بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (فَتحُ الرَّحيمِ الملكِ العَلاَّمِ في عِلمِ العقَائِدِ وَالتَّوحيْدِ وَالأخْلاَقِ وَالأحكامِ المُستنَبَطةِ مِن القرآنِ)
للشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصرالسّعدي
الدَّرس الثَّامن والثَّلاثون
*** *** *** ***
– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللَّهمَّ اغفرْ لشيخِنا وللحاضرينَ والمستمعينَ. قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ بنُ ناصرٍ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى وأسكنَهُ فسيحَ جنانِهِ- في كتابِهِ: "فَتحُ الرَّحيمِ الملكِ العَلَّامِ في عِلمِ العقَائِدِ وَالتَّوحيْدِ وَالأخْلاَقِ وَالأحكامِ المُستنَبَطةِ مِن القرآنِ" قالَ رحمَهُ اللهُ تعالى:
فصلٌ في الإشارةِ إلى ما وردَ في القرآنِ مِن براهينِ التَّوحيدِ، توحيدُ الألوهيَّةِ والعبوديَّةِ، إلى أنْ قالَ رحمَهُ اللهُ تعالى: ألمْ يتفضَّلْ بما هوَ أعظمُ مِن ذلكَ بالنِّعمِ الدِّينيَّةِ والأخرويَّةِ الَّتي هيَ السَّببُ في السَّعادةِ الأبديَّةِ.
ألم يمنَّ على المؤمنينَ بالإسلامِ والإيمانِ، ويبعثُ فيهم رسولاً يتلو عليهم آياتِهِ، ويزكِّيهم ويعلِّمُهم الكتابَ والحكمةَ، ويزكِّيهم ويعلِّمُهم ما لم يكونُوا يعلمونَ.
ألم يوضِّحْ لهم الصِّراطَ المستقيمَ، ويكملُ لهم الدِّينَ، ويمنُّ عليهم بالهدايةِ التَّامَّةِ، هدايةَ التَّعليمِ والتَّفهيمِ والإرشادِ، وهدايةَ التَّوفيقِ والعملِ والانقيادِ.
ألم يخرجْهم مِن ظلماتِ الجهلِ إلى النُّورِ، ومِن ظلماتِ الكفرِ إلى نورِ الإيمانِ، ومِن ظلماتِ المعاصي إلى نورِ الطَّاعةِ، ومِن ظلماتِ الغفلةِ إلى نورِ الإنابةِ إليهِ وذكرِهِ.
ألم ييسِّرْهم لليُسرى ويجنِّبْهم العُسرى.
ألم يحبِّبْ إليهم الإيمانَ ويزيِّنْهُ في قلوبِهم، ويكرِّهْ إليهم الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، ويجعلْهم مِن الرَّاشدينَ فضلاً منهُ ونعمةً واللهُ عليمٌ حكيمٌ.
ألم يعصمْهم مِن موبقاتِ الآثامِ، ويحفظْهم مِن فتنِ الشُّكوكِ والشُّبهاتِ والأوهامِ.
ألم يفتحْ لهم أبوابَ التَّوبةِ الرَّحمةِ، ويأمرُهم بالأسبابِ الَّتي يدركونَ بها رحمتَهُ وينجونَ بها مِن عقابِهِ.
ألم يجعلْ لهم الحسنةَ بعشرةِ أمثالِها إلى سبعمائةِ ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، والسَّيِّئةَ بواحدةٍ، ومآلُها العفوُ والصَّفحُ والغفرانُ، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ [الشورى:25]، ويأخذُ الصَّدقاتِ وأنَّ اللهَ هوَ التَّوابُ الرَّحيمُ.
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]
ألم يكنْ جانبُ فضلِهِ وكرمِهِ ورحمتِهِ في جميعِ الأمورِ سابقًا وغالبًا: (إنَّ رحمتي سَبَقَتْ غضبي) رواهُ وفي لفظٍ: (غَلَبَتْ).
فللرَّحمةِ السَّبقُ والإحاطةُ والسَّعةُ، ولها الغلبةُ بحيثُ يضمحلُّ معَها أسبابُ العقوبةِ كما تقدَّمَ في الحسناتِ والسَّيِّئاتِ، وإنَّ العبدَ لو أفنى عمرَهُ في المعاصي، ثمَّ في ساعةٍ واحدةٍ قبلَ أنْ يُغَرْغِرَ تابَ وأنابَ، غفرَ لهُ كلَّ ذلكَ وأبدلَ سيِّئاتِهِ حسناتٍ.
وأنَّ أدنى مثقالِ حبَّةِ خردلٍ مِن إيمانٍ يمنعُ الخلودَ في النَّارِ، وأنَّ الكفَّارَ والفجَّارَ وأصنافَ العصاةِ يبارزونَ المولى بالمخالفاتِ والعظائمِ، وهوَ يعافيهم ويرزقُهم ويُدِرُّ عليهم النِّعمَ ويستعتبُهم، ويعرضُ عليهم التَّوبةَ، ويُخبرُهم أنَّهم إنْ تابُوا عفى عنهم وغفرَ لهم، حتَّى إذا ماتُوا وهم كفَّارٌ ولم يكنْ فيهم مِن الخيرِ مثقالَ ذرَّةٍ وَلاَّهُمْ ما تولَّوا لأنفسِهم ورضُوا لها مِن الشَّقاءِ الأبديِّ.
وإذا كانَ جميعُ ما فيهِ الخلقُ مِن النِّعمِ والأفراحِ والمسرَّاتِ أسبابُها ومسبِّباتُها، الظَّاهرةُ منها والباطنةُ، الدِّينيَّةُ والدُّنيويَّةُ، كلُّها مِن اللهِ، وهوَ الَّذي تفضَّلَ بها مِن غيرِ سببٍ منهم، فإنْ حصلَ بعضُ الأسبابِ الواقعةِ مِن الخلقِ الَّتي ينالونَ بها نِعَمَهُ ورحمتَهُ، فتلكَ الأسبابُ هوَ الَّذي أعطاهم إيَّاها، فمنهُ كلُّ شيءٍ محبوبٍ، وجميعُ الشُّرورِ والمكارهِ هوَ الَّذي دفعَها ويسَّرَ دفعَها.
فمَن كانَ هذا شأنُهُ العظيمُ وخيرُهُ الجسيمُ، أليسَ هوَ الَّذي يستحقُّ أنْ يُبذَلَ لهُ خالصُ العبوديَّةِ، وصفوُ الودادِ، وأحقُّ مَن عُبِدَ، وأولى مَن ذُكِرَ وشُكِرَ، فتبًّا لِمَنْ أشركَ بهِ مِن هوَ مضطرٌّ إليهِ في كل ِّ أحوالِهِ، فقيرٌ في جميعِ أمورِهِ.
ومِن براهينِ التَّوحيدِ: ما يصفُ اللهُ بهِ الأوثانَ ومَن عُبِدَ مِن دونِهِ مِن النَّقصِ العظيمِ، وأنَّها فاقدةٌ للكمالِ، وربَّما كانَتْ فاقدةً أيضًا للأقوالِ والأفعالِ، وأنَّها لا تَخلِقُ ولا تَرزِقُ باعترافِ عابديها، وليسَ لها مُلكٌ ولا شركةٌ في الملكِ، وليسَ لها مظاهرةٌ للهِ ولا معاونةٌ بوجهٍ مِن الوجوهِ، وليسَ اللهُ محتاجًا إليها، ولا إلى غيرِها، بل هوَ الغنيُّ الحميدُ.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل:20]، ولا يملكونَ لهم نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ولا ينصرونَهم ولا أنفسَهم ينصرونَ، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6]، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ [الأعراف:194-195]، أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى [يونس:35 ], مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]
إلى غيرِ ذلكَ مِن الصِّفاتِ النَّاقصةِ الَّتي وصفَ اللهُ بها كلَّ ما عُبِدَ مِن دونِهِ، وهيَ معلومةٌ حتَّى عندَ العابدينَ لها، ولكنَّهم يزعمونَ الزَّعمَ الباطلَ أنَّهم يريدونَ أنْ تشفعَ لهم أو تقرِّبَهم إليهِ زلفىً.
وهذا القصدُ الخبيثُ أعظمُ مُبعِدٍ لهم عن اللهِ، فإنَّهُ لا يُتقرَّبُ إليهِ إلَّا بما يحبُّ، ولا يُتوسَّلُ إليهِ إلَّا بالإيمانِ والتَّوحيدِ الخالصِ، والأعمالِ الخالصةِ لوجهِهِ. ومَن تقرَّبَ إليهِ بالشِّركِ لم يزددْ منهُ إلَّا بُعدًا، وبذلكَ قطعَ الصِّلَةَ بينَهُ وبينَ ربِّهِ فاستحقَّ الخلودَ في النَّارِ وحرَّمَ اللهُ عليهِ الجنَّةَ.
ومِن براهينِ التَّوحيدِ: أيَّامُهُ بينَ عبادِهِ، وإكرامُهُ للرُّسلِ وأتباعِهم الَّذينَ قامُوا بتوحيدِهِ، و إنجائِهم مِن الشُّرورِ والعقوباتِ، وإحلالِهِ الـمَثُلَاتِ بالأممِ المشرِكةِ باللهِ، المستكبِرةِ عن عبادةِ اللهِ، المكذِّبةِ لرسولِ اللهِ لـمَّا حذَّرَهم وأنذرَهم، وأقامَ عليهم الحججَ المتنوِّعةَ والآياتِ المفصَّلةَ على توحيدِهِ وصِدْقِ رسلِهِ، فكذَّبُوا فأوقعَ بهم أنواعَ العقوباتِ المتنوِّعةِ، فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]
ثمَّ خاتمةُ ذلكَ ما نصرَ بهِ خاتمَ رسلِهِ محمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حينَ بعثَهُ بالتَّوحيدِ الخالصِ والنَّهي عَن الشِّركِ، فقاومَهُ أهلُ الأرضِ الأقربِينَ منهم والأبعدِينَ، ومكرُوا في نصرِ باطلِهم، وإبطالِ الحقِّ الَّذي معَهُ الـمَكُرَاتِ العظيمةَ، فخذلَهم اللهُ ونصرَ نبيَّهُ وأتباعَهُ النَّصرَ الَّذي لا مثيلَ لهُ، إنَّ في ذلكَ لآيةٍ على أنَّ دينَ اللهِ -الَّذي هوَ التَّوحيدُ والإيمانُ- هوَ الحقُّ، وأنَّ ما يدعونَ مِن دونِهِ هوَ الباطلُ، وأنَّ رسولَهُ هوَ الصَّادقُ الأمينُ، وأنَّ جميعَ مَن عاداهُ لفي أعظمِ الغيِّ والضَّلالِ و الشَّقاءِ.
ومِن البراهينِ على التَّوحيدِ وعلى صدقِ الرَّسولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
– الشيخ : إلى هنا، إلى هنا، جزاكم اللهُ خيرًا، رحمه اللهُ، كلُّه من الاستدلالِ بأفعالِه تعالى، كلُّه استدلالٌ بأفعالِه، بخلقِ هذه الموجوداتِ وبما يُنعِمُ به على الخلقِ عمومًا وخصوصًا، وكذلك ما يُنزلُه من النَّصر بأنبيائه وأوليائه، وهي الحقُّ، وكذلك ما ينزلُه من البأسِ والعقوباتِ على أعداءِ الرُّسلِ، كلُّ هذه من الأدلَّة على قدرته وحكمتِه ورحمتِه سبحانه تعالى، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج:6]، وأنَّه الإلهُ الحقُّ الَّذي لا يستحقُّ العبادةَ سواه، ولهذا في القرآنِ يُذكِّرُ اللهُ بهذه الأمور كلِّها، يُذكِّرُ بها، كلُّ هذه الأمورِ اللهُ يُذكِّرُ بها عبادَه استدلالًا على ربوبيَّته وإلهيَّته.