الرئيسية/شروحات الكتب/الطرق الحكمية في السياسة الشرعية/(60) فصل الحكم بالاستفاضة – فصل الأخبار احادا
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(60) فصل الحكم بالاستفاضة – فصل الأخبار احادا

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس الستون

***    ***    ***    ***

 

– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللهم اغفر لنا ولشيخنا ووالدينا والمسلمين. قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في كتابه: "الطُّرقِ الحكمية في السياسة الشرعية":

الطَّرِيقُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ الْحُكْمُ بِالِاسْتِفَاضَةِ:

هِيَ دَرَجَةٌ بَيْنَ التَّوَاتُرِ وَالْآحَادِ، فَالِاسْتِفَاضَةُ: هِيَ الِاشْتِهَارُ الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسُ، وَفَاضَ بَيْنَهُمْ.

– طالب: "يتحدَّثُ"

– الشيخ : "يتحدَّثُ" جيدٌ، "يتحدَّثُ" أحسن

– القارئ : عندي دون "التاء"، يُحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ

– الشيخ : لا، بس [يكفي]، "الَّذِي يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، يصيرُ شائعًا كلٌّ يُحدِّثُ الآخرَ

– القارئ : الَّذِي يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ وَفَاضَ بَيْنَهُمْ. وَقَدْ قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْأَخْبَارَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. آحَادٍ وَتَوَاتُرٍ، وَاسْتِفَاضَةٍ، وَجَعَلُوا الْمُسْتَفِيضَ مَرْتَبَةً بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ، وَخَصُّوا بِهِ عُمُومَ الْقُرْآنِ، وَقَالُوا: هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّوَاتُرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ قِسْمًا مِنْ أَقْسَامِ التَّوَاتُرِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْأَخْبَارِ يَجُوزُ اسْتِنَادُ الشَّهَادَةِ إلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ الزَّوْجُ عَلَيْهِ فِي قَذْفِ امْرَأَتِهِ وَلِعَانِهَا، إذَا اسْتَفَاضَ فِي النَّاسِ زِنَاهَا، وَيَجُوزُ اعْتِمَادُ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ.

قَالَ شَيْخُنَا فِي الذِّمِّيِّ: إذَا زَنَى بِالْمُسْلِمَةِ قُتِلَ، وَلَا يَرْفَعُ عَنْهُ الْقَتْلَ الْإِسْلَامُ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْمُسْلِمِ، بَلْ يَكْفِي اسْتِفَاضَةُ ذَلِكَ وَاشْتِهَارُهُ، هَذَا نَصُّ كَلَامِهِ.

وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ مِنْ أَظْهَرِ الْبَيِّنَاتِ، فَلَا يَتَطَرَّقُ إلَى الْحَاكِمِ تُهْمَةٌ إذَا اسْتَنَدَ إلَيْهَا؛ فَحُكْمُهُ بِهَا حُكْمٌ بِحُجَّةٍ لَا بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ الَّذِي يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ إذَا اسْتَفَاضَ فِي النَّاسِ صِدْقُهُ وَعَدَالَتُهُ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ لَفْظِ شَهَادَةٍ عَلَى الْعَدَالَةِ، وَيَرُدُّ شَهَادَتَهُ وَيَحْكُمُ بِفِسْقِهِ بِاسْتِفَاضَةِ فُجُورِهِ وَكَذِبِهِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُعْلَمُ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ الْجَارِحُ وَالْمُعَدِّلُ، يَجْرَحُ الشَّاهِدَ بِالِاسْتِفَاضَةِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَيُعَدِّلُهُ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّا نَشْهَدُ بِعَدَالَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَفِسْقِ الْحَجَّاجِ.

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْعِلْمِ الَّتِي تَنْفِي التُّهْمَةَ عَنْ الشَّاهِدِ وَالْحَاكِمِ، وَهِيَ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ مَقْبُولَيْنِ.

قالَ رحمَه الله:

الطَّرِيقُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ أَخْبَارُ الْآحَادِ: وَهُوَ أَنْ يُخْبِرَهُ عَدْلٌ يَثِقُ بِخَبَرِهِ وَيَسْكُنُ إلَيْهِ بِأَمْرٍ، فَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ فِيهِ، أَوْ يَقْطَعُ بِهِ لِقَرِينَةٍ بِهِ، فَيَحْمِلُ ذَلِكَ مُسْتَنِدًا لِحُكْمِهِ، وَهَذَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ وَالِاسْتِظْهَارِ بِلَا رَيْبٍ، وَلَكِنْ هَلْ يَكْفِي وَحْدَهُ فِي الْحُكْمِ، هَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ.

فَيُقَالُ: إمَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِخَبَرِهِ مَا يُفِيدُ مَعَهُ الْيَقِينَ أَمْ لَا، فَإِنْ اقْتَرَنَ بِخَبَرِهِ مَا يُفِيدُ مَعَهُ الْيَقِينَ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ، وَيُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الشَّهَادَةِ، بَلْ هُوَ شَهَادَةٌ مَحْضَةٌ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ ذِكْرُ لَفْظِ "أَشْهَدُ" بَلْ مَتَى قَالَ الشَّاهِدُ: رَأَيْتُ كَيْتَ وَكَيْتَ، أَوْ سَمِعْتُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ: كَانَتْ شَهَادَةٌ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَوْضِعٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ لَفْظِ "الشَّهَادَةِ"، وَلَا عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا قِيَاسَ، وَلَا اسْتِنْبَاطَ يَقْتَضِيهِ، بَلْ الْأَدِلَّةُ الْمُتَضَافِرَةُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَلُغَةِ الْعَرَبِ تَنْفِي ذَلِكَ.

وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُ نَصًّا.

قَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الأنعام:150] وَمَعْلُومٌ قَطْعًا: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ التَّلَفُّظَ بِلَفْظَةِ "أَشْهَدُ" فِي هَذَا، بَلْ مُجَرَّدُ الْإِخْبَارِ بِتَحْرِيمِهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ [النساء: 166] وَلَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ "أَشْهَدُ بِكَذَا".

وَقَالَ تَعَالَى: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ [الزخرف: 86] أَيْ: أَخْبَرَ بِهِ، وَتَكَلَّمَ بِهِ عَنْ عِلْمٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّوْحِيدُ.

وَلَا تَفْتَقِرُ صِحَّةُ الْإِسْلَامِ إلَى أَنْ يَقُولَ الدَّاخِلُ فِيهِ: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ" بَلْ لَوْ قَالَ: "لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" كَانَ مُسْلِمًا بِالِاتِّفَاقِ.

وَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) فَإِذَا تَكَلَّمُوا بِقَوْلِ: "لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ" حَصَلَتْ لَهُمْ الْعِصْمَةُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتُوا بِلَفْظِ "أَشْهَدُ"

وَقَالَ تَعَالَى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الحج:30-31] وَصَحَّ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ).

وَقَالَ: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَقَوْلُ الزُّورِ). وَفِي لَفْظٍ: (أَلَا، وَشَهَادَةُ الزُّورِ).

فَسَمَّى قَوْلَ الزُّورِ شَهَادَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ لَفْظُ "أَشْهَدُ".

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ -وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَقُلْ لِابْنِ عَبَّاسٍ "أَشْهَدُ" عِنْدَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَخْبَرَ به فَسَمَّاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ شَهَادَةً.

وَقَدْ تَنَاظَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ فِي الْعَشَرَةِ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- فَقَالَ عَلِيٌّ: أَقُولُ "هُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَلَا أَشْهَدُ بِذَلِكَ" بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ فِي ذَلِكَ خَبَرُ آحَادٍ، فَلَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَالشَّهَادَةُ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: "مَتَى قُلْتَ: هُمْ فِي الْجَنَّةِ، فَقَدْ شَهِدْتَ" حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَذَكَرَهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ.

فَكُلُّ مَنْ أَخْبَرَ بِشَيْءٍ فَقَدْ شَهِدَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِلَفْظِ "أَشْهَدُ". وَمِنْ الْعَجَبِ: أَنَّهُمْ احْتَجُّوا عَلَى قَبُولِ الْإِقْرَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [النساء:135]

قَالُوا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ إقْرَارِ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ، إنَّهُ لَا يُقْبَلُ الْإِقْرَارُ حَتَّى يَقُولَ الْمُقِرُّ "أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي" وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ شَهَادَةً.

قَالَ شَيْخُنَا رحمه الله تعالى: فَاشْتِرَاطُ لَفْظِ "الشَّهَادَةِ" لَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ إطْلَاقُ لَفْظِ "الشَّهَادَةِ" لُغَةً عَلَى ذَلِكَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَعَلَى هَذَا: فَلَيْسَ الْإِخْبَارُ طَرِيقًا آخَرَ غَيْرَ طَرِيقِ الشَّهَادَةِ.

الطَّرِيقُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ

– الشيخ : حسبُك، باركَ اللهُ بك

 

 

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :متفرقات