الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الأحزاب/(7) من قوله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} الآية 21 إلى قوله تعالى {وأورثكم أرضهم} الآية 27

(7) من قوله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} الآية 21 إلى قوله تعالى {وأورثكم أرضهم} الآية 27

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الأحزاب

الدَّرس: السَّابع

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأحزاب:21-28]

– الشيخ : أحسنتَ، إلى هنا.. لا إله إلَّا الله، يقولُ تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} يوجِّهُ اللهُ عبادَه المؤمنين إلى التأسِّي بالرسولِ والاقتداءِ بالرسول واتِّباعِ الرسول؛ في سيرتِه في هديِه في أقوالِه وأفعالِه، في صبرِهِ وجهادِه عليه الصلاةُ والسلامُ، وهذه الأسوةُ أهلُها والَّذين يقومون بحقيقتِها هم من يؤمنوا باللهِ واليومِ الآخرِ ويذكرُ اللهُ كثيراً،  {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} فعمَّ أولاً {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ} ثمَّ خصَّ أولئك {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} اللَّهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِك ورسولك.

ثمَّ قالَ تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} رجالٌ عظامٌ، "رجالٌ" هذه تُشعرُ بالعظمةِ والكلامِ والرجولةِ، الرجولةُ العاليةُ، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} وهذه كما تقدَّمَ هذا الوصفُ وهذا الصنفُ هذا ضدُّ من ذكرَهم اللهُ في قوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} إلى قوله: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا}

{صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} وبلغَ ما يؤمِّلُه من الشهادةِ وغيرها، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} ما غيَّروا ولا بدَّلوا بل ثبتُوا، ثبتُوا على إيمانِهم ونصرتِهم للهِ ولرسولِه ولدينِه، ثبتُوا، {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}

ثمَّ قالَ تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} يجزيهم في الدُّنيا نصراً وهدايةً وتوفيقاً وتسديداً وتثبيتاً، ويجزيهم في الآخرةِ مغفرةً ورضواناً ورحمةً وكرامةً {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} قابلَ بين الصادقين والمنافقين؛ لأنَّ المنافقين كاذبون، هم الَّذين يكذبون أعظمَ الكذبِ.

{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فإنَّ اللهَ تعالى يوفِّقُ مَن شاءَ من المنافقين للتوبةِ، قد يكونُ الإنسانُ كافراً عنيداً ثمَّ يُهدَى ويُوفَّقُ، واللهُ أعلمُ حيثُ يضعُ فضلَه وهدايتَه، قد يكون الشخصُ منافقاً ثمَّ يتوب اللهُ عليه، ولهذا قال سبحانه في آيةٍ أخرى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:145-146]

ثمَّ قالَ تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} الأحزابُ، الأحزابُ الَّذين تحزَّبوا وتجمَّعُوا وتظافروا ردَّهم اللهُ خاسئين مهزومين مشرَّدين، ردَّهم بغيظِهم، ما شفَوا غيظَهم، ما شفَوا غيظَهم من المؤمنين، لم يبلغُوا من المؤمنين بعضَ ما يريدون، ولا بعض ما يريدون، ردَّهم بغيظِهم، {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} ما صار في قتال يعني بالسيوفِ والرماحِ لا، كانَ بينَهم الخندقُ، قد يكونُ من بعضِهم من بعضِ المناوشات، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} كفاهم بإرسالِ الملائكةِ وبإرسالِ الريحِ، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9] {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}

ثمَّ قالَ تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} الأحزابُ هؤلاء تضامنَ معَهم بنو قريظةَ من اليهودِ، وعدُوهم أنْ ينصروهم، يعني هؤلاء في الخارجِ وهؤلاء متمكِّنون قريبون، وعدُوهم أن يناصروهم، {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} كانوا في حصونٍ وفي أمنٍ، يظنُّون {أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ} [الحشر:2] لكنَّ اللهَ أنزلَهم من هذه الحصونِ، نزلوا على حكمِ سعدِ بنِ معاذ، يعني الرسولُ -عليه الصلاة والسلام- بعدما انهزمَ الأحزابُ وذهبوا، أمرَه اللهُ أنْ يوجِّهَ إلى بني قريظةَ، فأمرَ النبيُّ أصحابَه إلى أن يهبوا إلى بني قريظةَ ويحاصروهم، فحاصرَهم مدَّةً ثمَّ نزلوا، يعني اضطروا فنزلُوا على حكمِ سعدٍ، فحكمَ فيهم رضيَ اللهُ عنه بحكمِ اللهِ من فوقِ سبعِ سمواتٍ، أمرَ أنْ تُقتَّل مقاتلتُهم، وتُسبَى نساؤُهم وذراريهم، وهذا -واللهُ أعلمُ- قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} قذفَ اللهُ في قلوبِهم الرعبَ وهم في حصونِهم، حتَّى نزلُوا وخضعُوا وذلُّوا وهانُوا {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} فمن كانَ من المقاتلة ومن الرجالِ البالغين قُتِلَ، ومن سواهم أُسِرَ، تقتلون فريقاً وتأسرونَ فريقاً.

{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} وهذا كلُّه تمَّ بقدرته سبحانَه وتعالى ومشيئتِهِ وحكمتِهِ.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآياتَ.

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} حيثُ حضرَ الهيجاءَ بنفسِهِ الكريمةِ، وباشرَ

– الشيخ : يعني حضرَ يعني الغزوةَ وباشرَ الغزوةَ، هذا شأنُ الرسولِ في الغزواتِ، عددٌ من الغزوات يخرجُ الرسولُ وهو الَّذي يوجِّهُ الصحابةَ ويرشدُهم، بل ويحدِّدُ مواقعَهم، {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران:121]. أنتم هنا، وهؤلاء هنا، وهؤلاء هنا، ترتيبٌ، ترتيبُ القائدِ لجنودِه

– القارئ : حيثُ حضرَ الهيجاءَ بنفسِهِ الكريمةِ، وباشرَ موقفَ الحربِ، وهوَ الشَّريفُ الكاملُ، والبطلُ الباسلُ، فكيفَ تشحُّونَ بأنفسِكم، عن أمرٍ جادَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بنفسِهِ فيهِ؟

فَتأَسَّوْا بهِ في هذا الأمرِ وغيرِهِ.

– الشيخ : اللهُ أكبر، {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120]

 

– القارئ : واستدلَّ الأصوليُّونَ في هذهِ الآيةِ، على الاحتجاجِ بأفعالِ الرسولِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وأنَّ الأصلَ، أنَّ أمَّتَهُ أسوتُهُ في الأحكامِ، إلَّا ما دلَّ الدَّليلُ الشَّرعيُّ على الاختصاصِ بهِ.

فالأسوةُ نوعانِ: أسوةٌ حسنةٌ، وأسوةٌ سيِّئةٌ.

فالأسوةُ الحسنةُ في الرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فإنَّ المتأسِّيَ بهِ

– الشيخ : الأسوةُ الحسنةُ يعني هي الأسوةُ بالرسول، والأسوةُ السيِّئةُ الأسوةُ بغيره، المخالفين له، وسنَّته صلَّى الله عليه وسلَّم كلُّها هدىً ورشادٌ وسدادٌ وخيرٌ

– القارئ : فإنَّ المتأسِّيَ بهِ، سالكٌ الطَّريقَ المُوصِلَ إلى كرامةِ اللهِ، وهوَ الصِّراطُ المستقيمُ.

وأمَّا الأسوةُ بغيرِهِ، إذا خالفَهُ، فهوَ الأسوةُ السَّيِّئةُ، كقولِ المشركينَ حينَ دعتْهم الرُّسلُ للتأسِّي بهم {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22]

– الشيخ : يعني يتأسَّون بآبائِهم، يقولون: نحن قدوتُنا آباؤُنا، قدوتُنا آباؤُنا، معناه: لا نخالفُ آباءَنا، قالَ اللهُ: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان:21].

 

– القارئ : {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]

وهذهِ الأسوةُ الحسنةُ، إنَّما يسلكُها ويُوفَّقُ لها، مَن كانَ يرجو اللهَ، واليومَ الآخرَ، فإنَّ ما معَهُ مِن الإيمانِ، وخوفِ اللهِ، ورجاءِ ثوابِهِ، وخوفِ عقابِهِ، يحثُّهُ على التَّأسِّي بالرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ

– الشيخ : بأبي وأمِّي صلَّى الله عليه وسلَّم

– القارئ : لمَّا ذكرَ حالةَ المنافقينَ عندَ الخوفِ، ذكرَ حالَ المؤمنينَ فقالَ: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ} الَّذينَ تحزَّبُوا، ونزلُوا منازلَهم، وانتهى الخوفُ، {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} في قولِهِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]

{وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} فإنَّا رأيْنا، ما أخبرَنا بهِ {وَمَا زَادَهُمْ} ذلكَ الأمرُ {إِلَّا إِيمَانًا} في قلوبِهم {وَتَسْلِيمًا} في جوارحِهم، وانقيادًا لأمرِ اللهِ.

ولمَّا ذكرَ أنَّ المنافقينَ، عاهدُوا اللهَ، لا يولُّونَ الأدبارَ، ونقضُوا ذلكَ العهدَ، ذكرَ وفاءَ المؤمنينَ بهِ، فقالَ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ} أي: وفَوا بهِ، وأتمُّوهُ، وأكملُوهُ، فبذلُوا مُهجَهم في مرضاتِهِ، وسبَّلُوا نفوسَهم في طاعتِهِ.

{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} أي: إرادتَهُ ومطلوبَهُ، وما عليهِ مِن الحقِّ، فقُتِلَ في سبيلِ اللهِ، أو ماتَ مؤدِّيًا لحقِّهِ، لم ينقصْهُ شيءٌ.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} تكميلَ ما عليهِ، فهوَ شارعٌ في قضاءِ ما عليهِ، ووفاءِ نحبِهِ ولمَّا يكملْهُ، وهوَ في رجاءِ تكميلِهِ، ساعٍ في ذلكَ، مجدٌّ.

{وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} كما بدَّلَ غيرُهم، بل لم يزالُوا على العهدِ، لا يلوونَ، ولا يتغيَّرونَ، فهؤلاءِ هم الرِّجالُ على الحقيقةِ، ومَن عداهُم، فصورُهم صورُ رجالٍ، وأمَا الصِّفاتُ، فقد قصرَتْ عن صفاتِ الرِّجالِ.

{لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} أي: بسببِ صدقِهم، في أقوالِهم، وأحوالِهم، ومعاملتِهم معَ اللهِ، واستواءِ ظاهرِهم وباطنِهم، قالَ اللهُ تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [المائدة:119] الآيةَ.

أي: قدَّرْنا ما قدَّرْنا، مِن هذهِ الفتنِ والمحنِ، والزَّلازلِ؛ ليتبيَّنَ الصَّادقُ مِن الكاذبِ، فيجزي الصَّادقينَ بصدقِهم {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} الَّذينَ تغيَّرَتْ قلوبُهم وأعمالُهم، عندَ حلولِ الفتنِ، ولم يوفوا بما عاهدُوا اللهَ عليهِ.

{إِنْ شَاءَ} تعذيبَهم، بأنْ لم يشأْ هدايتَهم، بل علمَ أنَّهم لا خيرَ فيهم، فلم يوفِّقْهم.

{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} بأنْ يوفِّقَهم للتَّوبةِ والإنابةِ، وهذا هوَ الغالبُ، على كرمِ الكريمِ، ولهذا ختمَ الآيةَ باسمينِ دالَّينِ على المغفرةِ، والفضلِ، والإحسانِ فقالَ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رحيمًا} غفورًا لذنوبِ المسرفينَ على أنفسِهم، ولو أكثرُوا مِن العصيانِ، إذا أتَوا بالمتابِ. {رَحِيمًا} بهم، حيثُ وفَّقَهم للتَّوبةِ، ثمَّ قبلَها منهم، وسترَ عليهم ما اجترحُوهُ.

{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} أي: ردَّهم خائبينَ، لم يحصلْ لهم الأمرُ الَّذي كانُوا حريصينَ عليهِ، مغتاظينَ قادرينَ عليهِ جازمينَ، بأنَّ لهم الدَّائرةَ، قد غرَّتْهم جموعُهم، وأُعجِبُوا بتحزُّبِهم، وفرحُوا بِعَدَدِهمْ وعُدَدِهِمْ.

فأرسلَ اللهُ عليهم، ريحًا عظيمةً، وهيَ ريحُ الصَّبا، فزعزعَتْ مراكزَهم، وقوَّضَتْ خيامَهم، وكفأَتْ قدورَهم وأزعجَتْهم، وضربَهم اللهُ بالرُّعبِ، فانصرفُوا بغيظِهم، وهذا مِن نصرِ اللهِ لعبادِهِ المؤمنينَ.

{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} بما صنعَ لهم مِن الأسبابِ العاديَّةِ والقدريَّةِ، {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} لا يغالبُهُ أحدٌ إلَّا غُلِبَ، ولا يستنصرُهُ أحدٌ إلَّا غَلَبَ، ولا يعجزُهُ أمرٌ أرادَهُ، ولا ينفعُ أهلُ القوَّةِ والعزَّةِ، قوَّتُهم وعزَّتُهم، إنْ لم يعنْهم بقوَّتِهِ وعزَّتِهِ.

{وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ} أي: عاونُوهم {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} أي: اليهودِ {مِنْ صَيَاصِيهِمْ} أي: أنزلَهم مِن حصونِهم، نزولاً مظفورًا بهم، مجعولينَ تحتَ حكمِ الإسلامِ.

{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} فلم يقوَوا على القتالِ، بل استسلمُوا وخضعُوا وذلُّوا. {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ} وهم الرِّجالُ المقاتلونَ {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} مَنْ عداهم مِن النِّساءِ والصِّبيانِ.

{وَأَوْرَثَكُمْ} أي: غنَّمَكم {أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} أي: أرضاً كانَتْ مِن قبلُ، مِن شرفِها وعزَّتِها عندَ أهلِها، لا تتمكَّنونَ مِن وطئِها، فمكَّنَكم اللهُ منها ومِن أهلِها وخذلَهم، وغنمْتُم أموالَهم، وقتلْتُموهُم، وأسرْتُموهم.

{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} لا يعجزُهُ شيءٌ، ومِن قدرتِهِ، قدَّرَ

– الشيخ : لا إله إلَّا الله

– القارئ : لا يعجزُهُ شيءٌ، ومِن قدرتِهِ، قدَّرَ لكم ما قدَّرَ.

وكانَتْ هذهِ الطَّائفةُ مِن أهلِ الكتابِ، هم بنو قريظةَ مِن اليهودِ، في قريةٍ خارجَ المدينةِ، غيرِ بعيدٍ، وكانَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، حينَ هاجرَ إلى المدينةِ، وادعَهم، وهادنَهم، فلم يقاتلْهم ولم يقاتلوهُ، وهم باقونَ على دينِهم، لم يغيِّرْ عليهم شيءٌ.

فلمَّا رأَوا يومَ الخندقِ، الأحزابُ الَّذينَ تحزَّبُوا على رسولِ اللهِ وكثرتُهم، وقلَّةُ المسلمينَ، وظنُّوا أنَّهم سيستأصلونَ الرَّسولَ والمؤمنينَ، وساعدَ على ذلكَ، تدجيلُ بعضِ رؤسائِهم عليهم، فنقضُوا العهدَ الَّذي بينَهم وبينَ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، ومالؤُوا المشركينَ على قتالِهِ.

فلمَّا خذلَ اللهُ المشركينَ، تفرَّغَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، لقتالِهم، فحاصرَهم في حصنِهم، فنزلُوا على حكمِ سعدِ بنِ معاذٍ -رضيَ اللهُ عنهُ-، فحكمَ فيهم، أنْ تُقتَّلَ مقاتلتُهم، وتُسبَى ذراريهم، وتُغنَمَ أموالُهم.

فأتمَّ اللهُ لرسولِهِ والمؤمنينَ، المنَّةَ، وأسبغَ عليهم النِّعمةَ، وأَقَرَّ أعينَهم، بخذلانِ مَن انخذلَ مِن أعدائِهم، وقتلِ مَن قتلُوا، وأسرِ مَن أسرُوا، ولم يزلْ لطفُ اللهِ بعبادِهِ المؤمنينَ مستمرًّا.

يا أيُّها النَّبيُّ..

– الشيخ : اللَّهمَّ الطفْ بالمسلمين، اللَّهمَّ الطفْ بنا وبالمسلمين، اللَّهمَّ الطفْ بنا وادفعْ عنَّا شرَّ الكافرين، اللَّهمَّ اكفِنا شرَّهم بما شئت، اللَّهمَّ اكفِناهم بما شئتَ، حسبُنا اللهُ ونعم الوكيل.