بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس التَّاسع والأربعون
*** *** *** ***
– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللَّهمَّ اغفرْ لنا ولشيخِنا وللمسلمينَ. قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في "الطُّرقِ الحكميَّةِ في السِّياسةِ الشَّرعيَّةِ":
الطَّرِيقُ الْحَادِيَ عَشَرَ: الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ: وَذَلِكَ -عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ- فِي كُلِّ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، كَعُيُوبِ النِّسَاءِ تَحْتَ الثِّيَابِ، وَالْبَكَارَةِ، وَالثُّيُوبَةِ، وَالْوِلَادَةِ، وَالْحَيْضِ، وَالرَّضَاعِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ تُقْبَلُ فِيهِ امْرَأَتَانِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَالثَّانِيَةُ -وَهِيَ أَشْهَرُ- أَنَّهُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالرَّجُلُ فِيهِ كَالْمَرْأَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ هَاهُنَا يَمِينًا.
وَظَاهِرُ نَصِّ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا يُفْتَقَرُ إلَى الْيَمِينِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا الرِّوَايَتَيْنِ فِي الرَّضَاعِ إذَا قَبِلْنَا فِيهِ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْبَابِ وَبَابِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ -حَيْثُ اُعْتُبِرَتْ الْيَمِينُ هُنَاكَ- أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، فَاكْتَفَى فيها بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَفِي بَابِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ: الشَّهَادَةُ عَلَى أُمُورٍ ظَاهِرَةٍ، يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ فِي الْغَالِبِ، فَإِذَا انْفَرَدَ بِهَا الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ اُحْتِيجَ إلَى تَقْوِيَتِهِ بِالْيَمِينِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِيَ عَشَرَ الْحُكْمُ بِثَلَاثَةِ رِجَالٍ: وَذَلِكَ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْفَقْرَ مَنْ عُرِفَ غِنَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا ثَلَاثَةُ شُهُودٍ، وَهَذَا مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَكْفِي فِيهِ شَاهِدَانِ.
وَاحْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِحَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أَسْأَلُهُ، فَقَالَ: (يَا قَبِيصَةُ أَقِمْ عِنْدَنَا حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَك بِهَا)، ثُمَّ قَالَ: (يَا قَبِيصَةُ إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يشهدَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ -أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ-) وذكرَ الحديثَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَصِّ أَحْمَدَ: هَلْ هُوَ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ؟
فَقَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا هَذَا فِي حِلِّ الْمَسْأَلَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَأَمَّا الْإِعْسَارُ فَيَكْفِي فِيهِ شَاهِدَانِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ نَقَلَ فِي الْإِعْسَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِثَلَاثَةٍ.
قُلْتُ: إذَا كَانَ فِي بَابِ أَخْذِ الزَّكَاةِ وَحِلِّ الْمَسْأَلَةِ يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ الْمَذْكُورُ، فَفِي بَابِ دَعْوَى الْإِعْسَارِ الْمُسْقِطِ لِأَدَاءِ الدُّيُونِ، وَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ: أَوْلَى وَأَحْرَى؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ بِمَالِهِ، وَفِي بَابِ الْمَسْأَلَةِ وَأَخْذِ الصَّدَقَةِ: الْمَقْصُودُ أَلَّا يَأْخُذَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، فَهُنَاكَ اُعْتُبِرَتْ الْبَيِّنَةُ؛ لِئَلَّا يَمْتَنِعَ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَهُنَا لِئَلَّا يَأْخُذَ الْمُحَرَّمَ، واللهُ أعلمُ.
الطَّرِيقُ الثَّالِثَ عَشَرَ الْحُكْمُ بِأَرْبَعَةِ رِجَالٍ أَحْرَارٍ:
وَذَلِكَ فِي حَدِّ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ، أَمَّا الزِّنَا: فَبِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا اللِّوَاطُ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ مَقِيسٌ عَلَيْهِ فِي نِصَابِ الشَّهَادَةِ، كَمَا هُوَ مَقِيسٌ عَلَيْهِ فِي الْحَدِّ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الزِّنَا، لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ، وَهَذَا لَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، فَقَالَ هَؤُلَاءِ: هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الزِّنَا شَرْعًا.
وقَالُوا: وَالْأَسْمَاءُ الشَّرْعِيَّةُ قَدْ تَكُونُ أَعَمَّ مِنْ اللُّغَوِيَّةِ وَقَدْ تَكُونُ أَخَصَّ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ هُوَ أَوْلَى بِالْحَدِّ مِنْ الزِّنَا؛ فَإِنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجٍ لَا يُسْتَبَاحُ بِحَالٍ، وَالدَّاعِي إلَيْهِ قَوِيٌّ، فَهُوَ أَوْلَى بِوُجُوبِ الْحَدِّ
– الشيخ : "وَالدَّاعِي إلَيْهِ"! كأنه ما هو بواضح، "الدَّاعِي إلَيْهِ قَوِيٌّ"! اللِّواطُ خلافُ الطبيعةِ البشريَّةِ الَّتي فُطِرَ عليها، فالأصلُ في الاستمتاع هو اتيانُ النِّساءِ، ولهذا قالَ لوطٌ لقومِهِ: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [الأعراف:80-81].
– القارئ : فَهُوَ أَوْلَى بِوُجُوبِ الْحَدِّ، فَيَكُونُ نِصَابُهُ نِصَابَ حَدِّ الزِّنَا.
وَقِيَاسُ قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى فِيهِ الْحَدَّ -بَلْ التَّعْزِيرَ- أَنْ يُكْتَفَى فِيهِ بِشَاهِدَيْنِ، كَسَائِرِ الْمَعَاصِي الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا، وَصَرَّحَتْ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ.
وَقِيَاسُ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ حَدَّهُ الْقَتْلَ بِكُلِّ حَالٍ -مُحْصَنًا كَانَ أَوْ بِكْرًا- أَنْ يُكْتَفَى فِيهِ بِشَاهِدَيْنِ كَالرِّدَّةِ وَالْمُحَارَبَةِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ -رضيَ اللهُ عنهم-، لَكِنْ صَرَّحُوا بِأَنَّ حَدَّ اللِّوَاطِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ عُقُوبَتَهُ عُقُوبَةُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَهُوَ الرَّجْمُ بِكُلِّ حَالٍ.
وَقَدْ يَحْتَجُّ عَلَى اشْتِرَاطِ نِصَابِ الزِّنَا فِي حَدِّ اللِّوَاطِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِقَوْمِ لُوطٍ: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل:54] وَقَالَ فِي الزِّنَا: وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء:15]
وَبِالْجُمْلَةِ: لَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَا أَوْ الرَّجْمَ بِكُلِّ حَالٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ أَوْ إقْرَارٍ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَزْمٍ: فَاكْتَفَيَا فِيهِ بِشَاهِدَيْنِ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا.
وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالْإِقْرَارِ بِهَا، فَهَلْ يُكْتَفَى فِيهِ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، فَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْأَرْبَعَةَ قَالَ: إقَامَةُ الْحَدِّ إنَّمَا مُسْتَندُهُ إلَى الْإِقْرَارِ. فَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ وَالْإِقْرَارُ يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، وَمَنْ اشْتَرَطَ الْأَرْبَعَةَ قَالَ: الْإِقْرَارُ كَالْفِعْلِ، فَكَمَا أَنَّنَا لَا نَكْتَفِي فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْفِعْلِ إلَّا بِأَرْبَعَةٍ، فَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الْقَوْلِ.
يُوَضِّحُهُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، فَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ الْمُوجِبُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَرْبَعَةٍ، فَالْقَوْلُ الْمُوجِبُ كَذَلِكَ.
قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَخِيرِ: الْفِعْلُ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ، وَالْقَوْلُ دَالٌّ عَلَى الْفِعْلِ الْمُوجِبِ، فَبَيْنَهُمَا مَرْتَبَةٌ.
قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ: لَا تَأْثِيرَ لِذَلِكَ، وَإِذَا كُنَّا لَا نَحُدُّهُ إلَّا بِإِقْرَارِ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ، فَلَا نَحُدُّهُ إلَّا بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ عَلَى الْإِقْرَارِ.
فَصْلٌ: وَأَمَّا إتْيَانُ الْبَهِيمَةِ، فَإِنْ قُلْنَا يُوجِبُ الْحَدَّ، لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِأَرْبَعَةٍ
– الشيخ : قفْ على هذا.