والفلاحِ-، ويجنِّبونهم طريقَ الشَّرِّ، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].
– القارئ : واقتفاءِ آثارِهم والاهتداءِ بهديِهم.
وهذهِ الأمورُ ثابتةٌ لجميعِ الأنبياءِ، ولنبيِّنا -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن هذهِ الأوصافِ أعلاها وأكملُها. فلقد جمعَ اللهُ بهِ مِن الكمالِ ما فرَّقَهُ في غيرِهِ مِن الأنبياءِ والأصفياءِ، ولهُ على أمَّتِهِ أنْ يقدِّمُوا محبَّتَهُ على محبَّةِ أنفسِهم وأولادِهم ووالديهم والنَّاسِ أجمعينَ، وأنْ يقوموا بحقِّهِ، وهوَ القيامُ بشرعِهِ وتعلُّمِهِ وتعليمِهِ، واتِّباعِهِ ظاهرًا وباطنًا، ويعتقدُوا أنَّهُ خاتَمَ الأنبياءِ، وأفضلَ الخلقِ أجمعينَ، وأنَّهُ أصدقُ الخلقِ وأنصحُهم وأعظمُهم في كلِّ خصلةٍ حميدةٍ، ومنقبةٍ جميلةٍ، وأنَّهُ أكَمَلَ اللهُ بهِ الدِّينَ، وأتمَّ بهِ النِّعمةَ على المؤمنينَ، وشرحَ لهُ صدرَهُ، ووضعَ عنهُ وزرَهُ، ورفعَ له ذكرَهُ، وخصَّهُ بخصائصَ لم تكنْ لأحدٍ قبلَهُ مِن الرُّسلِ، وأيَّدَهُ بالآياتِ البيِّناتِ والمعجزاتِ الظَّاهراتِ، والبراهينِ القواطِعِ، والأنوارِ السَّواطعِ.
صفاتُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن أكبرِ الأدلَّةِ على صدقِهِ، وأنَّهُ رسولُ اللهِ حقًّا، وما بُعِثَ بهِ مِن الهدى والرُّشدِ والرَّحمةِ، والعلومِ الرَّبَّانيَّةِ، والمعارفِ الإلهيَّةِ، والعبوديَّاتِ الظَّاهرةِ والباطنةِ الـمُزكِّيةِ للقلوبِ، الـمُنمِّيةِ للأخلاقِ، المثمرةِ لكلِّ خيرٍ مِن أعظمِ البراهينِ على رسالتِهِ، وأنَّها مِن عندِ اللهِ.
وما جاءَ بهِ مِن القرآنِ العظيمِ، وما احتوى
– الشيخ : ولكنَّ أكثرَ الخلق عن هذا معرضون، نسألُ اللهَ العافيةَ، فالهدى والفلاحُ في اتِّباعه، فالهدى والفلاحُ والرَّحمةُ في اتِّباعه صلَّى الله عليه وسلَّم، والشَّقاءُ والضَّلالُ في الإعراض عمَّا جاءَ به فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه:123-124].
– القارئ : وما جاءَ بهِ مِن القرآنِ العظيمِ، وما احتوى عليهِ مِن علومِ الغيبِ والشَّهادةِ، ومِن علومِ الظَّاهرِ والباطنِ، ومِن علومِ الدُّنيا والدِّينِ والآخرةِ، ومِن الهدايةِ إلى كلِّ خيرٍ، والتَّحذيرِ مِن كلِّ شرٍّ، ومِن الإرشادِ إلى أقومِ الطُّرقِ وأهدى السُّبلِ، وأقربِ الوسائلِ وأرجحِ الدَّلائلِ، كلُّ ذلكَ دليلٌ وبرهانٌ على أنَّهُ مِن عندِ اللهِ، تنزيلٌ مِن حكيمٍ حميدٍ، وأنَّ مَنْ جاءَ بهِ هوَ الرَّسولُ الأمينُ والصَّادقُ المصدوقُ، الَّذي لا ينطقُ عن الهوى إنْ هوَ إلَّا وحيٌ يُوحَى.
– الشيخ : صلَّى الله عليه وسلَّم
– القارئ : ولهذا نقولُ: ومِن الإيمانِ باللهِ ورسولِهِ: الإيمانُ بهذا القرآنِ، وأنَّهُ كلامُ اللهِ حقيقةً منزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ، منهُ بدأَ، وإليهِ يعودُ، وأنَّهُ تكلَّمَ بهِ حقًّا، وبلَّغَهُ جبريلُ لمحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وبلَّغَهُ محمَّدُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- لأمَّتِهِ، فنقلَتْهُ الأمَّةُ كلُّها بأسرِها قرنًا بعدَ قرنٍ.
ولهذا كانَ القرآنُ متواترًا تواترًا لا يقاربُهُ شيءٌ مِن الكلامِ المنقولِ، وهذا مِن حفظِ اللهِ، فإنَّهُ تعالى أنزلَهُ وتكفَّلَ بحفظِهِ.
ومِن تمامِ الإيمانِ بهِ التَّصديقُ التَّامُّ بكلِّ خبرٍ أخبرَ بهِ عن اللهِ، وعن المخلوقاتِ، وعن أمورِ الغيبِ وغيرِها، وأنَّهُ لا يمكنُ أنْ يأتيَ خبرٌ صحيحٌ يَنقضُهُ، أو يَرِدُ بـِما يخالفُ الحسَّ، بل يعلمُ أنَّ كلَّ ما خالفَهُ فإنَّهُ باطلٌ بنفسِهِ.
ومِن تمامِ الإيمانِ بهِ الإقبالُ على معرفةِ معانيهِ، والعملُ بكلِّ ما دلَّ عليهِ بالتَّصديقِ بأخبارِهِ وامتثالِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيهِ.
وقد وصفَ اللهُ القرآنَ بأنَّهُ هدىً ورحمةٌ وشفاءٌ لِما في الصُّدورِ مِن أمراضِ الشُّبهاتِ، وأمراضِ الشَّهواتِ، وأنَّهُ تبيانٌ لكلِّ شيءٍ، فما مِن شيءٍ يحتاجُهُ النَّاسُ في أمورِ دينِهم ودنياهم، إلَّا وقد بيَّنَهُ أتمَّ بيانٍ، وأمرَ عندَ التَّنازُعِ في الأمورِ
– الشيخ : في أمر الدِّين والأحكام بيانُ القرآنِ والسُّنَّة في ذلك مفصَّلًا، مجملًا ومفصَّلًا، وأمَّا أمرُ الدُّنيا فما جاءَ في القرآن إنَّما هو على وجه الإجمال، فدلَّ الكتابُ والسُّنَّةُ على إباحة منافعِ الدُّنيا، على الإباحةِ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29] (احرصْ على ما ينفعُكَ)، وأمَّا علومُ الدُّنيا من الصِّناعات والعلوم الأخرى العمليَّة من أمورِ الدِّين فهذا أذِنَ الشَّرعُ فيما ينفعُ منها ونهى عمَّا يضرُّ، وهي…، وطريقُ معرفةِ علومِ الدُّنيا هي التَّجاربُ كما هو معروفٌ، علومُ الدُّنيا طريقُها التَّجاربُ، وما علمَ النَّاسُ منها فبتعليمِ اللهِ الكونيِّ، تعليم الله الكونيّ.
– القارئ : وأمرَ عندَ التَّنازُعِ في الأمورِ كلِّها أنْ تُردَّ إليهِ، فيفصلُ النِّزاعَ وَيَحُلُّ المتشابهاتِ بلفظِهِ الصَّريحِ، أو بمعانيهِ المتنوِّعةِ الَّتي بيَّنَتْها السُّنَّةُ، وبلَّغَها النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- لأمَّتِهِ، وأمرَ العبادَ بتدبُّرِهِ والتَّفكُّرِ في معانيهِ.
وأخبرَ أنَّ أحكامَهُ أحسنُ الأحكامِ، وأخبارَهُ أصدقُ الأخبارِ، ومواعظَهُ أنجعُ المواعظِ، فهوَ الـمُبيِّنُ لكلِّ ما يحتاجُهُ الخلقُ، وهوَ المفصِّلُ لجميعِ العلومِ؛ كلُّهُ، محكمٌ مِن جهةِ الحِكَمِ والحُكْمِ والإتقانِ والانتظامِ، وكلُّهُ متشابِهٌ في حسنِهِ وبيانِهِ وحقِّهِ، وتصديقِ بعضِهِ لبعضٍ، وبعضُهُ محكَمٌ مِن جهةِ التَّوضيحِ والتَّصريحِ، وبعضُهُ متشابِهٌ مِن جهةِ الإجمالِ والإطلاقِ، يجبُ ترجيعُهُ وردُّهُ إلى المحكَمِ؛ ليتَّضحَ الأمرُ ويزولَ اللَّبسُ، فيهِ الدَّليلُ والـمدلولُ، يحتوي على جميعِ الأدلَّةِ النَّقليَّةِ والعقليَّةِ والفطريَّةِ قد جمعَ اللهُ فيهِ كلَّ خيرٍ ونفعَ بهِ العبادَ.
ثمَّ قالَ رحمَهُ اللهُ: الإيمانُ باليومِ الآخرِ
– الشيخ : حسبُك