الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة ص/(1) من قوله تعالى {ص} الآية 1 إلى قوله تعالى {جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} الآية 11
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(1) من قوله تعالى {ص} الآية 1 إلى قوله تعالى {جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} الآية 11

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  ص

الدَّرس: الأوَّل

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ [ص:1-11]

– الشيخ : إلى هنا، سبحان الله، الحمدُ للهِ، هذه السورةُ سورةُ "ص" سُمِّيَتْ بالحرف الَّذي افتُتِحَتْ به، ص هذا أحدُ الحروفِ المقطَّعةِ، فالمفتتحةُ بالحروفِ المقطَّعةِ منها ما افتُتِحَتْ بحرفٍ كهذه السورةِ و "ن"، وبحرفين كـ "يس" و "طس" و "طه"، ومنها ما افتُتِحَ بأكثر من ذلك، ثلاثة حروفٍ وأربعة وخمسة، "حم" "عسق".

{وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} قسمٌ من اللهِ بالقرآنِ، كما أقسمَ بالقرآنِ في السورةِ الَّتي قبل: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1-2] وهنا قالَ: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}

{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} الكافرون المتكبِّرون يتعاظمون على الرسول وعلى المسلمين ويشاقّون الدِّينَ، {فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} {كَمْ أَهْلَكْنَا} وفي هذا تهديدٌ لأولئكَ الكافرين المستكبِّرين {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} لما جاءَهم بأسُ اللهِ صاروا يتنادون وينادونَ، يطلبون الخلاصَ، وهيهاتَ لا مناصَ ولا محيدَ، {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}

{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} هؤلاءِ -واللهُ أعلمُ- المرادُ بهم كفَّارُ قريشٍ ومن معهم، {عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} كما جاءَ هذا المعنى في آياتٍ كثيرةٍ، {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق:1-2] الرسولُ منهم يعرفونه ويعرفونَ سيرتَه، وهذه سنَّةُ الكافرين، يستنكرونَ أنْ يأتيَهم بشرٌ ويتعنّتون، ويطلبون لو جاءَهم ملكٌ، كيف؟ {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [فصلت:14] آمنْتُ بالله ورسوله.

{وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} هم يعبدون آلهةً كثيرةً متعدِّدةً، فلمَّا جاءَهم الرسولُ ودعاهم إلى عبادة اللهِ وحدَه لا شريكَ له، وقالَ لهم: قولوا "لا إلهَ إلَّا الله" استكبروا، {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] قالوا: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} يعجبون من الدعوةِ إلى التوحيد، ويشمئزّون من ذلك، {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء:46] {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}

{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} يتواصون بالثباتِ على الشركِ، يتواصون بالثبات، {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} وقد كذبوا، فالرسلُ كلُّهم جاؤُوا بالتوحيد، من أوَّلهم إلى آخرهم، {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} يعني: كذبٌ.

{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} أيضاً هذه شبهةٌ داحضةٌ، يقولونَ: كيف ينزلُ عليهِ هذا الذكرُ، هذا الذكرُ مزعومٌ في نظرِهم، لكنَّهم يقولون: هذا الذكرُ الذي يدَّعيه الرسولُ أُنزِلَ عليه خاصَّةً من بيننا؟ يعني ما فضلُه علينا؟ نعم يا محمَّد.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:

تفسيرُ سورةِ ص، وهيَ مكِّيَّةٌ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} الآياتَ:

هذا بيانٌ مِن اللهِ تعالى لحالِ القرآنِ، وحالِ المكذِّبينَ بهِ معَهُ ومعَ مَن جاءَ بهِ، فقالَ: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} أي: ذي القدرِ العظيمِ والشَّرفِ، المُذَكِّرِ للعبادِ كلَّ ما يحتاجونَ إليهِ مِن العلمِ، بأسماءِ اللهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ

الشيخ : اللهُ المستعانُ، الذكرُ يأتي بمعانٍ، ومنها التذكيرُ، ومنها الشرفُ، الشيخُ نبَّهَ على المعنيَينِ، فالقرآنُ ذو ذكرٍ، ذو شرفٍ وفضلٍ، اللهُ نزّلَ أحسنَ الحديثِ، وفيه التذكيرُ للعباد.

 

القارئ : ومِن العلمِ بأحكامِ اللهِ الشَّرعيَّةِ، ومِن العلمِ بأحكامِ المعادِ والجزاءِ، فهوَ مُذكِّرٌ لهم في أصولِ دينِهم وفروعِهِ.

وهنا لا يحتاجُ إلى ذكرِ المقسمِ عليهِ، فإنَّ حقيقةَ الأمرِ، أنَّ المُقسَمَ بهِ وعليهِ شيءٌ واحدٌ، وهوَ هذا القرآنُ، الموصوفُ

الشيخ : لا إله إلَّا الله، على كلِّ حالٍ الإقسامُ بالشيء يدلُّ على عِظم شأنه، واللهُ يقسمُ بنفسِه، ويقسمُ بصفاته، ويقسمُ بكلامِه كما أقسمَ بالقرآنِ في غيرِ موضعٍ، أقسمَ بالقرآنِ في هذه السورةِ وفي سورةِ "يس" وفي سورة "ق"، وفي سورة…، والكتاب، في سورةِ "الزخرفِ"، سورة "الدخان"، كلُّها فيها يعني تُفتتَحُ بالقسم بالقرآن، بلفظِ القرآنِ أو بلفظِ الكتابِ.

 

القارئ : وهوَ هذا القرآنُ، الموصوفُ بهذا الوصفِ الجليلِ، فإذا كانَ القرآنُ بهذا الوصفِ، عُلِمَ ضرورةُ العبادِ إليهِ، فوقَ كلِّ ضرورةٍ، وكانَ الواجبُ عليهم تَلقِّيهِ بالإيمانِ والتَّصديقِ، والإقبالِ على استخراجِ ما يُتذكَّرُ بهِ منهُ.

فهدى اللهُ مَن هدى لهذا، وأبى الكافرونَ بهِ وبمَن أنزلَهُ، وصارَ معَهم {عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} عزَّةٌ وامتناعٌ عن الإيمانِ بهِ، واستكبارٌ وشقاقٌ لهُ

الشيخ : لعلَّ هذا يشبهُ قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة:206] {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} يمتنع من قبول الحقِّ اعتزازاً بنفسه وتعارضاً وكِبراً، نعم {فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}

 

القارئ : وامتناعاً عن الإيمانِ بهِ، واستكباراً وشقاقاً لهُ، أي: مشاقَّةً ومخاصمةً في ردِّهِ وإبطالِهِ، وفي القدحِ بمَن جاءَ بهِ.

فتوعَّدَهم بإهلاكِ القرونِ الماضيةِ المكذِّبةِ بالرُّسلِ، وأنَّهم حينَ جاءَهم الهلاكُ، نادَوا واستغاثُوا في صرفِ العذابِ عنهم ولكنْ {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} أي: وليسَ الوقتُ، وقتَ خلاصٍ ممَّا وقعُوا فيهِ، ولا فرجَ لما أصابَهم، فَلْيَحْذَرْ هؤلاءِ أنْ يدومُوا على عزَّتِهم وشقاقِهم، فيصيبُهم ما أصابَهم.

{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} أي: عجبَ هؤلاءِ المكذِّبونَ في أمرٍ ليسَ محلَّ عجبٍ، أنْ جاءَهم منذرٌ منهم، ليتمكَّنُوا مِن التَّلقِّي عنهُ، وليعرفوهُ حقَّ المعرفةِ، ولأنَّهُ مِن قومِهم، فلا تأخذُهم النَّخوةُ القوميَّةُ عن اتِّباعِهِ، فهذا ممَّا يوجبُ الشُّكرَ عليهم، وتمامَ الانقيادِ لهُ.

ولكنَّهم عكسُوا القضيَّةَ، فتعجَّبُوا تعجُّبَ إنكارٍ وَقَالُوا مِن كفرِهم وظلمِهم: {هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}

وذنبُهُ -عندَهم- أنَّهُ {جَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} أي: كيفَ يَنهَى عن اتِّخاذِ الشُّركاءِ والأندادِ، ويأمرُ بإخلاصِ العبادةِ للهِ وحدَهُ. {إِنَّ هَذَا} الَّذي جاءَ بهِ {لَشَيْءٌ عُجَابٌ} أي: يُقضَى منهُ العجبُ لبطلانِهِ وفسادِهِ.

{وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ} المقبولُ قولُهم، محرِّضينَ قومَهم على التَّمسُّكِ بما هم عليهِ مِن الشِّركِ.

الشيخ : يُقضَى منه العجبُ؟ كذا عندك؟ ولا: لا يُقضَى منه العجبُ؟

القارئ : {لَشَيْءٌ عُجَابٌ} أي: يُقضَى منهُ العجبُ لبطلانِهِ

الشيخ : نعم.. بعده بعده بس امشِ

القارئ : {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ} المقبولُ قولُهم، محرِّضينَ قومَهم على التَّمسُّكِ

الشيخ : الملأُ في آياتٍ معناه: الأشرافُ والكبراءُ الَّذين يتبعُهم غيرُهم، فهم متبوعون مطاعون، ومن سواهم تابعون، هذه حالُ الناسِ، حالُ الناسِ، الناسُ طبقتان: طبقةُ الكبار، إمَّا بالمالِ أو بالجاهِ والسلطانِ، وطبقةُ الأتباعِ، والغالبُ على الكبارِ أنَّهم لا يقبلون الحقَّ، هذا هو الغالبُ على الكبارِ، وأمَّا الضعفاءُ فمنهم من يتبعُ هؤلاء المستكبرين فيهلكُ، فيهلكُ بهم، بهلاكهم، ومن الضعفاءِ من لا يغترُّ بأولئك المستكبرين، بل ينظرُ في الأمرِ الَّذي عُرِضَ عليه، فيقبلُ الحقَّ ويردُّ الباطلَ.

كما هو الجاري في الأممِ، أكثرُ أتباعِ الأنبياءِ هم الضعفاء، حتَّى أنَّهم يطالبون الرسولَ بأنْ يطردَ هؤلاء الضعفاءَ المستضعفين الَّذين آمنوا به وصاروا حولَه وصاروا أصحاباً له، طلبُوا هذا من نوحٍ ومن غيرِه، ومن النبيِّ -عليه الصلاةُ والسَّلامُ- من نبيِّنا، طلبَ منه الوجهاءُ والكبراءُ أن يطردَ هؤلاء المستضعفين، قالَ اللهُ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28] {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:52]

 

القارئ : {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ} المقبولُ قولُهم، محرِّضينَ قومَهم على التَّمسُّكِ بما هم عليهِ مِن الشِّركِ. {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} أي: استمرُّوا عليها، وجاهدُوا نفوسَكم في الصَّبرِ عليها وعلى عبادتِها

الشيخ : أعوذُ بالله، أعوذُ بالله، يتواصون بالباطلِ، وهذا دأبُ أهلِ الباطل، يدعون إليه ويحثُّون عليه ويوصون بالصبرِ عليه.

القارئ : ولا يردُّكم عنها رادٌّ، ولا يصدَّنَّكم عن عبادتِها صادٌّ. {إِنَّ هَذَا} الَّذي جاءَ بهِ محمَّدٌ، مِن النَّهيِ عن عبادتِها {لَشَيْءٌ يُرَادُ} أي: يُقصَدُ، أي: لهُ قصدٌ ونيَّةٌ غيرُ صالحةٍ في ذلكَ، وهذهِ شبهةٌ لا تروجُ إلَّا على السُّفهاءِ، فإنَّ مَن دعا إلى قولِ حقٍّ أو غيرِ حقٍّ، لا يُرَدُّ قولُهُ بالقدحِ في نيَّتِهِ، فنيَّتُهُ وعملُهُ لهُ، وإنَّما يُرَدُّ بمقابلتِهِ بما يبطلُهُ ويفسدُهُ، مِن الحججِ والبراهينِ، وهم قصدُهم أنَّ محمَّداً ما دعاكم إلى ما دعاكم إلَّا ليرأسَ فيكم، ويكونَ مُعظَّماً عندَكم، متبوعاً.

{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} القولِ الَّذي قالَهُ، والدِّينِ الَّذي دعا إليهِ {فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} أي: في الوقتِ الأخيرِ، فلا أدركْنا عليهِ آباءَنا، ولا آباؤُنا أدركُوا آباءَهم عليهِ، فامضُوا على الَّذي مضى عليهِ آباؤُكم، فإنَّهُ الحقُّ، وما هذا الَّذي دعا إليهِ محمَّدٌ إلَّا اختلاقٌ اختلقَهُ، وكذبٌ افتراهُ، وهذهِ أيضاً شبهةٌ مِن جنسِ شبهتِهم الأولى، حيثُ ردُّوا الحقَّ بما ليسَ بحجَّةٍ لردِّ أدنى قولٍ، وهوَ أنَّهُ قولٌ مخالفٌ لما عليهِ آباؤُهم الضَّالُّونَ، فأينَ في هذا ما يدلُّ على بطلانِهِ؟

{أَأنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} أي: ما الَّذي فضَّلَهُ علينا، حتَّى ينزلَ الذِّكرُ عليهِ مِن دونِنا، ويخصُّهُ اللهُ بهِ؟ وهذهِ أيضاً شبهةٌ، أينَ البرهانُ فيها على ردِّ ما قالَهُ؟ وهل جميعُ الرُّسلِ إلَّا بهذا الوصفِ، يَمُنُّ اللهُ عليهم برسالتِهِ، ويأمرُهم بدعوةِ الخلقِ إلى اللهِ، ولهذا، لمَّا كانَتْ هذهِ الأقوالُ الصَّادرةُ منهم لا يصلحُ شيءٌ منها لردِّ ما جاءَ بهِ الرَّسولُ، أخبرَ تعالى مِن أينَ صدرَتْ، وأنَّهم {فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} ليسَ عندَهم علمٌ ولا بيِّنةٌ.

فلمَّا وقعُوا في الشَّكِّ وارتضَوا بهِ، وجاءَهم الحقُّ الواضحُ، وكانُوا جازمينَ بإقامتِهم على شكِّهم، قالُوا ما قالُوا مِن تلكَ الأقوالِ لدفعِ الحقِّ، لا عن بيِّنةٍ مِن أمرِهم، وإنَّما ذلكَ مِن بابِ الائتفاكِ منهم.

ومِن المعلومِ، أنَّ مَن هوَ بهذهِ الصِّفةِ يتكلَّمُ عن شكٍّ وعنادٍ، فإنَّ قولَهُ غيرُ مقبولٍ، ولا قادحٌ أدنى قدحٍ في الحقِّ، وأنَّه يتوجَّهُ عليهِ الذَّمُّ واللَّومُ بمجرَّدِ كلامِهِ، ولهذا توعَّدَهم بالعذابِ فقالَ: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} أي: قالُوا هذهِ الأقوالَ، وتجرَّؤُوا عليها، حيثُ كانُوا ممتَّعينَ في الدُّنيا، لم يصبْهم مِن عذابِ اللهِ شيءٌ، فلو ذاقُوا عذابَهُ، لم يتجرَّؤُوا.

{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} فيُعطُونَ منها مَن شاؤُوا، ويمنعونَ منها مَن شاؤُوا، حيثُ قالُوا: {أَأُنزل عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} أي: هذا فضلُهُ تعالى ورحمتُهُ، وليسَ ذلكَ بأيديهم حتَّى يتجرَّؤُوا على اللهِ.

{أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} بحيثُ يكونونَ قادرينَ على ما يريدونَ. {فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ} الموصِلةِ لهم إلى السَّماءِ، فيقطعُوا الرَّحمةَ عن رسولِ اللهِ، فكيفَ يتكلَّمونَ، وهم أعجزُ خلقِ اللهِ وأضعفُهم بما تكلَّمُوا بهِ؟! أم قصدُهم التَّحزُّبُ والتَّجنُّدُ، والتَّعاونُ على نصرِ الباطلِ وخذلانِ الحقِّ؟ وهوَ الواقعُ فإنَّ هذا المقصودَ لا يتمُّ لهم، بل سعيُهم خائبٌ، وجندُهم مهزومٌ، ولهذا قالَ: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ}

الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله وحدَه لا شريكَ له، لا إله إلّا الله، لا إله إلَّا الله.