بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس الثَّامن والثّلاثون
*** *** *** ***
– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللَّهمَّ اغفرْ لنا ولشيخِنا وللمستمعينَ وللمسلمينَ. قالَ رحمَهُ اللهُ تعالى:
فَصْلٌ
وَمِنْهَا: قَبُولُ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، بِغَيْرِ يَمِينٍ فِي التَّرْجَمَةِ، وَالتَّعْرِيفِ وَالرِّسَالَةِ، وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، فَقَالَ: "بَابُ تَرْجَمَةِ الْحُكَّامِ، وَهَلْ يَجُوزُ تُرْجُمَانٌ وَاحِدٌ؟" قَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ «زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَةَ الْيَهُودِ، حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُتُبَهُ وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ إذَا كَتَبُوا إلَيْهِ» وَقَالَ عُمَرُ -وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ-: "مَاذَا تَقُولُ هَذِهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَاطِبٍ: تُخْبِرُكَ بِصَاحِبِهَا الَّذِي صَنَعَ بِهَا"
وَقَالَ أَبُو حمْزَةَ: " كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ" فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا بُدَّ لِلْحَاكِمِ مِنْ مُتَرْجِمِينَ"
قُلْتُ: هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ، وَالِاكْتِفَاءُ بِوَاحِدٍ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِمَا تَقَدَّمَ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ.
قالَ رحمَهُ اللهُ: الطَّرِيقُ السَّابِعُ: الْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ.
وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كُلِّهِمْ، وَمَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، مَا خَلَا أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ "مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضيَ اللهُ عنهما-: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ» قَالَ عَمْرٌو: فِي الْأَمْوَالِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ثَابِتٌ وَمَعَهُ مَا يَشُدُّهُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ سَيْفَ بْنَ سُلَيْمَانَ يَرْوِي حَدِيثَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ لَأَفْسَدْته، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَإِذَا أَفْسَدْتَهُ فَسَدَ؟!
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ عَنْ سَيْفِ بْنِ سُلَيْمَانَ؟ فَقَالَ: هُوَ عِنْدَنَا مِمَّنْ يُصَدَّقُ وَيُحْفَظُ، كَانَ ثَبْتًا.
قُلْتُ: هُوَ رَوَاهُ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرٍو.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَآخَرَ لَهُ صُحْبَةٌ: «أَنَّ النبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ»
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُد، وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَدْ رُوِيَ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي مُصَنَّفٍ أَفْرَدَهُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: رَوى عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَنَّهُ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَسُرَّقٌ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ حَزْمٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَبِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ، وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ، وَمَسْلَمَةَ بْنُ قَيْسٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ؛ ثُمَّ ذَكَرَ أَحَادِيثَهُمْ بِإِسْنَادِهِ.
وَفِي مَرَاسِيلِ مَالِكٍ: عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ»
وَقَضَى بِهِ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِالْعِرَاقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لِبَعْضِ مُنَاظِرِيهِ: فقد رَوَى عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ» وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمَا، عَنْ الثَّقَفِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. وَرَوَاهُ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ»
وَتَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ جَعْفَرٍ بِهِ، إسْنَادًا وَمَتْنًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرْنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: وَجَدْنَا فِي كِتَابِ سَعْدٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ»
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، وَنَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي كِتَابِ آبَائِهِ: "هَذَا مَا ذَكَرَ عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَالَا: «بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ، مَعَ أَحَدِهِمَا شَاهِدٌ لَهُ عَلَى حَقِّهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمِينَ صَاحِبِ الْحَقِّ مَعَ شَاهِدِهِ، فَاقْتَطَعَ بِذَلِكَ حَقَّهُ»
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرْنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ»
قَالَ: وَأَخْبَرْنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزَّنْجِيُّ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ فِي الشَّهَادَةِ: (فَإِنْ جَاءَ بِشَاهِدٍ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ)
وَرَوَاهُ مُطَرِّفُ بْنُ مَازِنٍ -ضَعِيفٌ- حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فِي الْحُقُوقِ"
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنَا: عُثْمَانُ بْنُ الْحَكَمِ، حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ"
وَرَوَى جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سُرَّقٍ قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَا بَكْرٍ وعمرَ وَعُثْمَانَ، كَانُوا يَقْضُونَ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، وَيَمِينِ الْمُدَّعِي»
قَالَ جَعْفَرٌ: وَالْقُضَاةُ يَقْضُونَ بِذَلِكَ عِنْدَنَا الْيَوْمَ.
وَذَكَرَ أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ: "حَضَرْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ يَقْضُونَ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ"
وَقَالَ الزَّنْجِيُّ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَة يَسْأَلُ أَبِي -وَقَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جِدَارِ الْقَبْرِ لِيَقُومَ- أَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَضَى بِهِ عَلِيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ.
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَامِلِهِ بِالْكُوفَةِ: "اقْضِ بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ فَإِنَّهَا السُّنَّةُ" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ لَا تُخَالِفُ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ شَيْئًا لِأَنَّا نَحْكُمُ بِشَاهِدَيْنِ، وَشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَإِذَا كَانَ شَاهِدٌ: حَكَمْنَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَلَيْسَ ذَا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْرُمْ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ اللَّهُ، وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَأْخُذَ مَا آتَانَا. قُلْتُ: وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابَ الْحُقُوقِ: أَنْ يَحْفَظُوا حُقُوقَهُمْ بِهَذَا النِّصَابِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ الْحُكَّامَ: أَنْ يَحْكُمُوا بِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَمَرَهُمْ أَلَّا يَقْضُوا إلَّا بِذَلِكَ، وَلِهَذَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِالنُّكُولِ وَالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، وَالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، وَالنِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ، وَبِمَعَاقِدِ الْقِمْطِ، وَوُجُوهِ الْآجِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ طُرُقِ الْحُكْمِ الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ.
فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ، فَهَذِهِ أَشَدُّ مُخَالَفَةً لِكِتَابِ اللَّهِ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُخَالِفَةً لِلْقُرْآنِ، فَالْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ أَوْلَى أَلَّا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْقُرْآنِ، فَطُرُقُ الْحُكْمِ شَيْءٌ، وَطُرُقُ حِفْظِ الْحُقُوقِ شَيْءٌ آخَرُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ، فَتُحْفَظُ الْحُقُوقُ بِمَا لَا يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ مِمَّا يَعْلَمُ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنَّهُ يُحْفَظُ بِه، وَيْحُكُمْ الْحَاكِمُ بِمَا لَا يَحْفَظُ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ حَقَّهُ، وَلَا خَطَرَ عَلَى بَالِهِ: مِنْ نُكُولٍ، وَرَدِّ يَمِينٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْقَضَاءُ وَالْيُمْنُ، مِمَّا أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105] وَقَدْ حَكَمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَهُوَ مِمَّا أَرَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ قَطْعًا.
وَمِنْ الْعَجَائِبِ: رَدُّ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَالْحُكْمُ بِمُجَرَّدِ النُّكُولِ الَّذِي هُوَ سُكُوتٌ، وَلَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ! وَالْحُكْمُ لِمُدَّعِي الْحَائِطِ إذَا كَانَتْ إلَيْهِ الدَّوَاخِلُ وَالْخَوَارِجُ -وَهُوَ الصِّحَاحُ مِنْ الْآجِرِ-، أَوْ إلَيْهِ مَعَاقِدِ الْقِمْطِ فِي الْخُصِّ -كَمَا يَقُولُه أَبُو يُوسُفَ- فَأَيْنَ هَذَا مِنْ الشَّاهِدِ الْعَدْلِ الْمُبَرِّزِ فِي الْعَدَالَةِ، الَّذِي يَكَادُ يُحَصِّلُ الْعِلْمَ بِشَهَادَتِهِ، إذَا انْضَافَ إلَيْهَا يَمِينُ الْمُدَّعِي؟
وَأَيْنَ الْحُكْمُ بِلُحُوقِ النَّسَبِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَإِنْ عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَصِلْ إلَى الْمَرْأَةِ، مِنْ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ؟ وَأَيْنَ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ مَجْهُولَيْنِ لَا يُعْرَفُ حَالُهُمَا، مِنْ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الْعَدْلِ الْمُبْرِزِ الثِّقَةِ، مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ؟
وَأَيْنَ الْحُكْمُ لِمُدَّعِي الْحَائِطِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَارِهِ، تَكُونُ ثَلَاثَةُ جُذُوعٍ فَصَاعِدًا عَلَيْهِ لَهُ مِنْ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ؟
وَمَعْلُومٌ: أَنَّ الشَّاهِدَ العَدْلَ وَالْيَمِينَ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ وَالْبَيِّنَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ جُذُوعٍ عَلَى الْحَائِطِ الَّذِي ادَّعَاهُ، فَإِذَا أَقَامَ جَارُهُ شَاهِدًا، وَحَلَفَ مَعَهُ: كَانَ ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ الْجُذُوعِ؟
وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنْ خَالَفَ سُنَّةً صَحِيحَةً لَا مُعَارِضَ لَهَا، لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ أقْوَالًا يَعْلَمُ أَنَّ الْقَوْلَ بِتِلْكَ السُّنَّةِ أَقْوَى مِنْهُ بِكَثِيرٍ.
وَقَدْ نُسِبَ إلَى الْبُخَارِيِّ إنْكَارُ الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: فِي "بَابِ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ" مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ: قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ، قَالَ: كَلَّمَنِي أَبُو الزِّنَادِ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي، فَقُلْتُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282]
قُلْتُ: إذَا كَانَ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ، فما يُحْتَاجُ أَنْ تُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، مَا كَانَ يَصْنَعُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأُخْرَى؟ فَتَرْجَمَةُ الْبَاب بِأَنَّ الْيَمِينَ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَذِكْرَ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ، وَعَدَمَ رِوَايَةِ حَدِيثٍ أَوْ أَثَرٍ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَا يَذْهَبُ إلَيْهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ فَالْحُجَّةُ فِيمَا يَرْوِيهِ لَا فِيمَا يَرَاهُ.
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عِنْدَ ذِكْرِهِ هَذِهِ الْحِكَايَةَ: لَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ مَعْنًى، فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى إذْكَارِ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى إذَا شَهِدَتَا، فَإِنْ لَمْ يكونا قامَ مَقَامَهُمَا يَمِينُ الطَّالِبِ بِبَيَانِ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، وكما حلَّت يمين المدعى عليه مَحَلَّ الْبَيِّنَةِ فِي الْأَدَاءِ وَالْإِبْرَاءِ، حَلَّتْ هَاهُنَا مَحَلَّ الشَّاهِدِ وَمَحَلَّ الْمَرْأَتَيْنِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، بِانْضِمَامِهِمَا إلَى الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ وَجَبَ إسْقَاطُ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ -كَمَا ذَكَرَ ابْنُ شُبْرُمَةَ- لَسَقَطَ الشَّاهِدُ وَالْمَرْأَتَانِ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ) فَنَقَلَهُ عَنْ الشَّاهِدَيْنِ إلَى يَمِينِ خَصْمِهِ بِلَا ذِكْرِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
قُلْتُ: مُرَادُهُ: أَنَّ قَوْله تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282] الْآيَةَ، لَوْ كَانَ مَانِعًا مِنْ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَمُعَارِضًا لَهُ، لَكَانَ قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ) مَانِعًا مِنْ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَمُعَارِضًا لَهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَا اخْتِلَافَ وَلَا تَنَاقُضَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، بَلْ الْكُلُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء: 82]
فَإِنْ قِيلَ: أَصَحُّ..
– الشيخ : إلى هنا يا أخي، أستغفرُ اللهَ.