(61) فصل الحكم بالخط المجرد

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس الحادي والستون

***    ***    ***    ***

 

– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِهِ أجمعين. اللهمَّ اغفرْ لنا ولشيخِنا والوالدينا وللمسلمين. قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمه الله تعالى- في "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية:

الطَّرِيقُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: الْحُكْمُ بِالْخَطِّ الْمُجَرَّدِ.

وَلَهُ صُوَرٌ ثَلَاثٌ:

الصُّورَةُ الْأُولَى: أَنْ يَرَى الْقَاضِي حُجَّةً فِيهَا حُكْمُهُ لِإِنْسَانٍ، فَيَطْلُبُ مِنْهُ إمْضَاءَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَعَنْ أَحْمَدَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ،

– الشيخ : أعد الأول

– القارئ : الصُّورَةُ الْأُولَى: أَنْ يَرَى الْقَاضِي حُجَّةً فِيهَا

– الشيخ : يعني ورقة، تُسمَّى حُجة، يعني ورقةٌ مكتوبٌ فيها حكم، ورقةً فيها حجة

– طالب: مثل [….] الاستحكام؟

– الشيخ : إي مثل حُجج الاستحكام، تعبيرًا مِن بابِ تسميةِ، يعني مِن نوع المجاز، تسميةُ المحلِّ بما فيهِ، تقول: "خُذْ هذه وصية فلان"، الورقةُ تُسميها وصية، وتُسمِّيها حُجة؛ لأنَّها مُتضمنةٌ للوصية أو الحُجة.

– القارئ : أَنْ يَرَى الْقَاضِي حُجَّةً فِيهَا حُكْمُهُ لِإِنْسَانٍ، فَيَطْلُبُ مِنْهُ إمْضَاءَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَعَنْ أَحْمَدَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ:

إحْدَاهُنَّ: أَنَّهُ إذَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ خَطُّهُ نَفَّذَهُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا يُنَفِّذُهُ حَتَّى يَذْكُرَهُ.

وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي حِرْزِهِ وَحَفِظَهُ كمَنظرِهِ ونحوه نَفَّذَهُ، وَإِلَّا فَلَا.

– الشيخ : مَنْظرِهِ؟!

– القارئ : إي نعم يا شيخنا، يقول: "هكذا مُثْبتة -في الحاشية- مِن نسخةٍ أخرى"

– الشيخ : يعني كأنَّها مثل ما تقولُ: "محفظة"، شيءٌ تُحفَظُ به الأوراق، "إن كَانَ فِي حِرْزِهِ وَحَفِظَهُ كمنظره"، منظر هذه هي بواضحة.

– القارئ : قَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ: وَكَذَلِكَ الرِّوَايَاتُ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ: بِنَاءً عَلَى خَطِّهِ إذَا لَمْ يَذْكُرْهُ.

وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْخَطِّ، لَا فِي الْحُكْمِ وَلَا فِي الشَّهَادَةِ، وَفِي مَذْهَبِهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مَحْفُوظًا عِنْدَهُ، كَالرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ عَنْ أَحْمَدَ. وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالَ الْخَفَّافُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا وَجَدَ الْقَاضِي فِي دِيوَانِهِ شَيْئًا لَا يَحْفَظُهُ -كَإِقْرَارِ الرَّجُلِ بِحَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ- وَهُوَ لَا يَذْكُرُ ذَلِكَ وَلَا يَحْفَظُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِذَلِكَ، وَلَا يُنَفِّذُهُ حَتَّى يَذْكُرَهُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: مَا وَجَدَهُ الْقَاضِي فِي دِيوَانِهِ مِنْ شَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ، أَوْ إقْرَارَ رَجُلٍ لِرَجُلٍ بِحَقٍّ، وَالْقَاضِي لَا يَحْفَظُ ذَلِكَ وَلَا يَذْكُرُهُ- فَإِنَّهُ يُنفِذُ ذَلِكَ، وَيَقْضِي بِهِ، إذَا كَانَ تَحْتَ خَاتَمِهِ مَحْفُوظًا، لَيْسَ كُلُّ مَا فِي دِيوَانِ الْقَاضِي يَحْفَظُهُ.

وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ: فَقَالَ فِي "الْجَوَاهِرِ": لَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْخَطِّ إذَا لَمْ يَذْكُرْ، لِإِمْكَانِ التَّزْوِيرِ عَلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ: إذَا وَجَدَ فِي دِيوَانِهِ حُكْمًا بِخَطِّهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ: لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ، إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ.

قَالَ: وَإِذَا نَسِيَ الْقَاضِي حُكْمًا حَكَمَ بِهِ، فَشَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَضَى بِهِ: نَفَذَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ.

وعَن مالكٍ أنَّه لا يلتفتُ إلى البينةِ بذلكَ ولا يحكمُ بها.

وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهَا، بَلْ إجْمَاعُ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَاطِبَةً عَلَى اعْتِمَادِ الرَّاوِي عَلَى الْخَطِّ الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ، وَجَوَازِ التَّحْدِيثِ بِهِ

– الشيخ : وهو ضَبط..، يقولون: إنَّ الضبط نوعانِ: ضَبطُ صدرٍ، وضَبطُ كتابٍ، فإذا كانَ الراوي ضابطًا لكتابِه وحافظًا لكتابِه صحَّ أن يُعوِّل عليهِ ويروي ما فيه.

 

– القارئ : إلَّا خِلَافًا شَاذًّا لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى ذَلِكَ لَضَاعَ الْإِسْلَامُ الْيَوْمَ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَيْسَ بِأَيْدِي النَّاسِ -بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ- إلَّا هَذِهِ النُّسَخُ الْمَوْجُودَةُ مِنْ السُّنَنِ، وَكَذَلِكَ كُتُبُ الْفِقْهِ: الِاعْتِمَادُ فِيهَا عَلَى النُّسَخِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَبْعَثُ كُتُبَهُ إلَى الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ، وَتَقُومُ بِهَا حُجَّتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ يُشَافِهُ رَسُولًا بِكِتَابِهِ بِمَضْمُونِهِ قَطُّ، وَلَا جَرَى هَذَا فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَلْ يَدْفَعُ الْكِتَابَ مَخْتُومًا، وَيَأْمُرُهُ بِدَفْعِهِ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ بِسِيرَتِهِ وَأَيَّامِهِ.

وَفِي الصَّحِيحين عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ). وَلَوْ لَمْ يَجُزْ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْخَطِّ لَمْ تَكُنْ لِكِتَابَةِ وَصِيَّةٍ فَائِدَةٌ.

قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَمُوتُ، وَتُوجَدُ لَهُ وَصِيَّةٌ تَحْتَ رَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَشْهَدَ عَلَيْهَا، أَوْ أَعْلَمَ بِهَا أَحَدًا، هَلْ يَجُوزُ إنْفَاذُ مَا فِيهَا؟ قَالَ: إنْ كَانَ قَدْ عُرِفَ خَطُّهُ، وَكَانَ مَشْهُورَ الْخَطِّ: فَإِنَّهُ يَنْفُذُ مَا فِيهَا.

وَقَدْ نَصَّ فِي الشَّهَادَةِ: أَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْهَا وَرَأَى خَطَّهُ: لَا يَشْهَدُ حَتَّى يَذْكُرَهَا.

وَنَصَّ فِيمَنْ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ وَقَالَ: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهَا: أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ إلَّا أَنْ يَسْمَعُوهَا مِنْهُ، أَوْ تُقْرَأَ عَلَيْهِ فَيُقِرُّ بِهَا.

فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ حُكْمَ الْأُخْرَى، وَجَعَلَ فِيهَا وَجْهَيْنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْ التَّخْرِيجِ، وَأَقَرَّ النَّصَّيْنِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا.

وَاخْتَارَ شَيْخُنَا التَّفْرِيقَ، قَالَ: وَالْفَرْقُ: أَنَّهُ إذَا كَتَبَ وَصِيَّتَهُ، وَقَالَ: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ، لِجَوَازِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْوَصِيَّةِ وَيُنْقِصَ وَيُغَيِّرَ، وَأَمَّا إذَا كَتَبَ وَصِيَّتَهُ ثُمَّ مَاتَ، وَعَرَفَ أَنَّهُ خَطُّهُ، فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِهِ لِزَوَالِ هَذَا الْمَحْذُورِ.

وَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ كَالنَّصِّ فِي جَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى خَطِّ الْمُوصِي، وَكُتُبِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى عُمَّالِهِ وَإِلَى الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ، فَهِيَ كَاللَّفْظِ، وَلِهَذَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ.

قَالَ الْقَاضِي: وَثُبُوتُ الْخَطِّ فِي الْوَصِيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُعَايَنَةِ الْبَيِّنَةِ، أَوْ الْحَاكِمِ لِفِعْلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهَا عَمَلٌ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْعَمَلِ طَرِيقُهَا الرُّؤْيَةُ.

وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: "إنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ خَطَّهُ وَكَانَ مَشْهُورَ الْخَطِّ، يَنْفُذُ مَا فِيهَا" يَرُدُّ مَا قَالَهُ الْقَاضِي، فَإِنَّ أَحْمَدَ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْمَعْرِفَةِ وَالشُّهْرَةِ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِمُعَايَنَةِ الْفِعْلِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ الْقَصْدَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِنِسْبَةِ الْخَطِّ إلَى كَاتِبِهِ، فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ وَتَيَقَّنَ كَانَ كَالْعِلْمِ بِنِسْبَةِ اللَّفْظِ إلَيْهِ، فَإِنَّ الْخَطَّ دَالٌّ عَلَى اللَّفْظِ، وَاللَّفْظَ دَالٌّ عَلَى الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ، وَغَايَةُ مَا يُقدَّرُ: اشْتِبَاهُ الْخُطُوطِ، وَذَلِكَ كَمَا يَعْرِضُ مِنْ اشْتِبَاهِ الصُّوَرِ وَالْأَصْوَاتِ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِخَطِّ كُلِّ كَاتِبٍ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ خَطِّ غَيْرِهِ كَتَمَيُّزِ صُورَتِهِ عن صورَتِهِ عَنْ صُورَتِهِ وَصَوْتِهِ، وَالنَّاسُ يَشْهَدُونَ شَهَادَةً -لَا يَسْتَرِيبُونَ فِيهَا- أَنَّ هَذَا خَطُّ فُلَانٍ، وَإِنْ جَازَتْ مُحَاكَاتُهُ وَمُشَابَهَتُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ فَرْقٍ، وَهَذَا أَمْرٌ يَخْتَصُّ بِالْخَطِّ الْعَرَبِيِّ، وَوُقُوعُ الِاشْتِبَاهِ وَالْمُحَاكَاةِ لَوْ كَانَ مَانِعًا لَمَنَعَ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ عِنْدَ مُعَايَنَتِهِ إذَا غَابَ عَنْهُ، لِجَوَازِ الْمُحَاكَاةِ.

دَلَّتْ الْأَدِلَّةُ الْمُتَضَافِرَةُ -الَّتِي تَقْرَبُ مِنْ الْقَطْعِ- عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْأَعْمَى فِيمَا طَرِيقُهُ السَّمْعُ إذَا عَرَفَ الصَّوْتَ، مَعَ أَنَّ تَشَابُهَ الْأَصْوَاتِ -إنْ لَمْ يَكُنْ أَعْظَمَ مِنْ تَشَابُهِ الْخُطُوطِ- فَلَيْسَ دُونَهُ.

وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ بِأَنَّ الْوَارِثَ إذَا وَجَدَ فِي دَفْتَرِ مُوَرِّثِهِ، أَنَّ لِي عِنْدَ فُلَانٍ كَذَا، جَازَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ، وَأَظُنُّهُ مَنْصُوصًا عَنْهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ فِي دَفْتَرِهِ: أَنْ أَدَّيْتُ إلَى فُلَانٍ مَالَهُ عَلَيَّ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ إذَا وَثِقَ بِخَطِّ مُوَرِّثِهِ وَأَمَانَتِهِ.

وَلَمْ يَزَلْ الْخُلَفَاءُ وَالْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْعُمَّالُ يَعْتَمِدُونَ عَلَى كُتُبِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ، وَلَا يُشْهِدُونَ متحمِّلُها عَلَى مَا فِيهَا، وَلَا يَقْرَءُونَهَا عَلَيْهِ، هَذَا عَمَلُ النَّاسِ مِنْ زَمَنِ نَبِيِّهِمْ إلَى الْآنِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ": "بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ الْمَخْتُومِ، وَمَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُضَيَّقُ عَلَيْهِ، وَكِتَابُ الْحَاكِمِ إلَى عُمَّالِهِ، وَالْقَاضِي إلَى الْقَاضِي".

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كِتَابُ الْحَاكِمِ جَائِزٌ إلَّا فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطًأ، لِأَنَّ هَذَا مَالٌ يَزْعُمُهُ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالًا بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ، فَالْخَطَأُ وَالْعَمْدُ وَاحِدٌ.

وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إلَى عَامِلِهِ فِي الْحُدُودِ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي سِنٍّ كُسِرَتْ.

وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي جَائِزٌ إذَا عَرَفَ الْكِتَابَ وَالْخَاتَمَ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يُجِيزُ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْقَاضِي، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ.

وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الثَّقَفِيُّ: شَهِدْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ يَعْلَى -قَاضِيَ الْبَصْرَةِ- وَإِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، وَالْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، وَثُمَامَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، وَبِلَالَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُرَيْدَةَ، وَعَامِرَ بْنَ عُبَيْدَةَ، وَعَبَّادَ بْنَ مَنْصُورٍ يُجِيزُونَ كُتُبَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ، فَإِنْ قَالَ الَّذِي جِيءَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ: إنَّهُ زُورٌ، قِيلَ لَهُ: اذْهَبْ فَالْتَمِسْ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ.

وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ: ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَسِوَارُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ قَالَ: جِئْتُ بِكِتَابٍ مِنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةَ: أَنَّ لِي عِنْدَ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا -وَهُوَ بِالْكُوفَةِ- فَجِئْتُ بِهِ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَجَازَهُ.

وَكَرِهَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو قِلَابَةَ: أَنْ يَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّةٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي، لَعَلَّ فِيهَا جَوْرًا، وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى أَهْلِ خَيْبَرَ (إمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ تُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ). انتهـى كَلَامُهُ.

وَأَجَازَ مَالِكٌ الشَّهَادَةَ عَلَى الْخُطُوطِ، فَرَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ -فِي الرَّجُلِ يَقُومُ بِذِكْرِ حَقٍّ قَدْ مَاتَ شُهُودُهُ، وَيَأْتِي بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ عَلَى خَطِّ كَاتِبِ الْخَطِّ- قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى كتابِ الكاتبِ إذَا كَانَ عَدْلًا، مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ.

وَذَكَرَ ابْنُ شَعْبَانَ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا آخُذُ بِقَوْلِ مَالِكٍ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: خَالَفَ مَالِكٌ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَعُدَّ قَوْلَهُ شُذُوذًا.

قَالَ ابْنُ الْحَارِثِ: الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ خَطَأٌ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ قَالَ: سَمِعْتُ فُلَانًا يَقُولُ: رَأَيْتُ فُلَانًا قَتَلَ فُلَانًا، أَوْ قَالَ: سَمِعْتُ فُلَانًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ قَذَفَهَا: أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ إلَّا أَنْ يُشْهِدَهُ، فالْخَطُّ أَبْعَدُ مِنْ هَذَا وَأَضْعَفُ.

قَالَ: وَلَقَدْ قُلْتُ لِبَعْضِ الْقُضَاةِ: أَتُجَوِّزُ شَهَادَةَ الْمَوْتَى؟ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي تَقُولُ؟ فَقُلْتُ: إنَّكُمْ تُجِيزُونَ شَهَادَةَ الرَّجُلِ بَعْدَ مَوْتِهِ إذَا وَجَدْتُمْ خَطَّهُ فِي وَثِيقَةٍ، فَسَكَتَ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا يُقْضَى فِي دَهْرِنَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا ضُرُوبًا مِنْ الْفُجُورِ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي النَّاسِ: تَحْدُثُ لَهُمْ أَقْضِيَةُ عَلَى نَحْوِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ.

وَقَدْ رَوَى لِي نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ: إجَازَةُ الْخَوَاتِمِ، حَتَّى إنَّ الْقَاضِيَ لَيَكْتُبَ لِلرَّجُلِ الْكِتَابَ فَمَا يَزِيدُ عَلَى خَتْمِهِ، فَيَعْمَلُ بِهِ، حَتَّى اُتُّهِمَ النَّاسُ، فَصَارَ لَا يُقْبَلُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ. اهـ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ

– الشيخ : إلى هنا

– القارئ : أحسنَ الله إليك .

 

info

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :متفرقات