بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس الحادي والأربعون
*** *** *** ***
– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، اللهم صلِّ وسلِّم على رسولِ اللهِ، اللهمَّ اغفرْ لنا ولشيخِنا وللمسلمينَ، قالَ ابنُ القيمِ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:
(فَصْلٌ)
وَقَدْ حَكَى أَبُو مُحَمَّدِ ابْنُ حَزْمٍ الْقَوْلَ بِتَحْلِيفِ الشُّهُودِ عَنْ ابْنِ وَضَّاحٍ، وَقَاضِي الْجَمَاعَةِ بِقُرْطُبَةَ -وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ- أَنَّهُ حَلَّفَ شُهُودًا فِي تَرِكَةٍ بِاَللَّهِ أَنَّ مَا
– الشيخ : إي حلَّفَهُم باللهِ في شأنِ تَرِكَةٍ، هذا المعنى.
– القارئ : أن ما شَهِدُوا بِهِ لَحَقٌّ.
قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ وَضَّاحٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرَى لِفَسَادِ النَّاسِ أَنْ يُحَلِّفَ الْحَاكِمُ الشُّهُودَ. وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ، وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَحْلِيفَ الشَّاهِدَيْنِ إذَا كَانَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمِلَّةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِتَحْلِيفِ الْمَرْأَةِ إذَا شَهِدَتْ فِي الرَّضَاعِ، وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.
قَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْلِفُ الشَّاهِدُ عَلَى أَصْلِنَا إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ، وَذَكَرَ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ.
قَالَ شَيْخُنَا -قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ-: هَذَانِ الْمَوْضِعَانِ قُبِلَ فِيهِمَا الْكَافِرُ وَالْمَرْأَةُ وَحْدَهَا لِلضَّرُورَةِ، فَقِيَاسُهُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لِلضَّرُورَةِ اُسْتُحْلِفَ. قُلْتُ: وَإِذَا كَانَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُفَرِّقَ الشُّهُودَ إذَا ارْتَابَ بهِمْ، فَأَوْلَى أَنْ يُحَلِّفَهُمْ إذَا ارْتَابَ بِهِمْ.
فَصْلٌ:
وَالتَّحْلِيفُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
تَحْلِيفُ الْمُدَّعِي، وَتَحْلِيفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَتَحْلِيفُ الشَّاهِدِ.
فَأَمَّا تَحْلِيفُ الْمُدَّعِي: فَفِي صُوَرٍ: أَحَدُهَا: الْقَسَامَةُ، وَهِيَ نَوْعَانِ: قَسَامَةٌ فِي الدِّمَاءِ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهَا السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ، وَأَنَّهُ يُبْدَأُ فِيهَا بِأَيْمَانِ الْمُدَّعِيْنَ، وَيَحْكُمُ فِيهَا بِالْقِصَاصِ، كَمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالنِّزَاعُ فِيهَا مَشْهُورٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.
وَالثَّانِيَةُ: الْقَسَامَةُ مَعَ اللَّوْثِ فِي الْأَمْوَالِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: إذَا أَغَارَ قَوْمٌ عَلَى بَيْتِ رَجُلِ وَأَخَذُوا مَا فِيهِ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ، وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَى مُعَايَنَةِ مَا أَخَذُوا، وَلَكِنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ أَغَارُوا وَانْتَهَبُوا. فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْتَهَبِ مَعَ يَمِينِهِ؛
– الشيخ : مضبوطة عندك "مُنْتَهَب"؟
– القارئ : لا يا شيخ
– الشيخ : كأنه "الْمُنْتَهِبِ"
– طالب: الْمُنْتَهِبِ
– الشيخ : إي ما هو.. "الْمُنْتَهِبِ"
– القارئ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْتَهِبِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ فِي مُنْتَهِبِ الصُّرَّةِ يَخْتَلِفَانِ فِي عَدَدِهَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْتَهِبِ مَعَ يَمِينِهِ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ كِنَانَةَ وَابْنُ حَبِيبٍ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْتَهِبِ مِنْهُ مَعَ يَـمِينِهِ
– الشيخ : "الْمُنْتَهِبِ مِنْهُ"
– القارئ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْتَهَبِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ فِيمَا يُشْتَبَهُ وَيُحْتَمَلُ عَلَى الظَّالِمِ.
قَالَ مُطَرِّفٌ: وَمَنْ أَخَذَ مِنْ الْمُغِيرِينَ ضَمِنَ مَا أَخَذَهُ رِفَاقُهُ،
– الشيخ : لا إله إلا الله، مثل قُطاَّع الطريق.
– القارئ : قَالَ مُطَرِّفٌ: وَمَنْ أَخَذَ مِنْ الْمُغِيرِينَ ضَمِنَ مَا أَخَذَهُ رِفَاقُهُ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ عَوْنٌ لِبَعْضٍ، كَالسُّرَّاقِ وَالْمُحَارَبِينَ، وَلَوْ أَخَذُوا جَمِيعًا وَهُمْ أَمْلِيَاءُ، ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا يَنُوبُهُ، وَقَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ فِي الضَّمَانِ. قَالُوا: وَالْمُغِيرُونَ كَالْمُحَارَبِينَ إذَا شَهَرُوا السِّلَاحَ عَلَى وَجْهِ الْمُكَابَرَةِ: كَانَ ذَلِكَ عَلَى تَأْمِرَةٍ بَيْنَهُمْ،
– الشيخ : "تَأْمِرَةٍ" يعني: تآمر.
– القارئ : أَوْ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ، وَكَذَلِكَ وَالِي الْبَلَدِ يُغِيرُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ وِلَايَتِهِ وَيَنْتَهِبُ ظُلْمًا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمُغِيرِينَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ رَجُلَيْنِ غَصَبَا عَبْدًا فَمَاتَ، يَلزمُ أَخْذُ قِيمَتِهِ مِنْ الْمَلِيءِ، وَيَتْبَعُ الْمَلِيءُ ذِمَّةَ رَفِيقِهِ الْمُعْدمِ بِمَا يَنُوبُهُ. وَأَمَّا دَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ: فَقَالَ شَيْخُنَا رحمه الله: لَمَّا ادَّعَى وَرَثَةُ السَّهْمِيِّ الْجَامَ الْمُفَضَّضَ
– الشيخ : من هو شيخَنا؟ ها؟
– القارئ : ابنُ تيمية رحمه الله
– الشيخ : نعم
– القارئ : وَأَمَّا دَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ: فَقَالَ شَيْخُنَا -رحمه الله-: لَمَّا ادَّعَى وَرَثَةُ السَّهْمِيِّ الْجَامَ الْمُفَضَّضَ الْمُخُوصَ
– الشيخ : الْمُخُوصَ، الْمُخَوَّصَ، نعم "بالذهب" والا أيش؟
– القارئ : وَأَنْكَرَ الْوَصِيَّانِ الشَّاهِدَانِ أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ جَامٌ، فلما ظَهَرَ الْجَامُ الْمُدَّعَى، وَذَكَرَ مُشْتَرِيهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ الْوَصِيَّيْنِ: صَارَ هَذَا لَوْثًا يُقَوِّي دَعْوَى الْمُدَّعِيَيْنِ، فَإِذَا حَلَفَ الْأَوْلَيَانِ بِأَنَّ الْجَامَ كَانَ لِصَاحِبِهِمْ: صُدِّقَا فِي ذَلِكَ. وَهَذَا لَوْثٌ فِي الْأَمْوَالِ، نَظِيرُ اللَّوْثِ فِي الدِّمَاءِ، لَكِنْ هُنَاكَ رُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، بَعْدَ أَنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَصَارَتْ يَمِينُ الْمَطْلُوبِ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا، كَمَا أَنَّهُ فِي الدَّمِ لَا يُسْتَحْلَفُ ابْتِدَاءً، وَفِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ يُعْطَى الْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ حَالِفًا، أَوْ بَاذِلًا لِلْحَلِفِ.
وَفِي اسْتِحْلَافِ اللَّهِ لِلْأُولَيَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي الدَّمِ، حَتَّى تَصِيرَ يَمِينُ الْأُولَيَيْنِ مُقَابِلَةً لِيَمِينِ الْمَطْلُوبَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "حَلَفَا أَنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ"
كذا يا شيخنا؟
– الشيخ : يمكن، "لِصَاحِبِهِمْ" والا…؟
– القارئ : لِصَاحِبِهِمْ
– الشيخ : "حَلَفَا أَنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ"، أو لِصَاحِبِهِمَا، ماشي
– القارئ : وَفِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ: "ادَّعَيَا أَنَّهُمَا اشْتَرَيَاهُ مِنْهُ، فَحَلَفَ الْأُولَيَانِ؛ أَنَّهُمَا مَا كَتَمَا وَغَيَّبَا"، فَكَانَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ كَذِبُهُمَا بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ جَامٌ رُدَّتْ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعِيَيْنِ فِي جَمِيعِ مَا ادَّعَوْا. فَجِنْسُ هَذَا الْبَابِ: أَنَّ الْمَطْلُوبَ إذَا حَلَفَ، ثُمَّ ظَهَرَ كَذِبُهُ: هَلْ يُقْضَى لِلْمُدَّعِي بِيَمِينِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْمَشْرُوعَةَ فِي جَانِبِ الْأَقْوَى، فَإِذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْمُدَّعِي فِي الْبَعْضِ وَكَذِبُ الْمَطْلُوبِ: قَوِيَ جَانِبُ الْمُدَّعِي، فَحَلَفَ كَمَا يَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، وَكَمَا يَحْلِفُ صَاحِبُ الْيَدِ الْعُرْفِيَّةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْيَدِ الْحِسِّيَّةِ، انْتَهَى.
وَالْحُكْمُ بِاللَّوْثِ فِي الْأَمْوَالِ أَقْوَى مِنْهُ فِي الدِّمَاءِ، فَإِنَّ طُرُقَ ثُبُوتِهَا أَوْسَعُ مِنْ طُرُقِ ثُبُوتِ الدِّمَاءِ، فإنَّهَا تَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ،
– الشيخ : قفْ على هذا "واللَّوْث".. نعم إلى آخره بس [يكفي].